هل الانتحار مُعدٍ؟ – تأثير فيرتر Werther Effect

التقيت بمصطلح تأثير فيرتر werther effect  لأول مرّة أثناء مطالعتي قصة “يوم الأحد الكئيب” للدكتور أحمد خالد توفيق -رحمةُ الله عليه- الواردة بمجموعته القصصيّة ” الآن نفتح الصندوق“. وكدأب كتابات هذا الأديب المبدع، تحمَّستُ للبحث على الشبكة العنكبوتيّة عن هذا المصطلح الغريب، فكل ما كنت أعرفه آنذاك أن “فرتر” هذا هو بطل قصة شهيرة للكاتب الألماني العظيم “جوته”.

ومن عجيب الصُّدف، أنه أثناء قراءتي لهذا الكتاب، تحديدًا في عام ٢٠١١، تصاعدت حالات الانتحار بإشعال النار في النَّفس على إثر قيام الشاب التونسي “بوعزيزي” بإشعال النَّار في نفسه احتجاجًا على أوضاعٍ اجتماعيَّةٍ واقتصاديّةٍ ظالمة، حرقته قبل أنْ يحرق نفسه، مُشعلًا بذلك شرارة ثورات الربيع العربي. ولقد بدا لي الأمر آنذاك كأنَّه عدوى تنتقل من المنتحر إلى بقيّة الأشخاص الأكثر ميلًا للانتحار لأسبابٍ عديدة، والتي رصدها العديد من علماء الاجتماع المعنيين بدراسة هذه الظاهرة تحت مصطلحٍ عريضٍ اسمه تأثير التقليد copycat effect. وتضم حالات التفجيرات الانتحاريَّة وإطلاق الرَّصاص في المدارس الأمريكيَّة، والانتحار الجماعي في الجماعات الدينية الغريبة بالمجتمعات الغربيَّة، فضلًا عن دور وسائل الإعلام في ترويج هذه الظاهرة.

وعلى الرغم من الرصد العلمي المبكر لظاهرة عدوى الانتحار، فإنَّها لم تخضع للدراسة بشكلٍ رسمي ومُحدَّد إلّا في عام ١٩٧٤، على أيدي عالم الاجتماع الأمريكي الشهير دافيد فيلبس والأستاذ بجامعة كاليفورنيا، والذي صاغ -توصيفًا لهذه الحالة- مصطلح “تأثير فيرتر Werther Effect”، وذلك في دراسة بعنوان “تأثير الإيحاء على الانتحار: التداعيات النظرية والواقعية لـ”تأثير فيرتر” Influence of Suggestion on Suicide: Substantive and Theoretical Implications of the Werther Effect”. ولقد برهن “فيليبس” بإحصاءاتٍ عديدة على صحة هذه الظاهرة، مؤكدًا على أنَّ التغطية الإعلامية الكبيرة وتكرار نشر التفاصيل الخاصة بحالات الانتحار تؤدي إلى زيادة حالات الانتحار؛ حيث يؤدي ذلك إلى تشجيع الفئات الهشَّة والأكثر عرضة لمخاطر الانتحار.

تأثير فيرتر: حكاية اسم

اختار “فيلبس” تسمية هذه الظاهرة باسم تأثير فيرتر Werther Effect على اسم “فيرتر” ذلك الشاب الرَّقيق المثقف بطل رواية “آلام فيرتر” التي صدرت الطبعة الأولى منها في عام عام ١٩٧٤، وهي من تأليف الكاتب الألماني العظيم (چوهان ڤولفانج جوته) مؤلف مسرحية “فاوست” كما تعرفون جميعًا. في هذه القصة، يقع الشاب فرتر في غرام امرأةٍ لسوء حظه زوَّجوها من شخصٍ آخر، فأصابه اليأس وشعر بعجزه عن الاستمرار في الحياة دون حبيبته، فقرر التخلص من حياته. ارتدى فرتر معطفًا أزرقًا وقميصًا أصفر، وانتعل حذاءها برقبةٍ طويلة (بووت)، وجلس على مكتبه أمامه كتابًا مفتوحًا، وأطلق الرَّصاص على رأسه في الساعة الحادية عشر تحديدًا.

إعلان

وفي الأعوام التالية لصدور هذه الرواية، شهدت دول أوربيَّة حالات انتحارٍ عديدةٍ قام بها شباب بإطلاق النار على أنفسهم الساعة الحادية عشر مساءً، مرتدين نفس ملابس فيرتر، وهم جالسين على مكاتبهم وأمامهم كتاب “آلام فيرتر” مفتوحًا. وانتشرت هذه الظاهرة بشكلٍ مرعبٍ لدرجةٍ دفعت دول مثل: إيطاليا وألمانيا والدنمارك، إلى حظر تداول هذا الكتاب في ربوعها. والحقيقة أنَّ الأمثلة على تأثير فيرتر لا تقتصر على الشباب الأوربي في القرن الثامن عشر، بل هناك العديد من الأمثلة التي خضعت للدراسة في الأزمنة المعاصرة، والتي أودُّ أنْ أسرد عليكم بعضها:

تأثير فيرتر Werther Effect  لانتحار “مارلين مونرو”

عقب انتحار جميلة جميلات هوليود “مارلين مونرو” بتناولها جرعةٍ كبيرةٍ من المنشطات في شهر أغسطس عام ١٩٦٢، شهد شهر أكتوبر التَّالي لشهر انتحارها قيام ١٩٧ امرأة -أغلبهم شابَّات شقراوات- بالانتحار، وفقًا للطريقة والشكل الذي انتحرت به أيقونة السينما الأمريكيَّة.

تأثير فيرتر Werther Effect لانتحار “روبين ويليام”

وفقًا لورقةٍ بحثيَّةٍ نشرتها دورية Plos one، ارتفعت نسبة حالات الانتحار في الولايات المتحدة الأمريكيَّة بحوالي ١٠٪ عقب وفاة الممثل الكوميدي الجميل (روبن ويليام) في ٢٠١٤، وخصَّ الرجال من هذه النسبة النَّصيب الأكبر والذين أنهوا حياتهم خنقًا مثلما فعل (روبن ويليام). وكشفت الدِّراسة أنه خلال فترة الخمسة أشهر بين أغسطس إلى ديسمبر ٢٠١٤ حدثت ١٨٦٩٠ حالة وفاة بالانتحار بزيادة نسبتها 9.85٪ عن المعدَّل المعتاد خلال هذه الفترات. وأكدت الدراسة على أنَّ التغطية الإعلامية تمثل سببًا هامًّا في تحفيز القطاعات الأكثر عرضة لمخاطر الانتحار -مثل المصابين بأمراضٍ نفسيةٍ، خاصةً الاكتئاب ومن يعانون من أمراض الشفاء منها- على الانتقال من مرحلة التفكير في الانتحار إلى تنفيذ الانتحار.

دور الإعلام: تأثير باباجينو Papageno في مواجهة تأثير فيرتر Werther Effect

برهنت العديد من الدراسات الاجتماعية عن وجود علاقةٍ قويةٍ بين حالات انتحار المشاهير التي تشهد تغطيةً إعلاميةً كبيرة، يعظم منها سرعة التداول على شبكات التواصل الاجتماعي، مثل: الفايسبوك وتويتر، وزيادة حالة الانتحار في المجتمع المحيط، ولقد حظي انتحار مارلين مونرو وانتحار روبين ويليام -بشكلٍ أكبر- بتغطيةٍ إعلاميةٍ كبيرةٍ مُفصَّلة، واشتملت على مكوِّناتٍ عاطفيةٍ مثيرةٍ للدموع والتعاطف. ومع هذا، هل يعني ذلك أنْ تكف وسائل الاعلام عن تداول أخبار حالات الانتحار بسبب الأثر السلبي لهذا التداول؟

والإجابة، لا بكلِّ تأكيد؛ فالانتحار ظاهرة تستحق أنْ نلقي الضوء عليها حتى يدرك المجتمع مدى الخلل والعطب والضغوط التي يتعرض لها فئاتٌ من أفراده، و لكن عليه أنْ يُعدِّل من أسلوب تعامله معها دون إفراطٍ في التداول ونقلٍ للتفاصيل والتصوير الدرامي للحدث، مع التوعية الدائمة التي يجب أن تصاحب الخبر بوجود مراكز نفسية متخصصة للتعامل مع أصحاب التفكير الانتحاري، وتشجيع الأصدقاء والأهل على الحوار الدائم والمستمر مع الشخصيات المنطوية والمنسحبة، والتي يظهر عليها أعراض الاكتئاب، ومحاولة إبرازٍ دائمة فكرة أنَّ هناك -دائمًا- فرصًا وبدائل لو سلكها المنتحر ربما لم يصل إلى هذه النتيجة.

تأثير باباجينو Papageno

يسمي علماء الاجتماع الأثر الإيجابي الذي يمكن أن تقوم به وسائل الإعلام في أثناء الفئة الأكثر عرضة لمخاطر الانتحار، “تأثير باباجينو” نسبةً إلى شخصيَّة المهرج باباجينو العاشق في أوبرا ” الناي السحري The Magic Flute” التي عرضت في القرن الثامن عشر. وأوشك باباجينو على الانتحار لولا أنْ أثناه عن القيام بذلك ٣ أطفال من شخصيّات الأوبرا عندما طرحوا عليه عدَّة بدائل.

(مشهد من أوبرا الناي السحري لباباجينو)

خاتمة

في الواقع أنَّ الانتحار هو إعلانٌ قويٌّ عن ضعفنا البشري، وعدم قدرتنا على إيصال هذا الضَّعف إلى الآخرين ومدى إهمالنا لبعضنا البعض، وعدم إدراكنا لحجم مشاكل من حولنا للأسف الشديد. ومن المهم أنْ ندرك أنَّ الانتحار يُلفت النَّظر إلى مدى حجم عذابنا النفسي الذي لا يُجدي في علاجه مالًا، وعن مدى أهمية احتياجات الناس إلى الحب وقبول الذات والمعنى والأمل، و”الاحترام و المكانة الاجتماعيَّة” والاعتزاز بالذات، والتسامح. وهذه هي القيم التي يجب أنْ تبثها وتدعو لها وسائل الإعلام أثناء تداولها لأخبار الانتحار، ولقد أصاب شوبنهور عندما قال: “علينا أنْ نُدرك جيدًا أنَّه لا يوجد أبدًا إنسانٌ بعيدٌ عن تلك اللَّحظة التي قد يمسك فيها سيفًا يطعن به نفسه أو يتعاطى سُمًّا ليضع حدًّا لحياته”.

إعلان

مصدر دراسة دراسة دراسة
فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

تدقيق لغوي: مرح عقل

اترك تعليقا