التضليل اللغوي: مفهوم وتوظيف

الآن فقط، أي بعد فوات الأوان، بدأ الناس يدركون الخطأ الفادح الذي أشاعوه بثقتهم الزائدة باللغة

 فريدريك نيتشه

وردَ على لسان أردشير -أحد ملوك الفرس قديمًا- استعماله لعباراتٍ مخصوصة الصياغة للتعبير عن طبيعة نظام حكمه أمام شعبه، فقد كان يكرر: “لا سلطان إلَّا بالرجال، ولا رجال إلَّا بالمال، ولا مال إلَّا بالعمارة، ولا عمارة إلَّا بعدل وإحسان”(1)، بصياغتها هذه دونًا عن باقي الصياغات، المثبتة منها خاصة، أي التي لا تحتوي على نفي للجُمل، فصياغة مثبتة مثل “العدل والإحسان لأجل العمارة، والعمارة لأجل المال، والمال لأجل الرجال، والرجال لأجل السلطان” لن ترضي ملك الفرس رغم أن المعنى لم يتغيَّر. فما السبب وراء اعتماد صيغة دون الأخرى في الحديث؟

نحن هنا نطرقُ أبواب أحد أكثر التوظيفات اللغوية إثارةً للنقد والجدل، والاعتماد كمجالٍ بحثي له وزنه وقيمته العلمية، التضليل اللغوي، أي استغلال المرونة التي تتَّصف بها اللغة لأجل الإيهام والتمويه، وبالتالي القدرة على الإقناع  العقول لمرامٍ محددة مسبقاً، لنحاول العودة قليلًا لأصل المقال.

 

*****

اللغة قبل كل شيء هي وسيلةُ اتصال، لديها كلمات تحمل معانٍ حمَّلها إياها الإنسان ولا زال، لتسهيل وصوله لعقل محدِّثه وإفهامه ما يدور في ذهنه، وهي بذلك تمتلك الألفاظ التي تتحرك باستمرار، وتغير مواقعها داخل الجملة ضمن صياغات مختلفة لذات المعنى، فجملة مثل ‘جلستُ أنا على مقعدي’ تحتمل ثلاثة صياغات مختلفة، بالتالي ثلاث طرق للفهم، بالاعتماد على ترتيب الكلمات داخل الجملة:

1- (جلستُ أنا على مقعدي): أستطيع من خلالها توجيه انتباه سامعي إلى الجزء الأهم من الجملة عن طريق الابتداء به، فالجزء الأهم في هذه الصياغة جاء في البداية، وهو الفعل (جلستُ)، هذا يعني أنني أقصد إخبار سامعي بالفعل الذي قمتُ به دون غيره.

إعلان

2- (أنا جلستُ على مقعدي): هنا قمتُ بتقديم نفسي (الفاعل) على الفعل، فيكون مقصدي لفتُ انتباه سامعي إلى أنني أنا التي جلستُ على مقعدي وليس أحدٌ آخر.

3- (في مقعدي جلستُ أنا): وهنا أردتُ التنبيه على أنني جلستُ على مقعدي وليس على مقعد آخر.

ثلاث صياغات إذن، ومعنى واحد تضمَّن الجلوس على المقعد، يتقلَّب على وجوهٍ متعدِّدةٍ تبعًا لاختلاف الصيغ، كل ذلك لأنَّ المستمع غالبًا ما يبني فهمه للجملة، أي جملة، بناءً على ما ابتدأتها به، وتسمى قدرة اللغة على تحوير المعنى أو التركيز على جوانب فيه دون الأخرى بالمرونة اللغوية، وهي بلا شكٍّ تمنحنا الحرية الأكبر في التعبير عن مقاصدنا بدقة أكبر أو بتمويه وتضليل أكبر.

إذا أخذنا بالاعتبار تأثير الموقف التسلسلي، حيث يميل الشخص إلى تذكر أولى كلمات الجمل وآخرها أكثر من الكلمات الوسطى (2)، فإنَّ ذلك يشرح لنا اعتماد أردشير لأحد الصياغات دون الأخرى في مخاطبه شعبه، ففي جملته الشهيرة “لا سلطان إلَّا بالرجال، ولا رجال إلَّا بالمال، ولا مال إلَّا بالعمارة، ولا عمارة إلَّا بعدل وإحسان”، وحسب تأثير الموقف التسلسلي، فإنَّ العامة تستطيع تذكر بداية الكلام ونهايته فقط، ليصبح المعنى لديهم “لا سلطان إلَّا بعدل وإحسان”، وهو معنى يقرُّ في أذهانهم على أنَّ سلطانهم يراعي فيهم العدل والإحسان، ولكنه معنى مختلف تمام الاختلاف عن المعنى الحقيقي للجملة كاملة، والذي تخبرنا به صياغتها المثبتة: “العدل والإحسان لأجل العمارة، والعمارة لأجل المال، والمال لأجل الرجال، والرجال لأجل السلطان”، فهذه الصياغة تحكي المعنى الحقيقي مباشرةً دون تمويه في الصياغة، وستجعل العامة يتذكَّرون منها أولها وآخرها، ليقرّ المعنى في أذهانهم أنَّ “العدل والإحسان لأجل السلطان”، الأمر الذي سيثير غضبهم تجاه الحاكم، ولكن بإبقاء المعنى وتغيير الصياغة قليلًا نحافظ على الأوضاع مستقرة داخل الدولة.

بالطبع لن تنجح هذه الحيلة على جمهور ناقد، ولكن أينه؟ نحن نعلم أنَّ العقل الجمعي للشعوب محكوم بالعاطفة، العاطفة لا العقل، والعاطفة لا تنقد ولا تدقِّق ولا تمحِّص ولا تعيد النظر، إنها تُستثار فحسب، ولأن الحكومات تعي هذا جيدًا، طالما تنجح في إسكات شعوبها والتأثير عليهم سواء عبر الشعارات محكمة الصياغة، كما فعل أردشير، أو عبر الخطب السياسية والدينية.

 

                                  *****

إنَّ النظر في فن الخطابة العربية يجد أنه يتخذ شكل القمم والقيعان في ازدهاره وانحساره، فتارةً ينتشر وتارةً يكاد يختفي من ساحة الآداب العربية، (ويعود السبب في ذلك إلى أنَّ وظيفته تظهر وتختفي) ذاك لأنَّ وظيفته تظهر تارة وتختفي تارة أخرى، وعندما نعلم أنَّ الخطابة العربية ازدهرت في فترات النزاعات السياسية والدينية الفكرية للتحريض وتعبئة الجماهير، وعندما نعلم أنها تخاطب العاطفة لدى هذه الجماهير وعقلها الجمعي بصياغاتها المخصوصة وألفاظها المنتقاة بعناية، ندرك أنَّ هذا الفن من الفنون الأدبية يحتضن التضليل اللغوي ويوظفه لأجل مآربه.

 لا يمكن أن يكون هذا الفن بريئًا يومًا ما، فالأحزاب السياسية مثلًا والتي كانت على خلاف مع سياسة الدولة الأموية، كان يتم التحريض عليها في خطب الحزب الأموي الدينية والسياسية، بوصفها جماعات خارجة عن الملة ومتهمة بالكفر والزندقة، وتحمل راية الحرب على الدين وتريد هدم المجتمع وانحلاله، في حين أنَّ نظرة لأهم أفكار تلك الأحزاب، كالمعتزلة والشيعة والخوارج .. إلخ، نجد أن لديها من الحكمة والتعقل ما يغيب عن الحزب الحاكم، ولكن أليس هذا هو واقع الحال فعلًا؟

ولذلك فإنَّ حرب المصطلحات قائمةٌ بالفعل، فمن هو متطبِّعٌ بثقافة بلده ولا يتزحزح عنها هو “منتمٍ” داخل بلده ولكنه “متعصب” خارجها، ومن يأخذ من الثقافات ما يناسبه دون العودة لأي ثوابت مجتمعية هو “منحلّ أخلاقياً” داخل بلده و “لا منتمٍ” خارجها، لقد سمحت لنا اللغة بهذا “الشطح” سواء عن حسن نيةٍ منها أو سوء نية، هو معنى واحد في الأفق، ستجده يحمل من الوجوه ما لا يحصى، كلٌّ تبعًا لثقافته وتوجهاته أو مبتغاه، لذلك فإنَّ الثقة الزائدة باللغة حسب تعبير نيتشه لن تخلق لنا سوى عقولًا ساذجة وسط عالم من التلفيق اللغوي، خاصة لدى منصات عالمية مهمتها إيصال الخبر لعامة الناس، فهل ثمة اعتباطية في كون الخبر الواحد يردُ بصيغ مختلفة على القنوات الإعلامية؟

تعي كل جهة إعلامية دورها في التأثير على عقول الناس، فالإعلام وسيلة الناس لمعرفة ظروف المحيط، وهذه الأخيرة لا تقدَّم لهم بالمجان، بل يدفعون ضريبتها من خلال تأثير هذه الصيغ عليهم، فالخبر الواحد يحتمل التهوين، التعظيم، التلطيف، أو التشويه، تبعاً للجانب السياسي الذي تقف عليه الجهة الإعلامية، وبتكرار القنوات لأساليبها الصياغية، تخلق لاشعورًا جمعيًا يحمل الأفكار التي سربتها لعقول الأفراد، فعندما يستمر الإعلام الإسرائيلي بوصف الفلسطينيين بالمخربين، الجهلة، الهمج، والإرهابيين، فأنّا لمتابع هذه القنوات تقبل جاره الفلسطيني كإنسان له احترامه رغم اختلافه عنه، ناهيك عن تقبل الإسرائيلي لحق الفلسطيني في المقاومة والدفاع عن نفسه وممتلكاته؟

وعندما يكرِّر الإعلام الإسرائيلي نقل صورة معينة عن جيشه بوصفه جيش “الدفاع” الإسرائيلي، فسيقرُّ في أذهان المتابعين الإسرائيليين بأنَّ العرب الفلسطينيين بمقاومتهم ليسوا سوى إرهابيين يقلقون أمن وطنه، وأن الجيش الذي يحميهم والذي لا يهاجم، لا يبادر، لا ينتهك، لا يتحرش ولا يسرق ولا يسخر ولا يقتل عمداً ولا يظلم ولا يعنِّف، لا يقوم سوى بـ”الدفاع” عن الأمن الوطني الإسرائيلي.

ويعد أفيخاي أدرعي، المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، مثالاً واضحاً على التلاعب الإعلامي باللغة والذي تمنحه السياسة الإسرائيلية الأهمية الكبيرة لضمان سلامة صورتها أمام المجتمع الدولي، أو على الأقل، أمام الجمهور الناطق بالعربية، فمهمة أدرعي تكمن في صياغة الحدث الإعلامي للجماهير العربية بلغتهم .. بل وبثقافتهم وأسلوبهم، فنراه أحيانًا يورد الخبر الإعلامي مصحوبًا بآياتٍ من القرآن، أو الأحاديث أو الأمثال الشعبية الفلسطينية والعربية لإثبات موقف الجيش الدفاعي مقابل موقف الفلسطينيين الهجومي، ولا شك أنه يعي أهمية دوره جيداً في التأثير على الجماهير العربية، خاصة أنَّ متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي يحصون بالملايين، والنسبة الأكبر منهم عرب، وإن كانوا يشتمونه ويقدحون في شخصه، وإن كانوا يُستفزون عند تقمصه لثقافتهم، فهم يتابعونه على أي حال، وسيؤثِّر هذا على لاوعيهم عاجلًا أم آجلًا، وهنا يكمن نجاح دوره، فهو في تواصل دائم مع الجماهير العربية، وعمله يؤتي ثماره ببطء وثبات كل يوم، وتجدر الإشارة إلى أنَّ منصبه هذا لم يكن هو أوَّل من تولَّاه، فقد سبقه إليه “أوفير جندلمان”، فتعلَّم العربية وقدم الإعلام الاسرائيلي بلسان عربي، ولكنه فشل في جذب اهتمام العرب لكونه “يهوديًا أكثر مما ينبغي”، وبلهجة وملامح لا تشبه العرب، على خلاف نظيره أدرعي الذي ما إن يلبس العمامة والعباءة ويخطب في العرب حتى لا يفرقوه عنهم، فلديه تلك الحنكة وذلك الذكاء، وهو مخلص في عمله بلا شكٍّ، للتأثير على الجماهير العربية وإظهار دولته دائماً بمظهر التسامح، وأنَّ عملياتها العسكرية ماهي إلا إجراءات أمان ودفاع.

 

*****

قد تسعى الحكومة يوماً لزيادة الضرائب، ولكنها لن تصرِّح بهذه الصيغة بالطبع، بل ستستخدم مصطلحاً يلطف المعنى الأصلي، زيادة الدخل المحلي مثلاً، وكمحاولة يائسة لتلطيف سمعة «الصناعة الإباحية – pornography» ، تم تبديل هذا المصطلح بآخر: (adult entertainment)، أي: ترفيه البالغين، وبالنسبة للعاطل عن العمل، فإنه سينظر للإعانات المقدمة له نظرة استحسان إذا ما أطلق عليها «عوائد تأمين اجتماعي»، بينما ينظر إليها نظرة استياء إذا ما أطلق عليها «إعانات»، ويستخدم السياسيون تعبيرات لغوية مثل: «سيوافق جميع الأمريكيين الصالحين على … إلخ»، والتي توحي لمستمعها أنه معارضته لما سيأتي بعدها تعني أنه ليس أمريكياً صالحًا، وأنَّ عليه الموافقة ليكون كذلك.

لذلك، يُطلب من المحلِّل السياسي أن يكون على بينة من المعاني الحقيقية للخطابات والتصريحات السياسية، إن هو أراد أن يفهم العالم كما هو، فقانون القوة والتفوق الاقتصادي والعسكري يُشار إليه بالشرعية الدولية، والتفاوض وفق الحقائق التي فرضها السلاح هو تسوية سلمية، والقتل المباشر هو تمشيط أمني للمنطقة، وكمحاولة لتحسين سمعة الرأسمالية، يطلق عليها “اقتصاد السوق”، حيث لا يشير هذا المصطلح إلى طبيعة العلاقة بين الحاكم: مالك رأس المال، والمحكوم: العمالة المأجورة، أي أن كل نظام إعلامي وكل منصة خطاب ديني وكل تصريح سياسي لديه لغته المقولبة بطريقة تناسب آراءه وتخدم أهدافه، بحيث يتم إعادة بناء الدلالات اللغوية، والاستحواذ على الأصليّ منها لإعادة توجيهها، وبمجرد أن يمتلك النظام أدوات اللغة الأصلية، فهو يمتلك العالم الذي تصنعه تلك اللغة، وعندما يضع الإعلام يديه على ذلك العالم، يكون قد امتلك الفرد بامتلاكه وعيه، كما عبر د. سعيد الخباز (3).

 

إذن هو التضليل اللغوي بكافة أشكاله وتوظيفاته السياسية والدينية، والغاية هي التأثير على العقول واستمالتها، فهذا الاستعمال الفضفاض والمخادع للغة يخفي دائمًا وراءه مقاصد تنساب إلى لاوعينا بتكرارها أمامنا، فقد غدت الكلمات اليوم الوسيلة الأكثر شيوعًا للتغطية على جهل الناس، وطمأنتهم بأصالة شعورهم وآرائهم، وبأنهم لا يمكن أن يكونوا، في عصر الحرية الفردية، دُمى متحدثة بلغة السلطة والسياسة.

وبعد هذا، وبعد هذا كله، هل يمكن الاعتقاد بشفافية اللغة؟ بالنسبة للفيلسوف الأكثر مقتًا لها، فريدريش نيتشه، فإننا لا يمكننا الوثوق باللغة لاحتمالها الترادفات التي تسمح بالفوارق الصياغية المختلفة، تلك الترادفات التي ورثناها عن آباءنا والتي تحمل الدلالات المختلفة باستمرار، لذلك من الأفضل لنا التيقُّظ دائمًا لمرونة اللغة وتحكيم مشاهداتنا لئلّا ننخدع بالترادفات اللغوية أو اختلاف الصياغات، فلا عجب أنَّ النظرة الحديثة للغة تركز على توظيفها واستغلال مرونتها، وإخفاء المعنى وتغليفه في صور جذابة غير مُدركة بسهولة.


مصادر:

(1) الجابري، محمد عابد، العقل الأخلاقي العربي، 2001م، مركز دراسات الوحدة العربية، ص165
(2) coleman, andre(2006), dictionary of psychology, second edition, oxford university press, p. 688
(3) د. سعيد الخباز، اللغة والفكر والمجتمع، شبكة راصد الإخبارية، 24-03-2007م، rasid.com

إعلان

اترك تعليقا