ديالكتيك الرغبة اللاكانية

يرى جاك لاكان اللُّغة بناء محكمًا للوجود، لذا من البديهيّ أن يبني لاكان نسقه عبر اللُّغة، ونراه متأثِّرًا بالفلسفة واللُّغة والأنثروبولوجيا، ومؤثِّرًا فيها. ومن المهم قبل البدء في طرحنا عن الرَّغبة لدى جاك لاكان أن نمر باختصارٍ -عبر الاستهلال اللاكانيّ- على أهم المصطلحات والمفاهيم الخاصة بنسقه.

في البداية، نرى البنية لدى جاك لاكان غير ثابتة، ديناميَّة وتتبدَّل باستمرار، دائمًا ما ينقصها عنصر، كل عناصرها تخضع للقانون نفسه، أي أنها “كل” يتميَّز بالتحوُّل والتبدُّل دائمًا، كيان متحد لكنه غير مكتملٍ ينقصه عنصر، وهذا العنصر هو ما يجعل البنية في حركةٍ ديناميَّة، لأنها تحاول الاكتمال سعيًا لاسترداد هذا العنصر المفقود، كأنه إحباط دائم من تواصل الفشل في الانغلاق الذَّاتيّ المحكم وتكراره مرَّة تلو الأخرى. 

كان من الأفضل لدى لاكان، تجنُّبًا لالتباسات اللُّغة، صياغة أفكاره في معادلاتٍ وعَلاقاتٍ رياضيَّة، في جوهر كل منها شكل البنية -من الجانب العلائقيّ لها- وبما أن اللا وعي  مُشيَّدٌ كبنيةٍ لغويَّة، فيمكن التَّعبير عنه في عَلاقاتٍ رياضيَّة، لا تشبه العلم الجامد مفاهيميًّا في شيء، لأن في ذلك اغترابًا للتحليل النَّفسيّ، لذا وَضَعَ جهده في الخطاب وتحليله ووضع بنية له، كما أنه عبَّر كذلك عن مستويات تحاكي أنظمة فرويد الثلاثة:

  1. نجد المستويات الرمزيّ، والخياليّ، والواقعيّ.
  2. مُحَاكاة للأنا الأعلى، الأنا، الهو/ الهي.

وبناءً عليه سنحاول هنا، سبر أغوار جاك لاكان، ومعرفة الفرق بين اللغة والخطاب لديه، وتعريفه للبنية، والخطابات الأربعة، وكناية الرغبة، والاستعارة الأبوية، وذلك قبل أن نتطرق لمحاولة تتبع الجدل في الرغبة اللاكانية. فهو يذكر أنَّ “اللا شعور مشيد كلغة”، فماذا عن بنية اللغة والخطاب لدى لاكان؟

خلقت اللغة الذات، وأعطتها الإمكان الحقيقي لوجودها، لتستطيع التعبير عن ذاتها، وربما قامت باستلابها في الآن ذاته، فهي سجنها وحريتها، بإمكاننا القول إن اللغة كآخر كبير يمنح الإنسان ماهيته.

إعلان

أما الخطاب، فهو يمتاز بالتنقُّل والترحال الدائم، كأنه سردية خاصة في حدود مجال معين، محادثة شفهية أو كتابية، تعبر عن بنية مجتمع ما، في وجود روابطه المتمثلة، لذا ما من وجود لخطاب حر تمامًا، هناك الآخر المتمثَّل في الأب، والقانون، والعائلة، والتاريخ الذي يحكم كل خطاب. 

إنَّ اللا وعي ليس ما يضاد الوعي، أو ما يعكس الشعور، اللا وعي يتحدَّث عبر اللغة، ليعبِّر عن ذاته بواسطة الألسن أي عبر الخطاب، كأنه يحمل التاريخ الفردي والمفردات الفريدة لكل منا، لكنه يكتسب دلالتها عبر قوانين اللغة، وهو ما يوضِّح الاعتقاد اللاكاني أنَّ العرض يكون دالًا لمدلول مكبوت في وعي الشخص، وبما أنه تاريخ فإن خصائصه تتمثل في الطمس أو المحو، ويتكلَّم رمزيًا عبر اللغة، إذ: 

  1. – يحلِّ الرمزي محل الأنا الأعلى، كما نراه في الثقافة، واللغة، والقانون.
  2. – والمتخيَّل محل الأنا، حيث الوهم، والحقيقة، والتغيُّر، والسراب.
  3. – والواقعي محل الهو، حيث الرغبة وموضوعاتها.

لكن هناك إشكالية في ذلك، فلاكان يرى استحالة تحقق الطلب، إذ إنَّ الحقيقة تكون مخفاة عبر اللا وعي –أي بها جزء لا واعٍ– فيختبر الخطاب إخفاء حقيقة الرغبة، ويمكث في دوامة الطلب، لعدم حصول الإشباع، وعدم اكتمال البنية بشكل نهائي. 

ولنأخذ من الخطابات الأربعة، الخطاب الهستيري نموذجًا: فسنجد ذات متسائلة طوال الوقت، رغبة، تدفع السؤال لإنتاج معرفة، والمعرفة تولد أسئلة أخرى، مع استحالة التعبير عن الذات لأن الحقيقة مخفاة، فيتم الطلب مرة أخرى، وهكذا.

الدال والمدلول والاستعارة والكناية

 لدى “دوسوسير” الصور الذهنية “المدلولات” تبحث عن دوال “أصوات” بشكل متسق يشبه صفحتي الورقة، أو تآزر الليل والنهار.

وعند لاكان من خلال خبرته العيادية، نرى سيادة الدال على المدلول وبينهما حاجز لا يمكن اجتيازه ويحدث الربط من خلال عقدة اللحاف، التي تعمل على ربط الدوال في السلسلة الدلالية لتكوِّن معنى. بالتالي يكون له قيمة أكبر من المدلول، لأنه يخلق أثر مدلوله عبر السلسلة الدلالية، ومنه ينتج أنَّ الدال والمدلول ليسا بثنائية، بل لكل منهما وجود مستقل تمامًا، وذلك الحاجز يمكن اجتيازه عبر الاستعارة.

تتمثَّل عملية التكثيف –الاستعارة من خلال دمج فكرتين أو أكثر بشكل مركب، لكن الكناية- الإزاحة تقوم بتوجيه الفعل نحو موضوعات بديلة. أي أنَّنا في الاستعارة اللغوية نستبدل بكلمة كلمة أخرى. بالتالي يتولَّد معنى جديد في السلسلة الدلالية.

في الكناية، يتم إحلال الكلمة بكلمة تشبها وتجاورها، وهي بالطبع مكمن الخداع للرقابة في أثناء الأحلام، إذ يحل رمز أو شيء سطحي محل شيء لا نريد أن يظهر، ويمكن أن نصل لها من خلال التداعيات الحرة في الجلسة التحليلية.

الاستعارة الأبوية

في سنوات الطفل الأولى، يلعب الأب دوره كوسيط بين رغبتي الأم والطفل، وتمثِّل تلك قطيعة تلي انفصاله عن رحم الأم؛ إذ يبتعد الطفل عن عالم الأم المتمثَّل في الحنان وإشباع حاجاته، لعالم اللغة والثقافة (عالم الرمز)، بالتالي مهمة الأب هنا هي التوفيق بين وظيفته وبين الرغبة. إذًا على المستوى اللاكاني، يحل اسم الأب محل رغبة الأم حتى تتشكَّل الذات (كبت بشكل لا واعٍ).

يتنازل الطفل عن ثدي الأم، وتتنازل الأم عن الفالوس الذي ينقصها، الذي يتمثَّل في السلطة والمكانة، ليس البُعد الجسدي للقضيب، بل ما يمثِّله من حضور وقيمة وكمحرِّك للرغبة ومستودع الرغبات المكبوتة وممثِّل اللغة في آن واحد.

لذا يختبر الطفل/ الطفلة وكذلك الأم قلق وصدمة الخصاء معًا، إذ في المرحلة الأولى يحاول الطفل أن يكون القضيب المتخيَّل بالنسبة إلى الأم، وفي المرحلة الثانية يدخل الأب المتخيَّل وفقًا لقانون منع سفاح القربى، لذا يختبر الحرمان، ثم يتدخَّل الأب الحقيقي أو الواقعي فيتنازل عن رغباته ويمر بالقلق، ثم يحل محله الرمزي أي اللغة والنسيج الاجتماعي بعد ذلك، ويتم تأجيل تلك اللذة إلى المستقبل. ومن خلال الاستعارة الأبوية نستطيع الوصول  إلى الأنظمة اللاكانية لتشكُّل الذات، عبر الإسكيما، (Z,L)

مخطط تفسيري

الرمزي، المتخيل، الواقعي:

طرح فرويد عقدة أوديب عبر مثلث، الأب والأم والطفل، الذي يتأرجح بينهم، بين رغبة الأم في الفالوس، ورغبة الابن في التماهي مع الأم، والأب المتمثل في سلطة القانون لنهاية التثبيت عند مرحلة الطفولة، فالأب هنا هو سلطة القانون -كما هو مذكور سابقًا- والنظام الثقافي السائد، والمعني بالتحريم والتداخل لتنظيم الرغبة.

والأم هنا تحل محل الرغبة التي يستحيل إشباعها، وعلى الأم التضحية بها. وهناك الطفل ورغبته، وهي رغبة الأم في ذات الوقت، كآخر كبير.

ولدينا أيضًا الذات التي تنتمي للبعد الواقعي، إذًا نحن أمام مستوى متخيل بين الأنا (الطفل) والرغبة (الأم ) وبين مستوى رمزي الآخر (الأب) والذات الحاضرة الغائبة. 

يعكس المتخيل الرغبة ويتحد مع الرمزي عبر اللغة والرموز، ويتجسد المتخيل بشكل واضح في مرحلة المرآة بواسطة التكرار، عبر جدل الحضور والغياب، حين يبدأ الطفل إدراك حضوره كذات من خلال الصورة المرآوية، فيظهر غياب أو موت للأنا لتحضر الذات، كأن الشخص يحاول تكوين صورة عن الأجزاء المشوهة الممزقة، لكنها تبدو هوية مستلبة، تعطي له اللغة جدلية الأماني مع الآخر، لتشكل ذاته.

واللغة هنا تأخدنا عبر السياق الثقافي الذي يؤثر فيها، والدين، والتقاليد، والفن..إلخ. أما بالنسبة إلى النظام الواقعي فهو موجود قبل المستوى الرمزي، كأنه الأفق، أو الخلفية التي تعمل على خلق البنية، وتؤثر في اللغة.

مخطط تفسيري

الرسالة المسروقة نموذجًا:

تبدأ القصة باستلام رسالة تم إخفاء محتواها من الملكة، يصل الوزير ومع أنه لا يرى مضمون الرسالة لكنه يفهم من الخط ويقوم باستبدالها، ثم دوبين يكرر العملية نفسها ويستبدل الرسالة مرة أخرى.

استنتج لاكان من ذلك، وجود بنية واضحة مع اختلاف وتغير الشخصيات، أي تكرار وإزاحة الموقف نفسه عبر ثلاثة مشاهد، لذا نحن أمام صراع الآخر الكبير، والذات والأنا المتخيلة ورسالة معكوسة تدور ها هنا، مع حقيقة غائبة مخفاة تحدث تلك الحركة، لتظهر أبعاد لاكان الثلاثة.

إنَّ الشخص الموجود الأعمى من يمثل الواقع، المتخيل مكان دوبيين والرمزية في اللغة، لذا المحلل يقرأ المعنى، والصمت ما هو خلف المعنى، ودوره ليس تتبع وراء سراب الحقيقة الغائبة، بل تحديد موقعه داخل البنية مع تكرار الإزحات في السلسلة الدلالية، وسيادة الدال عن الدلالة، فالدال يطرح نفسه دائمًا والكبت يفشل أحيانًا في الصمود.

لنتمكَّن من الحديث باستفاضة عن جدل الرغبة، سنحتاج إلى التفرقة بين مصطلحات أساسية:

الحاجة– الطلب– الرغبة 

إنَّ الحاجة تعبر عن نقص غذائي، توتُّر وصراع يدفع الطفل لإشباع الجوع، أو لتحقيق الراحة. والطلب يعبر للآخر عن حاجته واحتياجه للإشباع، أي يبدأ ظهور الآخر المسؤول عن تلبية تلك الحاجة.

أما الرغبة فنحن هنا أمام سراب، ينتج من خلال طرح الحاجة الدائم في صورة طلب، حرمان يبحث عن إشباع ولا يتحقق أبدًا، بالتالي تبزغ الحاجة من جديد في صورة طلب وصراخ وتدوم هذه الدائرة. 

مع وجود الآثار الذكراوية، التي تبحث عن التشكل مرة أخرى، لنفترض أننا أمام رضيع يبكي ويصرخ من الجوع، الرضاعة ها هنا تعبر عن حاجته إلى الغذاء والأمان في آن واحد، البكاء أو الصراخ هو أداته في طلب حاجته، الرغبة هنا تتكون من استحالة الوصول لإشباع نهائي، لذا يحدث ذات التوتر، وفي صورة الطلب ذاتها.

فالطفل إذًا يختبر عدة مستويات من القلق المكثف، بداية من انفصاله عن الرحم وصورته عن ذاته الممزقة، ثم انفصاله عن رغبته في الأم وحميمية العلاقة بينهما في المركب الأوديبي للولوج إلي العالم الثقافي، وأخيرًا الاصطدام برغبة الآخر الكبير المبهمة؛ لذلك  تتمثل الرغبة في أن أكون مرغوبًا من الآخر.

نحن أمام رهين خيالي، الآخر، رهين الواقع والقانون ورهين الآخر الأكبر الثقافي عبر اللغة، ورهين رغبتنا! وحين يصطدم الطفل بأنَّ رغبة الآخر الكبير مبهمة، أي لا يعلم بالتحديد ما الذي يريده، يشعر بالقلق أيضًا.

هنا تمثِّل الحاجةُ –البيولوجية– الطعامَ. والحفزة لذة الفم، التي لا يتم إشباعها بشكل دائم، وذلك يخلق شيء من الإحباط وعدم الرضا الدائم. أما المظاهر الجسدية والصراخ وغيرهما، يمثلان شكل الطلب. وفيما يتعلق بالرغبة فهي العملية الدينامية، التي تعبر عن شيء مجرد، لا يظهر إلَّا عبر الآخر الكبير

يقول جاك لاكان في أحد سيمناراته: “رغبة الإنسان هي رغبة الآخر، أي الرغبة تمثل رغبة في رغبة الآخر”. فنحن أمام جدل الرغبة لدى لاكان، تظهر الرغبة كرغبة آخر كبير، متمثلة في الأم والأب وربما اللغة. فمثلًا حين تقدم الأم لطفلها الطعام، فهي تقدِّم رغبتها هي كآخر، وحتى في أوقات الراحة نحن هنا أمام استجابة لرغبة الآخر الكبير في إشباع الحاجات، فالطلب في مضمونه رغبة في الحب، التي يتبعها الآخر الكبير كانعكاس له، وتتولد المتعة من إعادة إنتاج الخبرة الأولى، اللذة التي يبحث عنها.

إذًا نحن أمام إشكالية كبرى، الطلب غير مفهوم، الرغبة مبهمة والإشباع رمزي، مع كل طلب يتم خلق حاجز بين الحالة الأولى والإشباع الجديد، نظرًا لتأخُّر الاستجابة أو الاستجابة بشكل مختلف، أي مع كل طلب يحدث خسارة لشيء لا يمكن تعويضه مرة أخرى.

وأيضًا أمام جدل اللا شعور واللغة، فنحن ذوات مفعول بها وليست فاعلة عبر اللغة، كأن هناك ذات أخرى مسبقة، تطرح دلالات مختلفة، والخطاب هنا يخادع الذات، ينشق عنها، كأن وجود اللا وعي المشيد كلغة يجعل الذات منشطرة بين ما لديها من نية لقوله وبين رغبتها، بين الوعي واللا وعي، فأغلب الخطابات تكون بلا معنى، تكرار للكلمات، إلَّا حين يبدأ اللا وعي معاودة الظهور فترى عمليات اللغة اللا واعية، عبر الإزاحة، وشفرة الآخر الكبير من عمليات الاستعارة والكناية.

كذلك جدل الخطاب المرتبط بالحقيقة والرغبة المخفاة عنصر أساسي! وقد كان الشائع عن الخطاب، أنه يتكوَّن من ثلاثة عناصر، شخص يخلق الرابطة الاجتماعية، وآخر يستقبل ويرسل من جديد، ومنتج ذو دلالة ومعنى، وهكذا يستمر الخطاب ويخلق المزيد من المعاني. أضاف لاكان بعدًا رابعًا، أثَّر بشكلٍ جذري في مفهومنا عن الخطاب، وهو بعد حقيقة الرغبة المخفاة، التي تستمد جذورها من الآخر الكبير، ومع استحالة الحقيقة لدى المتكلم، نجد استحالة نقلها، فبفضل وجود العنصر الرابع متكلمين باللغة وليس العكس، فنجد المنتج لا يتناسب مع الحقيقة، بالتالي نلتف حول الدائرة نفسها.

تلك العناصر الأربعة، تتحرك بشكل جدلي، ونرى عنصر الحقيقة هو ما يفقد بنية الخطاب اكتماله، وفي آن واحد هو ما يشكل تلك الحركة، فتتحرك العناصر الأربعة من النقيض لنفي النقيض وهكذا بشكل جدلي، كأنَّ الخطاب يبحث عبر الذات عن آخر، أو موضوع لكي يفسِّر رغبته، التي هي رغبة الآخر في الوقت ذاته، ويمكننا أن نرى ذلك متمثلًا في رؤية الرجل للمرأة بوصفها جنسًا آخر، كما كتبت سيمون دو بوفوار، كمرآة عاكسة لحقيقة رغبته، أيضًا نراه في الطفل الذي يأتي للعالم، وهناك الكثير من التوقُّعات المسبقة، والرغبات التي تسقط عليه، بداية من اختياره لأسمه، أيضًا اعتباره مرآة لرغباتنا نحن، وأخيرًا جدل المقاومة بين رغبة المُحلِّل والمحلَّل.

الخطابات الأربعة:

خطاب السيد والعبد:

نجد هنا الدال السيد يحلُّ محلَّ الفاعل، أي أنَّه حمل سلطة، ونجد المتلقِّي، العبد يستجيب له بشكل سلبي، لأنَّ الدال يجب أن يطاع، ويرى السيد العبد في هذه الحالة مجرد أداة لتحقيق وظائفه وتمكينه، أيضًا نرى جدلية، إذ إن بدون معرفته لن يبقى سيد، كأنَّه يدعي امتلاك الحقيقة ولا يقبل بانشطار ذاته وأن الحقيقة مخفاة عنه، الفرق بينهما يولِّد الرغبة، واستحالة تعبيرها عن الذات، لوجود تلك الفجوة وذلك النقص الأبدي، نرى ذلك متمثِّلًا في خطاب السياسي، خطاب التعليم، والطب أحيانًا الذي يدعي معرفة الرغبة، ولا يرى استحالة الخطاب، والمدهش هنا أننا أمام جدل آخر، إذ سيادة الدال ومحاولته لإسكات أي خطاب غيره، هي صيرورته للموت، وتكرار الخطاب هو ما يمنحه تلك السيادة!

خطاب السوفييت:

لننتقل لبنية خطاب آخر يخدم بشكل ما، يتصل حينًا وينفصل حينًا عن خطاب السيد، هنا الدال هو المعرفة المجردة، المرتبطة بالمجالات الأكاديمية، والحكومات التي تقضي الإنسان باختلاقه، وتحبذ الموضوعية، لذا هي تدعي امتلاك الحقيقة بامتلاكها المعرفة، أي أنها تكملة لخطاب السيد في الحقل الأكاديمي والعلمي، فالرغبة هنا لا مكان لها، وسط منطقة كل شيء، بل أحيانًا تحاول توحيدها والتحكم فيها، حتى تستطيع ممارسة سلطتها، فالمعرفة هنا تطمس الرغبة وتبعدنا عن طريقها، إذًا نلمح بُعدًا آخر من جدل علاقة بنيات الخطاب وتأثرها ببعضها بعضًا، فالبنية ليست كيانًا مستقلًا، بل تتضافر مع الخطابات الأخرى وتتصادم معها، ويجمعها حقيقة أن الرغبة مخفاة، كأنَّ اللا وعي يتكلَّم. 

خطاب الثَّائر، الهستيريّ:

نجد محاولة للوصول “من أنا”، ذلك الخطاب الذي يطرحه المُحلِّل على المُحلّل باستمرار بهدف جعله مصدرًا للمعرفة، أو وضعه في دال السيد، وهذا الوضع رفضه لاكان، بالنسبة إلى المحلل بأن يكون موضعًا لرغبة الهستيري، وعكس ذلك بأن يكون كمرآة تعكس رغباته، ولا تجيب عن أسئلته الخاصة أو تدخل في هذه الدائرة الهستيرية وتكرار الاسئلة واختبار سراب إشباع الأجوبة، فالأسئلة تولد المزيد والمزيد، أيضًا ذلك خطاب الثائر الذي يحاول مواجهة السيد، بطرح العديد من الإشكالات والأسئلة، بالتالي يساعد من وجهة نظر لاكان في استمرارية جدل العلاقة بينهما وتكرار الخطاب بتلك الطريقة. 

خطاب المُحلِّل:

الفاعل هنا الرَّغْبة، طَرْح المُحلِّل يفترض أنه يملك الحقيقة والمعرفة، ما يعانيه بالتحديد، ما يشغله، ما رغباته، وما الحلّ الذي يمكنه فعله، لكن لاكان يرى أن تلك المعرفة ليست المعرفة ذاتها في الخطاب الأكاديميّ، أو خطاب السَّيد، بل هي معرفة أسطوريَّة مكتسبة من خلال ما يسمعه المُحلِّل من جلساته، وأيضًا ما ساهم في تكوينه الذَّاتيّ، حقيقة قائمة على العَلاقات وليست مركزها ذات المُحلِّل أو مركزيَّة ذاتيَّة أخرى. 

إذًا، الحقيقة هنا تظهر في التعارضات والتناقضات، في هفوات وزلَّات المُحلِّل، كأن اللا وعي هو من يتكلَّم هنا، وهو من يحرِّك الخطاب، بالتالي يتكوَّن دال سيد جديد، لكنه دال من الذَّات وليس غريبًا عنها أو مدخلًا إليها من الخارج، بناء على مشاعره ورغباته وغير ذلك. 

لذا نرى في ترابط الخطابات الأربعة، واعتمادها وانفصالها عن بعضها، كأنها حركة تشبه عقارب الساعة، فالبنية هنا ليست بشيءٍ ثابت بل يتحرَّك باستمرارٍ وديناميكيَّة متغيرة، من الوارد أن المريض بالهستيريا قد يتخذ خطاب الأكاديميّ، أو خطاب السَّيد، وليس مشروطًا بالخطاب الهستيريّ بعينه، لذا هي ليست قوالب ثابتة أو وسيلة لشل حركة الخطاب، الذي يتميَّز بالترحال والتنقُّل من الأساس، وجَدَليَّة البنية في ذاتها، وجدليَّتها وارتباطها بالبُنَى الأخرى.

الخاتمة:

كما تأثَّر جاك لاكان بفرويد، نراه منفتحًا تمامًا على عوالم الفلسفة، متأثِّرًا بهيدجر حين يتحدَّث عن القلق، والاغتراب الوجوديّ، كذلك اهتمامه باللُّغة وبنيتها، ومفهوم الحقيقة بوصفها تكشُّفًا. ونراه أيضًا متأثِّرًا بالجَدَل الهيجليّ، وأيضًا أنثروبولوجيا شتراوس ورموزه، كذلك اللُّغة عند دوسوسير وجاكبسون، نتيجته بناء نسق تحليليّ، أدواته الفلسفة، الأنثروبولوجيا عبر اللُّغة وقواعدها، وكذلك خبرته الإكلينيكيَّة.

لقد قدَّم لاكان تأويلًا جديدًا فريدًا وأصيلًا للعالم والفرد ككل -كما فعل أستاذه فرويد- وربما تلك مهمة المُحلِّل الدؤوب، بجانب دوره العياديّ. 


المراجع:

– مدخل إلى التحليل النفسي اللاكاني(2020)، د. عبدالله السيد عسكر، مكتبة الأنجلو المصرية.

– التحليل النفسي(2006) كاترين كليمان، منشورات الزمن.

– جاك لاكان وإغواء التحليل النفسي(1999)، إعداد عبد المقصود عبد الكريم، المركز القومي للترجمة. 

مقال الخطابات الأربعة، د. محمد درويش (2021)

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نور حمزة

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا