القبح في الفن كمكمل للفن الدرامي

في الحياة، ليس هناك شيء كامل الجمال أو كامل القبح، كلاهما متشابكان ومتلازمان. يكمن الجمال في القبح، والقبح يكمن في الجمال، وفي نهاية المطاف، ينبغي لنا قبول كلا الجانبين لنعيش بشكل كامل وحقيقي.

فريدا كاهلو

يعتقد البعض أنَّ النظرة الشاعرية والحالمة للقبح هي السبب في أنَّ الفن قد برع على مرِّ التاريخ بأنَّ يتمكَّن من منحنا تجربةً جمالية عند تصوير القباحة حتى عندما تكون تمثيلًا لقيمةٍ غير أخلاقية ومع ذلك مكنَّنا من خوض هذه التجربة الجمالية خلال مشاهدة الأعمال الفنية التي جعلت من القباحة الموضوع الرئيسي لها؟.

لقد احتفى الشاعر الفرنسي تشارلز بودلير (Charles Baudelaire) صاحب المخيلة الخصبة بالقبح، فبحسب اعتقاده أنَّ للأشياء القبيحة خصائص تجعلها ضمن ظروف معينة جميلة، لكن هل هذا هو السبب الوحيد الذي جعل الفن الحديث يتجرأ على أن يصوِّر ويحتفي بل ويمجِّد في أحيانٍ أخرى القبح بصورتيه المادية والأخلاقية؟ 

هل الأمر مقتصر على خطأ في تأويل ماهية القبيح والجميل مما مهَّد إلى وجود القبح في العديد من الأعمال الفنية عبر التاريخ؟ وهل عدم الوصول لإجابة قاطعة للسؤال الأزلي والأشهر فيما إذا كان الجمال موضوعي أم ذاتي هو السبب الذي طرح القبح كموضوع أساسي ضمن موضوعات الفن الحديث؟

الجمال كشعور يخلقه الموضوع:

تناول الفلاسفة منذ القدم موضوع ماهية الجمال، وخصائصه، وما إذا كان يحمل قيمة في ذاته منفصلة عن أي شعور أو رؤية خارجية، أو أنه خاصية قيمية خالصة باعتبارها شيء وحكم يصدره العقل البشري. واختلفت الرؤى على طرفي النقيض، وظهرت آراء متطرِّفة في كلا الجانبين، فرأى الفيلسوف فيرجل ألدريتش (Virgil Aldrich) أنَّ الجمال يُعرَّف بالشعور، أي أنَّ الشعور هو ما يضفي تلك الجاذبية على الموضوع. بينما اعتقد الفيلسوف سي.إي .إم جود (C. E. M Joad) أنَّ الجمال  كائنٌ مستقل بذاته غير معتمد على الشعور الشخصي أو العلاقة بين العنصر والصورة الذهنية عنه.

وتصارعت منذ الأزل وحتى الآن هذه التصوُّرات عن الجمال وماهيته، ورغم ذلك هناك محاولات متعدِّدة للربط والتوفيق بين الاتجاهين ورفض التطرِّف الذي ينحاز لأحد النقيضين مستبعدا الآخر، فاعتبروا الجمال تجربة يجد فيها العقل نفسه في الموضوع  المعد مسبقًا لهذا العقل الرائي.

إعلان

إنَّ الحكم الجمالي كما هو واضح ليس عملًا سهلًا، فيمكن من خلال وضع قاعدة قابلة للقياس للقيمة الجمالية، لكن ماذا عن القبح هل يمكننا اسقاط الجدل السابق على القبح، وماهيته، وخصائصه، وقيمته الفلسفية؟ وهل القبح مجرد نقيض للجمال أم انَّ العلاقة بينهما متشابكة أكثر؟ أم أنه كما رأى أوغسطين هو ببساطة المناسبة التي نفشل فيها في رؤية الجمال؟ وهل يمكن تحويل القبح إلى جمال من خلال الفن والفن فقط؟

التجربة الجمالية وأسطورة الموقف الواحد

إذا كانت ماهية الجمال قد طرحت العديد من التساؤلات  عبر التاريخ؛ فالتجربة الجمالية ستطرح هي الأخرى العديد من الأسئلة  والقضايا والآراء المختلفة التي حاولت ولازالت إعطاء تعريف واحد موحد لماهية الشعور الذي ينتاب الإنسان خلال دخوله للتجربة الجمالية.

وإذا أردنا وضع تعريف مبسَّط للتجربة الجمالية يمكن القول أنها الحالة الذهنية الشعورية التي ترافق التعرض لعناصر فنية أو طبيعية يرافقها شعور بالانبهار والذهول أو السعادة تجاه هذه العناصر. فوفقًا لهذا التعريف هل تشترط التجربة الجمالية وجود طريقة معيَّنة مسبقة للنظر للأشياء هي التي ستضفي معنى من نوعٍ ما للتجربة الجمالية محلَّ الطرح؟

في الحقيقة نعم، فعلى سبيل المثال إنَّ البحر في نظر البحَّار في لحظة هبوب عاصفة تتعالى فيها الأمواج ستختلف قطعًا مع نظرة رسام يراقب الأمواج وهي تصطدم بالشاطئ مشكلة تجربة جمالية مبهرة لا تُمحى من عقل هذا الفنان.  

لكن هل التصوير الفني لقيمة محدَّدة ذات طابع قبيح من الناحية القيمية والإنسانية على لوح الرسام سيحمل القيمة والمعنى نفسه في التجربة الجمالية؟

القبح يشق طريقه إلى الكانفاس

شقَّت القباحة طريقها إلى العديد من اللوحات عبر التاريخ التي عبَّرت عن جوانب من الدراما الانسانية المروِّعة على يد العديد من الفنانين منهم بيكاسو، وغويا، وبيكون، وآخرين، وهناك العديد من اللوحات التي مازالت تحرِّك التجربة الجمالية في متلقِّي الفن حتى اليوم منها: لوحة عناق للفنان يزديسواف بكشينيسكي Zdzisław) Beksiński) التي كانت عن هيكلين عظميين متعانقين في لحظة يأس مكثَّفة.

