تأنيث العلم | لـ مريم جمال

على الرغم من وجود نساءٍ مهتمات دائمًا بالعلم -مثل الكيميائي، والفيزيائي، والحيوي- إلّا أنّه لطالما لم يتمّ تشجيع مشاركتهنّ ولا الاعتراف بها. فالغيابُ النسبيّ للمرأة عن تاريخ العلم، وانخفاضُ أعداد النساء المشاركات رسميًّا في العلوم قبل القرن العشرين، والصعوباتُ المستمرّة للعديد من النساء في تلك المجالات حتى بعد دخولهن بأعداد كبيرة، ومعدلاتُ ترقيتهن الأقل، وأجورهن الأقل، ومناصبهن الأقل من الرجال، هذه المواضيع شكّلَت واحدةً من بؤر الاهتمام النسوي. وشملت النُهجُ النسوية جهودًا للتعريف بدور المرأة في الماضي وزيادة مشاركة النساء والفتيات في العلوم من خلال التعليم على سبيل المثال.

انخفاض مشاركة المرأة تاريخيًا في العلوم: محاولة للفهم

هناك انخفاض ملحوظ لمشاركة المرأة تاريخيًا في العلوم فالموضوع متجذِّرٌ وله أبعادٌ كثيرة، تاريخيًا تعارضت الصورُ النمطية للمرأة مع قدرتها على تخيِّل نفسها عالمةً، فقد كان هناك ادّعاء بأنَّ العلم نفسَه يكشف الاختلافاتِ الفطريةَ بين الرجال والنساء والتي تفسِّر قدرةَ الرجلِ العقلانيةَ على ممارسة العلم. ويمكن مواجهة هذا الادعاء من خلال تحدِّي الأدلِّة بطريقتين: الكشف عن التحيُّزات في البحث، أو  من خلال نَسبِ الاختلافات إلى الثقافة (التأثيرات المجتمعية) بدلًا من الطبيعة، تمامًا كما قال “كانط” عن انفلات الحقيقة المطلقة من الفهم العقلي، فالحقيقة المطلقة عندما تنزل إلى ساحة الإنسان تتقيِّد لا محالة بثقافته وما يحيط به من مؤثِّرات.

كما يوجد ادعاءً آخر يؤطر الاختلافات بين الجنسين من حيث التفضيلات الطبيعية بدلًا من القدرات، ويمكن مواجهة ذلك أيضًا من خلال الحثِّ على النظر في الثقافة بدلًا من الطبيعة. نهجٌ آخر هو نقدُ لغةِ التفضيلات، فالطبيعة الهيكلية للتمييز على أساس الجنس تشكِّل قراءات الباحثين للتفضيلات، أو يمكن القول أنَّ الزيادة في عدد النساء اللاتي يتلقين تعليمًا علميًا لم تقابلها زيادة مماثلة في مشاركتهن في القوة العاملة. في حين أنَّ المشاركة تختلف حسب التخصص، حيث أنَّ معظم العلوم الاجتماعية لديها أغلبية من النساء، إلَّا أنَّها تظل منخفضةً نسبيًا بشكل عام ، لا سيّما عند النظر في المزيد من الأدوار القيادية أو المرموقة.

هناك وعي متزايد بأنَّ الإهانات الصغيرة التي تتلقَّاها المرأة حول كونها الجنس الأضعف؛ غيرُ عقلانية، و أنّ الظلمَ الواقع عليها له تأثيرٌ غير مشجِّع وتراكمي بمرور الوقت وهذا قد يلعب دورًا في المعدَّل المنخفض لمشاركة المرأة.

أمثلة على الأفكار الذكورية التي أدَّت إلى تهميش النساء من المشهد العلمي

ولقد سيطرت عدَّة أفكار على المجتمعات الذكورية، فمثلًا كانت هناك فكرة قديمة، وهي أنَّ الفتيات يكنّ أقلَّ قدرةً على أداء المهام مثل القيادة أو الالتحاق بالمدرسة أو حتى في أن يكنَّ أمهاتٍ جيدات لأنَّهن يعانين من فترة الحيض، فابتداءً من العصر الفيكتوري، أشار الأطباء إلى الدورة الشهرية على أنَّها مرضٌ أو إعاقة. وفي مقال بعنوان “الجنس في التعليم أو: فرصة عادلة للفتيات”، كتب الطبيب الأمريكي إدوارد كلارك أنَّه بسبب فترة الحيض لدى النساء، يكون لديهن دم أقل بشكلٍ عام مقارنة بالرجال، وبالتالي طاقة أقل. لقد توقٌَع أنه بسبب إمدادات الدم المحدودة، فإنَّ المدرسة ستكون خطرةً تمامًا على الفتيات.

إعلان

إنَّ الحقيقة يمكن أن تكون مستقلةً تمامًا عنا؛ وبالتالي تتطلَّب المعرفةُ الموضوعية عدمَ التحيِّز نحو وجهات النظر حتى لا تتداخل مع الواقع الذي نرغب في معرفته، حيث أنّ العوامل الاجتماعية والثقافية تؤثِّر في تطوير المعرفة وتشكيل المفاهيم.

استخدم “بيكون” و”ديكارت”، الطبيعةَ/علم الأحياء؛ كموضوع غير شفاف؛ اختاروا تعبيرًا عن العقلانية الموضوعية ، التي رفضت أي علاقة بالظاهرة المدروسة. وهكذا ، فإنَّ الحجة المركزية لاستبعاد الإناث من العلم ستوضع داخل ثالوث هو: 1) من خلال التقسيم الجنسي للعمل الناتج ؛ 2) من خلال هيمنة الذكور التي تجنِّس دونية المرأة ؛ 3) من خلال حالة العلم المتجانسة والزمانية والاستثنائية. مثل هذه العناصر التأسيسية التي أدت إلى علم قائم على المراجع والقيم الذكورية، واسعة النطاق في مجال النظرية الاجتماعية فإنَّ العلم غارقٌ دائمًا في القيم المادية والثقافية.

تاريخ العلم مليء بحالات موثقة عن استبعاد النساء والتحيُّز ضدهن

لعدَّة قرون، روَّج علماء الأحياء لنظريات خاطئة عن دونية الإناث ، وعادة ما منعت المؤسَّسات العلمية مشاركةَ المرأة في الأبحاث العلمية. أسَّست العالماتُ الإناث الجمعياتِ العلمية الخاصة بهنّ للتعويض عن رفض زملائهن الذكور الاعترافَ بعملهن.

ملأت (شارون بيرتش ماكجرين) مجلَّدًا كاملًا بقصصِ النساء اللواتي كنَّ يجب أن يحصلن على جائزة نوبل عن العمل الذي قمن به بالتعاون مع زملائهن الذكور وعلى مرِّ القرون، كان على الباحثات العمل كأعضاء هيئة تدريس” متطوِّعات” ، وشهدن الفضل في الاكتشافات المهمة التي حققنها لزملائهن الذكور ولكنهن خضنَ معاركَ شاقة لتحقيق ما فعلنه، فقط “ليُنسب الفضل إلى أزواجهن أو زملائهن الذكور”، كما قالت آن لينكولن ، عالمة الاجتماع في جامعة ساوثرن ميثوديست في تكساس، التي تدرس التحيِّزات ضد المرأة في العلوم.

ومن ضمن الأمثلة الكثيرة حول استبعاد أبحاث النساء من الصورة وتضخيم أبحاث الرجال هي العالمة “نيتي ستيفنز” التي ولدت عام 1861 في فيرمونت، وأجرت دراسات في تحديد أنَّ الجنس الحيّ تمليه الكروموسومات بدلًا من العوامل البيئية وبعد حصولها على الدكتوراه من كلية برين ماور في بنسلفانيا، واصلت ستيفنز في الكلية كباحثة ومن خلال عملها على الديدان، تمكنت من استنتاج أنَّ الذكور ينتجون حيوانات منوية تحتوي على كروموسومات إكس واي(الكروموسومات الجنسية) وأنَّ الإناث ينتجن خلايا تناسلية تحتوي على كروموسومات إكس فقط. كان هذا دليلًا يدعم النظرية القائلة بأنَّ تحديد الجنس يتم توجيهه من خلال علم الوراثة للكائن الحي. وكان هناك زميلٌ لها باحث هو إدموند ويلسون، قام بعمل مماثل، لكنَّه توصّل إلى نفس النتيجة في وقت متأخِّر عمّا فعلته ستيفنز، وقد وقعت ستيفنز ضحيةً لظاهرة تعرف باسم تأثير ماتيلدا (قمع مساهمات الباحثات في العلوم). لكن توماس هانت مورغان – عالم وراثة بارز في ذلك الوقت – وهو من يُنسب إليه الفضل في اكتشاف الأساس الجيني لتحديد الجنس وأوَّلُ من كتب كتابا مدرسيًّا لعلم الوراثة- أراد تضخيم مساهماته وتمَّ إنكار ما توصلت إليه العالمة ستيفنز في ذلك الوقت، فقط لأنها امرأة. وهناك العديد من الأمثلة على الإنجازات العلمية التي قامت بها النساء والتي تم إنكارها وتضخيم إنجازات الرجال.

وأخيرًا..

أرى أنَّ عمليةَ إشراك النساء في المشهد العلميّ وعدمَ التحيِّزِ الجنسي والاستغناءَ عن مثل هذه الأحكام المسبقة سيؤدي حتمًا إلى تقدُّم العلم، والتاريخُ مليءٌ بالنساء اللواتي قدَّمن مساهمات هائلة في العلوم، بعضُهن معروفات، مثل ماري كوري وأدا لوفليس وروزاليند فرانكلين، لكنَّ أخريات تم إنكارهن مثل ماري أنينغ المتخصِّصة في الحفريات، ورائدة ناسا كاثرين جونسون، ودوروثي هودجكين التي اكتشفت بنية الأنسولين وكاثرين جونسون عالمة الرياضيات التي عملت في البعثات الفضائية المبكِّرة لوكالة ناسا وسيسيليا باين-جابوشكين.

وأيضًا، عالمة الفلك التي اكتشفت تركيب النجوم، وإنجي ليمان التي اكتشفت تكوين طبقات الأرض، وماري آنينج التي اكتشفت أوَّل أحفورة كاملة للديناصور، وغيرهن الكثير من الأمثلة للنساء اللواتي كان لهنَّ إنجازٌ مهم في العلم. وأرى كذلك أنَّه من المهم دعم النساء والفتيات في وقت مبكِّر للاهتمام بالعلوم والتوجيه في حياتهن المهنية ويمكن أن يؤدِّي ذلك أيضًا إلى بناء شبكات واتصالات وهو الأمر الذي يُعدُّ حاسمًا لتقدُّمهن الوظيفي،  ومن شأن المساواة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات أن تُمكِّن من تحقيق تقدُّم علميٍّ أسرع وعالمٍ أكثرَ شمولًا.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مريم جمال

تدقيق لغوي: ريم حاتم محمد

اترك تعليقا