فيلهلم رايش يُدشِّن مسارًا جديدًا للتَّحليل النفسيّ

كان التحليل النفسي عند فرويد يتَّجه نحو مسارٍ محدَّدٍ، فهو المُعلِّم الذي اخترع الطريق ولا يودّ لمن يأتي بعده أن يتجاوز ذلك -رغم أنه أبرز وأهم المتمرِّدين على أستاذه- ويتضح ذلك حين شَكَّ في إمكانيّة ذلك، عمل على جمع من يعدَّهم مخلصين له في اجتماعٍ سريٍّ في منزله الخاص، ومعه الأتباع فقط، من ضمنهم جونز، ورانك، وأبراهام، وساكس وغيرهم. وأعطى لكلٍ منهم فصًّا عتيقًا من الخاتم الذهبيّ الذي يرتديه دائمًا.

ولعلَّني أتساءل: أكانت تلك رمزيَّة لعَلاقة الأُبُوَّة بينه وبينهم، أم كانت محاولة لتشكيل حزبٍ وحركةٍ لها كيان سياسيّ واجتماعيّ؟

فرويد؛ الأب الذي لا يأبى بوجود منافسٍ له، إلَه بلا شريك، وكشأن أغلب المذاهب، هناك تأويل واحد صحيح والباقي يُسْتَوعب كتحريفٍ عن النظريَّة الأساسيَّة، بذلك يُألَّه المنظِّر ومن ثَمَّ على الباقي أن يبرهن على مدى صحة عبقريَّته، وأن يعمل في إطار فلكه فقط، وإلَّا الخروج للأبد والطرد من نعيمه!

سنحاول تناول الطريق الأصيل الذي رسمه فيلهلم رايش (Wilhelm Reich) وانشقاقه عن المسار الكلاسيكيّ بشجاعةٍ لا يختلف عليها أحد، لدرجة نبذه من كلا الاتجاهين اللذين انتمى إليهما يومًا ما: الماركسيون بتهمة البرجوازيَّة واعتبار الجنس أداة لإلهاء الجماهير، والمحلِّلون المتزمِّتون بتهمة تسييس الرابطة، وفرض قيود على البحث العلميّ.

صدمة الطفل وثورة الشاب

كان لطفولة فيلهلم رايش أثرٌ كبيرٌ في عملية اختياره لتخصُّصه بعد ذلك، وهو دراسة علم الجنس قبل أن يكون طبيبًا، إذ عانى من قسوة الأبّ و تشكُّكه بتوجُّسٍ من عَلاقات أُمّه، التي فقدها نتيجة انتحارها بسبب التابو الجنسيّ حينها. بدأ يدرس الجنس ويقر بتفرقة التحليل النفسيّ بين مفردة الجنس والتناسل، التفرقة التي كانت غير شائعةٍ في المجتمع البرجوازيّ.

إعلان

وقد قدَّم لفرويد بحثًا عن صراعات الليبيدو وتكوُّن الذهانات لدى بيرجنت، مما ساهم في دخوله رابطة التحليل النفسي، رافعًا شعار علم الجنس بعكس المحلِّلين الآخرين، الذين كانوا متردِّدين إزاء ذلك، بشكلٍ ما. وبعد ست سنواتٍ من الانضمام إليهم عمل على إحياء مشروعٍ جديد، ورؤية تحليليَّة مختلفة بكتاب وظيفة الأورجازم، الذي يوضِّح فيه كيف وإلى أي مدى أُسِّسَ الكبت واللَّذة والشُّعُور بالسَّعادة، وهو ما فتح الباب تمهيدًا بعد ذلك لهربرت ماركوزه وإيريك فروم ومن جاء بعدهما في طريق اليسار الفرويديّ.

على الصعيد الآخر ساهم انضمامه للحركة الشيوعيَّة في إثارة التساؤلات للبحث عن الجذر الاجتماعيّ للأمراض العقليَّة، محاولًا التوفيق بين التحليل النفسيّ والماركسيَّة، وبدأ يشعر أنه وجد طريقًا آخر ينفتح له، مما سبَّب بعد ذلك في انشقاقه عن الرَّابطة الأُمّ.

كان رايش يرى أنَّ العُصاب يحدث بسبب القمع الجنسيّ، وعلاجه بالتحرُّر والثَّورة وليس من خلال العيادة، رغم أنه في البداية كان يؤمن بأهمية العلاج وساهم في تغيير توجُّه التحليل النفسيّ، لينصب حول الطبقة العاملة وليس البرجوازيَّة، بخلق عيادات مجانيَّة لهم.

لكن حتى تلك العيادات في رأيه لم يكن بمقدورها أن تفعل شيئًا إزاء التعاسة البشريَّة الكُليَّة، لذا كان يُفضِّل الحلول الجذريَّة والعلاج من العطب الدخيل، وهو تفكُّك المُركَّب القمعيّ المُتمثِّل في شكل العائلة البرجوازيَّة. بعكس ما كان يرى فرويد بأنَّ القمع حتميٌّ ومرتبطٌ بالحضارة، وهذا البؤس الإنسانيّ والسَّأم مرتبط بعقدة أوديب التي يصعب تخيُّل مجتمع ينمو بدونها، أي بدون كبتٍ وبدون الشُّعور بالذنب تجاه الأَبّ، حتى إن كان على مستوى رمزيّ.

جَدَل المادة وجدل الغريزة:

ربما كان عليك أن تتحمَّل وحيدًا، القدر الشاق للتحليل النفسيّ

– من فرويد لرايش، التي صارت نبوءته حقيقة.

يرى فيلهلم رايش في التحليل نفس ذات ثوريَّة الماركسيَّة، لأنه يقوم على أساس فكرة الكبت في المجتمع البرجوازيّ لصالح  الخضوع للسُّلْطة والإبقاء على نظام ٍاجتماعيٍّ متسلِّط، بالتالي يواجه كلٌ من التحليل والماركسيَّة موضوعًا واحدًا، وهو المجتمع البرجوازيّ القمعيّ بطبيعته، بترسيخ نظام العائلة وانتقال الأفكار المتسلِّطة عبر الأَبّ.

ومن جهة الماركسيَّة نرى أنَّ العصر الرأسماليّ يعمل وَفْقًا لمبدأ الواقع، أي تقييد رغبات البروليتارية وإخضاعها بمبدأ الحضارة، فمثلًا بدأت البرجوازيَّة بعيدة عن الدِّين والكنيسة بالتحدِّيد، ثُمَّ بعد ذلك أعادت إدماجه لخضوع الطبقة العاملة وتقييد الحريَّة الجنسيَّة لصالح الإنتاج والعمل.

يفسِّر فيلهلم رايش العصاب بكَوْنه نزاع أضداد بين مجتمعٍ مكبَّلٍ بالواقع ودافع يسعى للخروج والانقلاب، لكن ذلك الدَّافع بكَوْنه غير مقبولٍ اجتماعيًّا نصل لصراعٍ جدليٍّ بين الأنا والعَالَم الخارجيّ، ما يمكن أن يؤدِّي إلى عصابٍ، إذ تأخذ الرَّغبة منحنى جديد لها شكل آخر، أو تُدجَّن الرَّغبة من الأساس ويتم كبتها. لذلك هو يرفض بشدة التحليل المحافظ المعتمد على الجانب الاجتماعيّ الأخلاقيّ أو الدِّينيّ، لأنه يخضع لنفس الشروط الاجتماعيَّة التي أنتجت العُصاب من الأساس، ومحاولة زج الفرد للتكيُّف مع الواقع القمعيّ!

ولا يُعَدّ غريبًا أن يعتمد علاجه على تحرِّير الطاقة الجنسيَّة المكبوتة، واستبعاد غريزة الموت التي تضع نهاية للتحليل، بكَوْن الشقاء حتميًّا، ولا يمكننا فعل شيء إزاء ذلك. لذلك اعتمد على النضال والثَّورة ضِدّ الآيدلوجيَّات القمعيَّة، ونقد الجهاز القمعيّ المتمثِّل في العائلة باعتبارهم ناقلًا لأجهزة الكفّ والكَبْت لأطفالهم. وإقامة مشروع السيكسييول مستفيدًا من تجربة الاتحاد السُّوفيتيّ في موسكو بنقد العمل المُسْتَلب وارتباطه بالنظريَّة الجنسيَّة، والأخلاقيَّة الجنسيَّة وتناقضها.

الإشكالات مع النظريَّة الكلاسيكيَّة

أن تكون جذريًا، هو أن تأخذ المسائل من جذورها، والحال أن جذر الإنسان هو الإنسان نفسه”

كارل ماركس

انطلق رايش بشكلٍ أساسيٍّ من ركيزة السبب الجنسيّ للعُصاب، إذ رأى أنَّ الحياة المُسْتَلبة نتيجة للكَبْت الناتج عن الحياة الجنسيَّة، بالتالي الحلّ يكمُن في النضال ضِدّ الآيدلوجيَّات القمعيَّة واستحقاق العمَّال لحقوقهم.

وبدأ نقده بنواة المجتمع الأولى: العائلة، التي كان يعدها مسئولة عن انتقال وترسيخ القِيَم المتسلِّطة بالنسبة إلى الفرد، فلم يختلف رايش جذريًّا عن المثلث الأوديبيّ الكلاسيكيّ المتمثِّل في الأبّ والأمّ والطفل، لكنه يتعارض مع الشروط الأوليَّة التي شكَّلت العائلة بشكلها المعتاد الآن وتغيُّر دورها حسب حاجة المجتمع لذلك، مما يساهم بشكلٍ كبير في تكوين العُصاب.

أيضًا كمساعد فرويد الأوَّل من خلال ملاحظاته العياديَّة، شعر أنَّه من المستحيل شفاء العُصاب وتغيير الحياة العاطفيَّة دون تغيير الحياة الماديَّة أولًا وتحسين الظروف الاقتصاديَّة، خاصة أنَّ عمله كان بشكلٍ أساسيٍّ مع الطبقة العاملة.

وبدأ رايش يلمس الفجوة بين النظريَّة الفرويديَّة وإمكانيّة التطبيق الفعليّ على مدى واسع. ربما ساهم ذلك في جعله الوحيد من جيله من يبحث عن الحلول الجذريَّة، وتدفعه التساؤلات عن الأوضاع الاجتماعيَّة بإصرارٍ شديد وبمحاولة جادة لوضع حدٍّ نهائيٍّ للبؤس الإنسانيّ.

غريزة المَوْت

إرجاع الحروب والبؤس الإنسانيّ وصراعاته إلى الطبيعة البيولوجيَّة، أي غريزة الهدم والبناء “الحياة والمَوْت” كان بالنسبة إليه لا جدوى منه، وهو بالمناسبة ناتج من تشاؤم فرويد التاريخيّ، بكَوْنه جزءًا متأصِّلًا في البشر، لكن رايش رأى ذلك  كحائطٍ مانع ضِدّ ثوريَّة وراديكاليَّة التحليل، ومدى قدرته للوصول للجذور ونقدها، وليس مجرَّد تقبُّلها و تكيُّف البشر معها كما هي!

ويتحرَّك من خلال نقده لغريزة العدوان والمَوْت بعد ذلك إلى إمكانيّة وصول البشر للسَّعادة، وإمكانيّة أن نتساءل عن الوضع الإنسانيّ كما هو، والتحرُّك ضِدّ القمع والآيديولوجيَّات المسيطرة، ومُعَايشة النظريَّة النفسيَّة للحياة الاجتماعيَّة للفرد، ولذلك أخذ رايش ينضم للحزب الماركسيّ ويناضل سياسيًّا لجانب الشيوعيين، ويسعى عبر الكتابة لمحاولة إيجاد مخرجٍ لهذا العصر.

الخروج من كنف المذهب لعالمه الخاص

كان رايش عنيفًا ومتحمسًا، لا يشبه أبدًا المحلِّلين الذين استوعبتهم البرجوازيَّة الأوروبيَّة تمامًا، كان كالشَّوكة في اللَّحم، فهو مزعج ولا ينصاع للأوامر

– بالميه

كان فيلهلم رايش يدافع عن التحليل النفسيّ أمام الماركسيين، باعتباره نقدًا جذريًَّا للمجتمع وآليَّاته، ويدافع عن الماركسيَّة باعتبارها أداة قويَّة لفَهْم الطبقة البرجوازيَّة والشروط التي تُظهِر العُصاب وإمكانيّة التخلُّص منه بعد ذلك.

ومع ذلك ينتقد ويتصادم مع البُنَى القمعيَّة ويذهب بعيدًا ليغرِّد خارج سرب الحزب الألمانيّ الاشتراكيّ، ليس هذا فحسبب، بل تجرَّأ على ممارسات الاتحاد السُّوفيتيّ القمعيَّة التي ما زالت تتمسَّك بالأخلاق الجنسيَّة في بنية الزواج، ومنع الإجهاض وخلافه، في ظل الإصلاحات السُّوفيتيَّة المزعومة.

برغم انتقاد ماركس الجذريّ للعائلة، واستخدام الأطفال كأدواتٍ للعمل كعبيد، لزيادة ثروة العائلة، وإعادة بناء العَلاقات على نحوٍ مغاير، ورغم سياسات لينين بزوال السُّلْطة الزوجيَّة وعدم التفرقة بين الأطفال الشرعيين وغير الشرعيين، عادت البنية للعائلة بشكلها القمعيّ مرة أخرى، وترسيخ السُّلْطة الأبويَّة، وبسبب تلك الانتقادات أصبح رايش شيئًا فشيئًا منبوذًا، وبعد فترةٍ طُرِدَ من الحزب للأبد.

وعلى الصَّعيد الآخر، وبالرَّغم من عمله مع فرويد لفترةٍ في ظل الاختلاف الكبير بينهما، سواء في النشاط السياسيّ، أو في الدمج والتوفيق بين التحليل والسياسة، ممارسة التحليل في قلب المعاناة الإنسانيَّة وليس لفئة مخصَّصة. لكن نضاله ونقده للمؤسَّسات البرجوازيَّة أزعج قدسية التحليل وأثار تخوُّفًا كبيرًا حول فرويد والتحليل النفسيّ، لذا طُرِدَ من الجمعيَّة نهائيًّا حتى بدون إخباره أو إبداء أي أسبابٍ له. ليُفَاجَأ بفصلٍ مزدوج من القضيتين التي آمن بهما طوال حياته، ومع إحباطه وقلقه ونبذه وطرده من بلدان مختلفة لم يجد أمامه سوى إمكانيّة البدء من جديد.

ونلمس في كتاباته الأخيرة هذا التخبُّط، فقد نحَّى كل ما كتبه جانبًا وبدأ يكتب كتابة علميَّة رصينة لا تهتم بالخبرة اليوميَّة، ومحاولته لإثبات آرائه من خلال العلم، ومحاولة اكتشاف وحدة الطاقة الجنسيَّة التي سرعان ما فشلت بالطبع بعد محاولاتٍ كثيرة.

وعند تأسيس مؤسَّسة الأورجون، بدأ شيئًا فشيئًا بالتخلِّي عن خبرات الطفولة كمحاولةٍ لتفسير العُصاب واستعاض عنها بالأمراض الجنسيَّة التناسليَّة للفرد ومحاولة علاج الشَّخص من منظورٍ تناسليٍّ بحت، واهتم برصد الأورجون الفضائيّ وتياراته، ومحاولة علاج المرضى العصابيين بواسطة مدخر الأورجون، لينتهي مساره باكتشاف مدى زَيْف تلك الأدوات ولا عقلانيَّتها، واعْتُقِلَ بتهمة الغِشّ والتدليس ونَشْر الخرافات. لنرى في النهاية أنَّنا أمام شخصٍ يتخبَّط بفعل الطرد من عالمه المفضَّل ونبذه من الطرفين، لذا ربما لم يكن أمامه غير محاولةٍ بائسة لخَلْق عالمٍ بديل.


المراجع:

اليسار الفرويدي(2020)، بول آي روبنسون، المحروسة، مصر. 

رايش والتحليل النفسي(1983)،  قيس خزعل جواد. دار الحداثة، بيروت -.لبنان.

الماركسية والتحليل النفسي(1980)، د. أوسبورن، دار المعارف، مصر.

النظرية الفرويدية الماركسية(1974)، بالميه، دار القدس، بيروت- لبنان. 

المادية الجدلية والتحليل النفسي(1929)، ڤيلهلم رايش، دار الحداثة، بيروت -لبنان. 

ما الوعي الطبقي(2018)، ڤيلهلم رايش، دار الطليعة، بيروت. 

مهمة فرويد(1972)، ايريك فروم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- لبنان

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نور حمزة

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا