“جويلْ” و “كلمنتينْ”: عندما قرَّر مريضُ الأكروفوبيا القفز بالمظلَّة
تحت الاسم التجاريّ لفيلم “الإشراقة الأبدية للعقل الطاهر” (Eternal Sunshine of the Spotless Mind) للمخرجِ الفرنسيّ ميتشلْ غوندري، ومن بطولة جيمْ كاري وكيتْ وينسليتْ، تفاجأ الجميع بحصوله على جائزة الأوسكارِ كأفضل نصٍ سنيمائيٍّ لعام 2005، خاصة أنه فيلمٌ يجمعُ بين الخيالِ العلميّ والرومانسية! مزيجٌ عجيبٌ لم نعتده في جوائزِ الأوسكارِ، خصوصًا أنَ الأوسكارَ منحازة دائمًا إلى الأفلام التاريخيَّة والدراميَّة وقليلًا ما تلتفت إلى فئة الرُّعب أو الخيال العلمي والفانتازيا، مما لفت الأنظار إليه ودفع العديد إلى مشاهدته، وسرعان ما تلقَّى الإشادة من المشاهدين والنقَّاد الذين أعدوه واحدًا من أفضل الأفلام في القرن الحادي والعشرين.
لم أكن من المدفوعين بالأوسكار لمشاهدته، بل لم أكن أعلم أنه فاز بالجائزة من الأساس! أتذكَّر يوم شاهدته لأوَّل مرَّةٍ وكأنها بالأمسِ. صباح شتويّ بارد ، كان المنزلُ خاويًا، وفي ذلك الوقت كانت قناة MBC 2 في قمة تألُّقها، تبتاع أحدث الأفلام الأجنبيَّة الحاصلة على الجوائز وتبثها على شاشتها في العام نفسه، استلقيتُ على الأريكةِ أمام شاشة التليفزيون الذي كتب على شاشته أن المحتوى القادم فيلم Eternal Sunshine of the Spotless Mind ، أثار العنوان انتباهي، خصوصًا أن ترجمته للعربيَّة تبدو غريبةً للغاية، فما المحتوى الذي يمكن أن يحتويه فيلم معناه إشراقة أبديَّة لعقلٍ نظيفٍ!
وعلى الفورِ انزلقت مشاعري مع صوتِ “جويل” وسرده لمشاعره وكأنني أعرفه من قبل، “جويلْ” الخجول الانطوائيّ الذي لا يستطيع النَّظر في عيني امرأةٍ لا يعرفها، الذي يندفعُ إلى القطار دون أن يعي سبب ذلك، مما يؤدِّي في نهاية الأمر إلى لقائه ب “كلمنتين” الجامحة متقلبة المزاجِ.
مدة ساعة وثمانٍ وأربعينَ دقيقةً توحدتْ مشاعري مع مشاعرهم، وبعدما فرغت من مشاهدته ظل يتردد في ذهني سؤالان، أولهما: هل للحُبِّ ذاكرة منفصلة؟
أنواع الحُبّ
تقول دكتورة “جول دولين” -الأستاذة المساعدة في علمِ الأعصابِ في كليةِ الطبِ بجامعةِ “جونزْ هوبكنزْ” في بالتيمورْ-: “إنَّه إذا كانَ لدينا كلمة واحدة في اللُّغةِ تُعبِّر عن الحُبِّ، كان لدى اليونانيين ست كلماتٍ لأنواعٍ مختلفةٍ من الحُبّ، من العاطفةِ الجنسيَّةِ إلى الصداقةِ إلى الحُبِّ العميقِ للإنسانيَّةِ، فلا يبدو كلُ الحُبِّ متشابهًا في الدماغِ، كما أنَّ أنواعَ الحُبِّ المختلفةِ، مثل الحُبِّ الرومانسيّ أو الترابط الأبويّ أو المودة من صديقٍ إلى صديقٍ، تأتي بنقاطِ قوةٍ مختلفةٍ. على الرَّغم من أنَّ كل هذه المشاعر تنطوي على المادةِ الكيميائيَّة نفسها في الدماغِ إلى حدٍّ ما، فإنها لا تنبع جميعها من الخلايا العصبيَّة نفسها، أو الخلايا العصبيَّة في الدماغِ. اكتشفتْ “دولينَ” وزملاؤها أنَّ الحُبّ الرومانسيّ يأتي من الخلايا العصبيَّة كبيرة الخلايا، أو الخلايا العصبيَّة الأكبر حجمًا في منطقةٍ ما تحت المهاد، في حينِ أنَّ أشكال الحُبّ الأخرى، مثل المودة تجاه شريك حياتك، تأتي من الخلايا العصبيَّة الصغيرة، أو الخلايا العصبيَّة الأصغر. وكشفتْ أبحاثهم، التي نُشِرَتْ في مجلة “نيورونْ”، عن سببٍ آخرَ يجعل الحُبّ الرومانسيّ يطغى على حواسك. وقالتْ “دولينَ”: “ليس الحجمُ فقط هو المهم”. يؤدِّي الوقوعُ في الحُبّ إلى إطلاق ما بين 60.000 إلى 85.000 جزيءٍ من الأوكسيتوسين في الخلايا العصبيَّة كبيرة الخلايا. وهذا أكثر بكثيرٍ مما هو عليه في الخلايا العصبيَّة الأصغر التي تطلقُ ما بين 7000 إلى 10000 جزيءٍ، فبمجرد إطلاقها، تعمل جزيئات الحُبّ الرومانسيّ والأوكسيتوسين بشكلٍ مختلفٍ.
تأثيرُ الحُبّ في الدماغ
تقول دكتورة “دوليين”: “عندما يتركُ الأوكسيتوسينْ الخلايا العصبيَّة الكبيرة، فإنه يدخل مجرى الدم والسَّائل النخاعيّ المنتشر، الذي يغمرُ الدماغ، وحيثما تصادف الخلايا التي تحتوِ على مستقبلاتِ الأوكسيتوسينْ -الغدد الكظريَّة والرحم والثدي والدماغ- فإنها تربط وتُنَشِّط تلك المستقبلات. وتختلف استجابة المستقبلات حسب العضو، ولكنها تشمل الإرضاع، وقَمْع الاستجابة للتوتر، ومشاعر الحُبّ، بما في ذلك التعلُّق والنشوة. ويتمثَّل أحدُ قيودِ البحثِ في أنَّ معظمَ الحالاتِ المشاركة في دراساتِ الحُبّ كانتْ من القوارضِ وليس البَشَر. ويمكن لمسحِ الدماغِ، مثل التَّصوير بالرنين المغناطيسيّ الوظيفيّ على البَشَرِ، تتبُّع كمية الدم المتدفقة في مناطقَ معينةٍ من الدماغِ. وأضافت أنهم لا يفصلون بين الخلايا العصبيَّة المرتبطة بالحُبّ والخلايا العصبيَّة الأخرى الموجودة في منطقةٍ ما تحت المهادِ. وباستخدام الفئران المُعدَّلة وراثيًّا التي تتوهَّج فيها خلايا عصبيَّة معينة عند تنشيطها، يمكن للباحثين دراسة كيفية تأثير الحُبّ في الدماغ العامل. وقد أوضحت “دوليين” أنه يمكننا حقن الفلورة حتى تضيء الخلايا العصبيَّة التي تُشعِل الحُبّ بالمعنى الحرفيّ للكلمة، كما كشفتْ الاختباراتُ أنَّ أدمغةَ الناسِ تضيءُ أكثر بكثيرٍ عند رؤية صور شركائهم.
هل للحُبّ ذاكرة منفصلة؟
في الحقيقة لم أجد أي بحثٍ يؤكِّد صحة الأمر أو ينفيه، فكل الإجابات العلميَّة المتعلقة بأمور الحُبّ والذاكرة تؤكِّد أنَّ الأبحاثَ التي أُجرِيَتْ ليست كافيةً، لكن البحث الذي أثارَ اهتمامي هو الذي وصفه عالمُ الأعصابِ “كايو تاكاهاشي” وفريقه، بأنَّ الوقوعَ في الحُبّ يُنشِّط بعض مناطق الدماغ نفسها التي تنشط عند تناول المخدرات التي تسبب الإدمان، مثل عقار النشوة أو الكوكايين، وذلك بسبب تأثير تدفُّقِ الدوبامين إلى أجزاءٍ من أدمغتنا، الذي يحتاج إليه الدماغ من أجل تخزين الذكريات طويلة المدى، فوجدَ الباحثون أنَّ حَقْن الأشخاص بمركبٍ يجعلُ الدماغ ينتجُ المزيد من الدوبامين يمكنُ أن يؤدِّي إلى تحسين الذَّاكرة. بمعنى آخرَ، إذا جعلنا الناس ينتجون المزيد من الدوبامين بشكلٍ مصطنعٍ، فإنهم سيؤدون مهام الذاكرة بشكلٍ أفضل من أولئك الذين لا يحصلون على دفعةٍ من الدوبامين. أي أنك في حالةِ الوقوعِ في الحُبّ ستنتجُ المزيدَ من الدوبامين، والمزيد من الدوبامين يعني بشكلٍ عامٍ ذاكرةً أفضل.
لا تثق بذكرياتك مهما كانت قوة ذاكرتك
لا أحد محصَّن ضد تشوهِ الذاكرةِ، ففي دراسةٍ أجراها “ستيفنْ بورترْ” وزملاؤه عام 2008، خلق 41.7 % من المشاركين ذكريات زائفة، وذكريات الحُبّ والأشياء التي حدثتْ في أثناء وجودنا في الحُبّ، يمكن أيضًا أن تتشوَّه بشدة في أثناء العَلاقة أو بعد انتهائها، على سبيل المثال، خلال فترة العَلاقة، تُظهِر الأبحاث أنَّ أولئك الذين يثقون بشركائهم يتذكَّرون الأشياء السيئة التي فعلها شريكهم بشكلٍ أكثر إيجابيَّة من أولئك الذين لديهم ثقة منخفضة. بمعنى آخر، عندما نثقُ بشريكنا، يكون لدينا تحيُّز يجعلنا نتذكَّره باعتزازٍ أكبر. أما الشركاء منخفضو الثِّقة فهم على العكس من ذلك، إذ يتذكَّرون المزيد من التجاوزات التي ارتكبها الشريك، ويتذكَّرون التجاوزات بشكلٍ أكثر سلبيَّةً، ويتذكَّرون عواقب السلوك غير المرغوب فيه كونه أكثر تدميرًا.
هل سنعيد اختيار شركائنا إذا مُحِيَتْ ذاكرتنا؟
وهذا كان السؤالُ الثاني الذي تبادر إلى ذهني بعدما فرغت من مشاهدة فيلم Eternal Sunshine of the Spotless Mind فعندما تصادف “جويلْ” ب “كلمنتينْ” مرَّةً أخرى بعدما مُحِيَتْ ذاكرتهما ووقعا في حُبّ بعضهما بعضًا، بعدما بذلا مجهودًا مضنيًا كي يفترقا وينسيا بعضهما بطريقةٍ صعبةٍ للغاية بمحض إرادتهما. أدركت ما يريدُ الكاتبُ إيصاله، فما فائدة محو الأشخاص لذكرياتهم من رؤوسهم إذا ظلوا بالعقليّة نفسها ونمط الحياة نفسه! فكلاهما لم يتغيَّر، وبالتالي سينجذب وسيجذب النمط نفسه من الأشخاص، وحتى لو حدثَ استثناء، بفرضٍ إذا توافرت نفس الظروف والأشخاص وقتها سيختار الأشخاص نفسهم لا مفر، لذلك وقعا في حُبّ بعضهما مرَّة أخرى، ولذلك أيضًا تُركنا في نهايةٍ مفتوحةٍ بخصوص نجاح عَلاقتهما بعدما عرفا حقيقة ما جرى، فإنجاح العَلاقات عمل ليس هين أبدًا يحتاجُ إلى مجهودٍ كبيرٍ ربما لا يتوافر عند شخص أميل للشَّخصيةِ التجنُّبيَّة مثل “جويلْ”، ولا شخصية أميل للحديَّة مثل “كلمنتينْ” فهي عَلاقة شائكة فجويل كالمصاب برهاب المرتفعات الذي يريد القفز بالمظلات، و”كلمنتين” هي المظلة بالطبع! اثنان من عالمين مختلفين.
مغزى الفيلم لم يكن في عَلاقتهما من وجهة نظري، بل كان في تلك الفرضيَّة تحديدًا، وبأنك تعتقد أحيانًا أنَّ محو أشخاصٍ بعينهم من حياتك سيكون الحلّ المناسب أو سيخفف عنك آلامك ويجعلك أفضل، لكنه ليس الحلّ.
الوعي بالذَّات
يكمُن الحلُّ دائمًا في وعينا بذواتنا قبل أن نخوضَ في أي عَلاقةٍ عاطفيَّةٍ، قد يبدو حلًّا سهلً،ا فمعظمنا يعتقدُ أنه على درايةٍ جيدةٍ بنفسه، وأنه يعرف ماذا يريد ويفهم نفسه ويعرفها حق المعرفة، لكن العَلاقات العاطفيَّة دائمًا كاشفة، فالذي أتى بالشَّريكِ غيرِ المناسبِ هو (أنت) حتى وإن ألقيت أحيانًا على الظروفِ والأقدارِ دوافع اختيارك، لكنْ في نهايةِ المطافِ التنصُّل من مسؤولية الاختيار وإلقاء عبء فشل العَلاقة واللوم على الطرفِ الآخر أوْ الظروف والأقدار مريحٌ لعقلك، وعقولنا تميلُإلى الحلولِ السَّهلةِ وتوفير بذل المجهود والطاقة، وعلى الرَّغم من صعوبةِ رحلةِ الوعي بالذَّاتِ والدوافع قبل الخوض في العَلاقاتِ العاطفيَّة، فإنها توفرُ علينا الكثير من الألمِ والمعاناةِ، حتى لا نتمنى أن نكونَ يومًا في مكانِ “جويلْ” و “كلمنتينْ”، وأنْ نجد مخترعًا ما يمحو جزءًا من ذكرياتنا لمجرَّد أننا لم نتستطع أن نتعامل مع مشاعرنا.
المصادر:
– مجلة لايف ساينس
– مجلة ساينتفك اميركان
https://blogs.scientificamerican.com/mind-guest-blog/this-is-your-memory-on-love/
– دراسة عن الذكريات الكاذبة لستيفن بورتر
https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/09658210802154626#.Vrdz1vFDZb0