وقد رسم كذلك الفنان الهولندي هيرونيموس بوش (Hieronymus Bosch) لوحة جهنَّم الأبدي المليئة بالتفاصيل المروعة والمؤلمة وتعتبر من أشهر اللوحات التي ناقشت موضوع الجحيم عبر التاريخ. وكذلك لوحة الشيطان المتوحش ذو الثآليل للفنان ماثياس جرونلد (Matthias Grünewald)، والعديد من لوحات الرسام الاسباني فرانسيسكو غويا (Francisco de Goy) الذي تناول القبح والرعب في الدراما الانسانية بأجل صورة.

القبح مكمِّلًا للعمق الدرامي:

برز القبح في عدة موضوعات فنية من الرسم وحتى النحت والرقص، بنوعيه القبح المادي والقبح الذي يعبِّر عن حدث بمعضلة أخلاقية. وقد اعتقد البعض أنَّ اعجابنا بالأعمال الفنية القبيحة ما هو إلَّا اعجاب ببراعة الفنان في تمثيل الحدث أي أنه لا يعدو أن يكون اعجاب بمهارات تقنية فنية لا أكثر. غير أنَّه في الحقيقة لا يمكن أن يكون هذا التفسير المبسط هو السبب وراء حصولنا على تجربة جمالية من جراء مشاهدة القبح في العمل الفني المعروض.

عدَّ البعض مثل أرسطو أنَّ في تصوير القبح شيء من  القيمة التطهيرية تجاه هذه الأحداث  المصورة تصويرًا فنيَا بارعًا، وكأننا نتطهَّر من هذا القبح الموجود والمرتبط بالوجود الانساني بمجرد طرحه على لوح الكانفاس أو بمجرَّد النظر إليه.

في الحقيقة، إنْ كان الفن هو تصوير  للعالم فعليه أن يمثِّل العالم بعمقه الدرامي الكامل لا بأحد شقيه دون الالتفات للشق الآخر، فرسم مفاهيم مثل الفقر، والندم، والعذاب والألم والشيخوخة هو جزء من التنوُّع الواقعي والتجربة الفنية الثرية التي قد تمنحنا تجربة جمالية أكثر عمقًا وأكثر تعقيدًا بالمعنى الإيجابي للكلمة، بالإضافة إلى أنها قد تسهم في نمو وعينا وفي تطوُّرنا الأخلاقي عبر الوجود. فالفن ليس من واجبه مجاملة العالم أو أخذ صورة مقتطعة عنه، بل عليه أن يمنحنا مشاهدة بانورامية للصورة بلا اقتطاع، وأن يكون بوابة استكشاف للعالم مساهما في نضج التجربة الإنسانية عبر الوجود.

قد يمثِّل رسم القباحة أيضا تحدِّيًا للمفاهيم التقليدية للجمال، وقد يساهم في استكشاف وطرح رؤية مختلفة لمواضيع ومفاهيم مؤلمة وجدلية، والتعبير عن رؤى فنية مختلفة.

القبح والجمال، والألم والسعادة، والطبيعي والشاذ، مصطلحات على الرغم من عدم وجود تعريفات قاطعة لأيٍّ منها إلَّا أنَّ إعادة تعريفها وطرحها فنيًا يفتح لنا الآفاق على التمعُّن والتفكير أكثر في عمق هذا الوجود الإنساني، وقد يكون بوابة أخرى للوعي بالقباحة وانعكاساتها المختلفة. فرسم القبح هو فعلًا مكمل للعنصر الدرامي للوجود، أو كما قال لويس خورخي بورخيس Jorge) Luis Borges)

القبح يُعتبر جزءًا من التجربة البشرية، والفنان هو من يتجسَّد هذا الجزء في أعماله.

إنَّ فهمنا لهذا النوع من الفن وما يحاول قوله، ورؤيتنا للقبح الذي يحاول التعبير عنه عبر الألوان الصارخة تارة أو عبر الأشكال الصادمة تارة أخرى، عليه أن لا يكون  عقبة في طريقنا لتقديره.

وتقدير التجربة الفنية عند مشاهدتنا لهذا النوع من الأعمال وما ينطوي تحتها أحيانًا من العجز عن اطلاق مصطلح واحد محدَّد عن ماهية المشاعر التي راودتنا عند الخضوع لهذا النوع من التجارب.

وهذه المشاعر المتضاربة والغامضة كالأمواج كفيلة بجعلنا نشعر أنَّنا قد انتهينا للتو من السباحة في عمق تجربة جمالية غامضة. فالفن ليس مجرد أداة لتصوير العالم بل هو عدسة لاستكشافه. وتصويره للقبح الذي هو جزء لا يتجزأ من عالمنا بمنحنا فرصة أكبر لفهم هذا العالم وتحليله ليساهم لاحقا في نضجنا الأخلاقي.


مراجع:

– ألغاز الفن: قضايا في الجمال والفن لـ مارغريت ب.باتن، وجون فيشر، رونالد مور، انيتا سيلفرز، ترجمة د. علي أشرف، مركز العلوم الطبيعية مكتبة الكويت الوطنية، الطبعة الأولى 2023

ألوان شيطانية ومقدسة لـ هيرمان بلاي، صديق محمد جوهر، دار كلمة، الطبعة الأولى 2010

إعلان

اترك تعليقا