فانتازم الخَنْق الجنسيّ

تُعَدّ الخيالات أو الهوامات عنصرًا أساسًا في أي علَاقةٍ جنسية،  ففي جوهرها تقوم كل عَلاقةٍ على فكرةٍ مستندة إلى صورة عن طبيعة الفعل الجنسيّ وكيفية إتمامه بشكلٍ مُمتٍع ويضمن اللَّذة بين أقطاب العَلاقة.

انطلاقًا من خصوبة الخيال الإنسانيّ واتصاله المباشر مع الطبيعة ومشاهدته لعَلاقات الحيوانات وطقوسها، تمكَّن من تركيب عِدَّة عناصر ليُكوِّن صورة تبدو أكثر إمتاعًا.

فقد حاول الإنسان في مختلف  مشارب الأرض ابتكار طرائق عِدَّة لإمتاع النَّفس والآخرين في أثناء العَلاقة الجنسيَّة. فواحد من أقدم المصنَّفات الغربيَّة الموجودة في فَنّ الجنس والوضعيَّات الجنسيَّة يعود لكتاب “الكاماسوترا”، الكتاب الهنديّ المكتوب ما بين القرن الأوَّل والثاني بعد الميلاد. بينما في التَّاريخ العربيّ تعدَّدت الكتابات حول فُنُون المعشر، بداية بكتاب “الوشاح في فوائد النكاح” المكتوب سنة 900 ميلاديًّا على يد جلال الدين السيوطي، مرورًا بكتاب “رشف الزلال من السحر الحلال”، وغيرها من الكُتُب.

وجلّ ما كان يرمي إليه الإنسان هو ابتكار أساليب بغرض تحصيل المُتْعَة، باختلاف تعريفاتها وطرائق تحصيلها.  وانقسمت الهوامات الجنسيَّة ما بين هوامات جنسيَّة تعود للنَّمط الرومانسيّ مثل روميو وجولييت لشكسبير، وهوامات جنسيَّة تعود لنَمطٍ أعنف، تنقسم بين السَّاديَّة نسبة للماركيز دو ساد، والمازوشيَّة لساشر مازوش، التي لاقت إقبالًا واسعًا وتُرجِمَت للكثير من اللُّغات.

 

تنوُّع وموافقة

تنوَّعت الهوامات الجنسية للأفراد، وعَمَدَ الكثير إلى إخفائها والتكتُّم عليها وإبقائها في الغُرف المغلقة، خوفًا من اعتبارها ممارساتٍ مُنْحَرِفَة.

إعلان

فمن الهوامات الأكثر انتشارًا، تلك المتعلِّقة بعدد الشركاء في العَلاقة الجنسيَّة، أكانت عَلاقة ثلاثيَّة، أو رباعيَّة، أو  جماعيَّة. سواء باستخدام الألعاب الجنسيَّة، لعب أدوار معيَّنة لتحفيز الشركاء، استخدام أساليب عنيفة، تتضمَّن التقييد، الخَنْق، الوخز، الجَلْد بالسَّوْط والحَرْق بالشَّمع وغيرها من الأشكال أو كل ما يمكن أن يخترعه الخيال، لإثارة واستكشاف ما يقبل عليه الفرد أو الشركاء.

وكل هذه الهوامات قابلة للقبول أو الرفض من قِبَل الأطراف كلها ولا تعود بخطرٍ فعليٍّ ودائمًا ما تُوضَع في إطار المُمَارسة المشروطة بكلمة أمانٍ مُتَّفق عليها بين كل الأطراف، فالموافقة جزءٌ أساس منها.

من هذه المُمَارسات ما يسمَّى “الخَنْق”، سواء أكان خَنْقٌ ذاتيّ Autoerotic asphyxiation أو بواسطة شريك Erotic asphyxiation. وهذا الهوام يطلق عليه (breath play) لأنَّه يتمحور حول استخدام ألعاب أو أدوات لمنع الأوكسجين من الوصول إلى الدماغ عن طريق قطع مسارات التنفُّس كالأنف والفم، أو من خلال سَدّ إمكانية وصول الدَّم المحمَّل بالأوكسيجين في الشرايين العُنقيَّة للدماغ، ما يُسبِّب الدخول في حالةٍ من الهلوسة وتفاقم الرَّعشة الجنسيَّة في لحظة ممارستها.

فيُطْلَق الإندورفين عند استئناف تدفُّق الهواء، ويبدأ الفرد بأخذ أنفاسٍ جديدة. لهذا إن إفراز الإندورفين، مقترنًا باندفاع الهرمونات المتزايدة بالفعل في أثناء الجماع، هو شعور مرغوب فيه للغاية بالنسبة إلى بعض الأفراد. وهو ليس بالأمر الغريب أو الهجين، بل يُقَال إنه في القرن الـ 17 لُوحِظَ أن الأشخاص الذين كانوا يُنفَّذ فيهم حكم الإعدام شنقًا، يترافق مع إعدامهم حالة انتصاب.

وتبع هذا محاولات طبيعيَّة لعلاج ضعف الانتصاب من خلال عملية لحظيَّة بقطع الأوكسجين عن الدماغ، إلا أن هذا العلاج لم يستمر لتهديد حياة الكثير من الرجال وموتهم.

لا يزال هذا الهوام حتى حاضرنا، الأكثر استخدامًا في العَلاقات الجنسيَّة بشكلٍ عام والسَّاديَّة خصوصًا، من خلال استخدام عدة أساليب منها: استعمال كيس بلاستيك في الرأس لقطع التنفُّس، أو بلف حبل حول العُنق لقطع الدَّم عن الوريد، وضع كرة في الفم وعادةً تكون مع حزام لربطه في الرأس، أو قطعة قماش للأنف والفم لمنع التنفُّس، مشد للصدر لتبطيئ القدرة على التنفُّس، واستبعاد الأكسجين باستنشاق غاز آخر، وأساليب أخرى بين ذاتيَّة وغيريَّة.

لذَّة قد تودي بالحياة

وقد وثَّقت بعض التقارير الأمريكية أن ما بين 250 إلى 1000 حالة سنويًّا حول العَالَم  يقضون نحبهم بسبب الخَنْق الذاتيّ الجنسيّ. ويعود هذا الرَقْم الكبير لعاملٍ أساس، وهو ممارستهم هذا السلوك وهم وحدهم مما يعيقهم عن العودة للحالة الأولى، فبعضهم يفقد السَّيطرة بالاستناد إلى كرسٍ، أو طاولة، وقد ينزلقون عن مقعد الحمام ويتسبَّبون بشَنْق نفسهم أو أحيانًا كسر عنقهم وارتطامهم، وقد يفقدون القدرة على تمزيق الرباط حول الأنف والفم في الوقت المناسب مما يُسبِّب الوفاة اختناقًا.

كذلك الأمر بالنسبة إلى هوام الخنق الذي يمارسه الشَّريك على شريكته والعكس أيضًا، وهي عملية معقَّدة جدًا على المستوى النفسيّ، لأنها قد تدخل تحت اسم المازوشيَّة لكنها أقل خطرًا على مستوى إمكانية التسبُّب بالأذى المُميت، لأن الطرف الآخر موجودٌ لحَلّ العُقَد أو تحرِّير الشريك. والخَنْق يأتي في هذه الحالة بالاتفاق بين أطراف العَلاقة. وهو خَنْق باليد عادة على العنق  أو وضع ألعابٍ جنسيَّة أو قِطَع معيَّنة في فَمّ المتلقِّي، وينُمّ عن عملية سيطرة من طرفٍ على آخر.

فالخَنْق هو شكلٌ من التقييد والضَّبط وهوام الهَيْمَنة على الآخر الذي يلعب دور المتلقِّي، ويعيش بدوره هوام الضَّحية وبعضهم يعيش في دور المتعرض/ة للاغتصاب وهو من أكثر الهوامات انتشارًا.

ويعود هذا في بعض الأحيان إلى نمط  العَلاقات الأُسريَّة الأولى التي يُهيمِن عليها التسلُّط والعقاب للمُتلقِّي السَّالب أو حُبّ السَّيطرة والنرجسيَّة للموجب في العَلاقة، أو التمرُّد وطلب العقاب لدى النساء أو لدى الرجال يكون العقاب بالخَنْق محفِّزًا للاستمرار بالقوة، لأنه مقاومة وخروج عن الطاعة.

وبمعزل عن أنه قد لا يتسبَّب بالمَوْت، لكنه يمكن أحيانًا أن يترك آثار جروح على الرقبة، وقد يتسبَّب الضغط المتكرِّر  بالأذى للقصبة الهوائيَّة، وبعضها يتسبَّب في مشكلات معويَّة كالغثيان والقيء.

في النهاية، ربما أصبحنا اليوم أكثر من ذي قبل على استعدادٍ للحفر عميقًا لاكتشاف رغباتنا وهواماتنا ومحاولة تخطي حدود المألوف. فاليوم أصبحنا أكثر من ذي قبل على وعيٍ بالمُحرَّمات التي تشيد الرَّغبة وتكبتها وتجرنا للعصابات. واليوم أصبحنا أكثر وعيًا بصورة جسمنا وتفاصيله أمام مرآتنا.

وإن كل ما يأتي باللَّذة على صاحبه مشروع،  وإن كان غير مُقنِعٍ للآخرين. فحساسيَّة أجسامنا مُغَايرة، كذلك مناطق الشُّعور بالمُتْعة تختلف لدينا بحسب خبراتنا الطفلية تجاه هذه الأماكن وبحسب كيفية فتحنا لها المجال للتحرُّر من قيود المُحرَّم والممنوع.

لكن هناك شعرة ما بين اللَّذة والمُتْعة المحدودة باللحظة، وما بين الاندفاع نحو تحصيل اللَّذة حتى الموت. وهو ما أطلق عليه فرويد دافع الموت ثيناتوس مقابل دافع الحياة والإيروسيَّة وما وصفه جورج باطاي بالتفكُّك والانفصال مقابل الاتِّحاد والاتِّصال.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد الأمين

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا