الخوف من الضياع أمِ المُتعة في التخلِّي؟
إنَّ الميلَ إلى فهم الطبيعة البشرية وارتباطها بالحياة يحتاج إلى تجريدٍ ملازم للفرد، فالإنسان في حقيقته هو مجموعُ احتياجات ودوافع تشكل قوةً ضاغطه عليه، وتوجد هذه القوى داخله كاتجاهات وقدرات، أي كدوافع وموضوعات لاحتياجاته التي تلبي غرائزه.
هناك فكرة في الفلسفة مُلخَّصُها “أنَّ الأشياء المجرَّدة لا وجود لها حتى تحصل على مسمّى” مثل بعض الظواهر التي لا تدّعي التوصلَ إلى حقيقة مطلقة، بل هي نتاج خبرتنا الواعية التي تقوم على أساس رؤية الاشياء وتحليلها ومعرفة ماهيتها، وبمجرَّد أن يطلق الاسم على إحدى هذه الظواهر حتى يصبح المفهوم حقيقيًا، بمعنى أنه يُعلن التأثير على أرض الواقع، وبذلك يغيّر مسار فهمنا للأشياء. وبشكل عام أي شيءٍ يُلاحَظ أو يَحدُث في هذا العالم المحيط بنا ويستحقُّ دراستَه أو فهمه، سواء كان طبيعيًا أم اجتماعيًا يسمى “ظاهرة”. باختصار، تسمية الظاهرة تمكِّننا من النظر في أشياء معقّدة، من منظور فلسفي عميق وتساعد في فهم أعمق للقضايا الأخلاقية والاجتماعية المتعلِّقة بها، وتقدِّم أيضًا رؤى وتحليلاتٍ محتملة، لنأخذ على سبيل المثال: ظاهرة “الخوف من الضياع”_Fear of Missing Out_ التي تُختصر أيضًا باسم “Fomo”،فماذا تعني؟
الـ “FOMO” هي نوع من الظواهر الاجتماعية، التي نوقشت كثيرًا في العصر الحالي، تُثير القلق والافتقار إلى الرضا، وفي مضمونها تعني الخوفَ من عدم القدرة على مواكبة التجارِب والخبرات وفوات المناسبات الاجتماعية والتفاعلات، هذه الظاهرة تعكس كيف يمكن للتكنولوجيا ووسائل الاتصال أن تؤثِّر على عواطف وسلوك الأفراد في العصر الحديث، وعلى الرّغم مِن أنّه ليس شعورًا بشريًّا حديثًا إلا أنَّ الظاهرةَ تُعدُّ حديثةً نسبيًّا، لأنَّ المجتمع الحالي لديه سُبلٌ أكثر لتعزيز هذا الخوف، فتضخُّمُ الظاهرة ازداد مِن خلال وسائل التواصل الاجتماعي التي تُقدِّم تسونامي لا ينتهي مِنَ اللقَطَات البارزة في حياتنا، كما ارتبط أيضًا مُصطلح ال”FOMO” بالوحدة والقلق والاكتئاب.
ويمكن ربطها بالفلسفة من خلال تحليلها كظاهرة ثقافية ونفسية تؤثِّر على تجربة الفرد وعلى علاقته بالعالم من حوله، ويتحقَّق هذا من خلال الإجابة على أسئلة في جوهر الوجود البشري، هل نحن نعيش حياة تعبيرية لذواتنا الحقيقية أم أننا نتأثَّر بتوقُّعات وتوجيهات المجتمع؟.
هناك رأي آخر في هذا السياق، يرى أنه لا يمكن تطبيق “النومينالية” أو “الواقعية” مباشرة على الـ”فومو”، لأنها لا ترتبط بالوجود الفعلي للأشياء أو ما إذا كانت تحمل اسمًا أم لا، وبدلا من ذلك تتعلق بالشعور والعواطف البشرية تجاه الإندماج الاجتماعي، لذا سنحاول النظر في هذه الظاهرة من زاوية اجتماعية، وثقافية، وفلسفية، من دون تطبيق مفاهيم الفلسفة الواقعية عليها.
إعلان
السعادة والرضا
تُشير الدراسات إلى أنّ الخوف من الضياع يمكن أن يؤدِّي إلى عدم الرضا كما يشكّل خطرًا على الصّحة العقلية والجسدية، هذا الخوف قد يؤدِّي إلى توتُّر نفسي واجتماعي ويمكن أن يجبر الأفراد على اتخاذ قرارات مبنية على الضغط الاجتماعي بدلًا من اختياراتهم الشخصية، وتكون الرغبةُ لديهم عائقًا كبيرًا إزاء عيش حياة هادفة وهادئة. يحدث الـ “FOMO” في العديد من السيناريوهات المختلفة، لكن هل نحن حقًّا نخشى أن نفقد ما نعتقد أننا فقدناه؟ أم نخشى أن نشعر بألم الضياع؟!
يمكن تسليط الضوء على كيفية تأثير الـ “FOMO“، فالخوف يكمن في فقدان شيءٍ ما يفعله الآخرون، لا الرغبة في خوض التجربة بحدّ ذاتها، إذن، يبدو أنّ الخوف مِن فواتِ الفرص مبنيٌّ بشكلٍ خاص على الشعور بالمقارنة والمكانة الاجتماعية، يقول الكاتب والفيلسوف المُعاصر “آلان دو بوتون” في كتابه (قلق السعي إلى المكانة): “الرغبة في أن نكون محبوبين من الآخرين ولنا منزلة اجتماعية، يؤدّي إلى زيادة قلقِنا وسعينا لتلك المكانة، وافتقادُ حبِّ الآخرين لنا يُشعل قلق السّعي إلى المنزلة الاجتماعية”.
المقارنة هي سارق الفرح
ثيودور روزفلت
التكنولوجيا والثقافة الرقمية
مَن يواكب سيرَ الحياة في هذا العالم يُشبِه مَن يجري داخل شريط موبيوس، حالة مِنَ التكرار القهري، في الواقع لن نستطيع أن نملك كلَّ شيء دائمًا، تُقدّم لنا الحياة الحديثة المزيد مِن الخيارات وهناك الكثير مِن الأشياء التي تحدث كلّ يوم في هذا العالم، في الحاضر العابر دائمًا، قد يبدو لنا حدث أو فرصة معينة كشئ ضخم، ولكن عندما ننظر إليه مرة أخرى، نلاحظ أن جاذبيته تقل مع مرور الوقت، نميل نحن البشر إلى ربط أنفسنا بأشياء في الحاضر لا أهمية قصوى لها إذا نظرنا إليها من منظور أوسع، ذكّر الإمبراطور الرواقي “ماركوس أوريليوس” نفسه مرارًا وتكرارًا بعدم ثبات العالم وكيف أننا غالبًا ما نهتم بالأشياء التي تتحول في النهاية إلى غبار، هذا يشجعنا على مشاهدة أنفسنا من زاوية مختلفة حتى ندرك مدى قيمة الأشياء التي نتعلق بها، والتي عددناها ضروريةً في وقتٍ ما ثُمّ فقدت أهميتها تدريجيًا.
تتيح لنا الفلسفة فهم تأثير التكنولوجيا ووسائل الإتصال على الإنسان وعلاقتة بالعالم، وبالتالي يمكننا استكشاف الكيفية التي تشكلت بها هذة الظاهرة كنتيجة للوسائط الإجتماعية الحديثة وكيف تؤثر على طريقة تفكير الأفراد و تصرفاتهم من خلال هذه الرؤى والأسئلة التي تقدم فهم أعمق لظاهرة ال”FOMO” وتأثيرها على الفرد و المجتمع بشكل عام، لنطرح سؤالًا أكثر دقة وسأترك إجابته للقارئ: كيف يؤثِّر الاعتماد الزائد على وسائل التواصل الاجتماعي على هويتنا و على علاقاتنا بالآخرين؟
لكلِّ فعل ردّ فعل
يمكن للفلسفة أيضًا أن تبحث في الحلول المحتملة لل “فومو”، هل هناك قيم أو مفاهيم أخرى يمكن تبنيها للتغلب على هذة الأزمة؟ بمعنى آخر، يمكن تحليل تجربة الشخص و الوعي الذي يتجرد منه عندما يشعر بالقلق بسبب عدم مشاركته في أحداث أو فرص معينة، ومن ثم تحليل طريقة تشكيل هذا القلق والاضطرابات المرتبطة به من خلال منهج فينومينولوجي، لكن على الرغم من ذلك يجب الأخذ بعين الاعتبار، أنَّ الفينومينولوجيا تركز بشكل أساسي على الوجود البشري الفردي والتجربة الشخصية، بينما تعتمد ظاهرة الـ “FOMO” على التفاعل البشري مع العوامل الاجتماعية والثقافية، بالعودة مجددًا إلى مصطلح ال”فومو”، ظهرت على الساحة عدة ردود فعل واستراتيجيات يمكن استخدامها للتعامل مع الظاهرة و التقليل من تأثيرها، كرد فعلٍ عكسيّ على ثقافة الصّخَب التي أصبحت نموذجًا من النماذج المقبولة على نطاق واسع، من بينها مصطلح “JOMO” بالانجليزية: Joy of Missing Out، الذي يرمز إلى الراحة مِنَ الحاجة المُلّحة و المثقلة لمطاردة الفرص، ويُمكن القول أنَّ مُتعةَ التخلِّي “JOMO” هي فرصةٌ للعيش في جوٍّ هادئ وهادف، وتحديد الفرص والأولويات التي تستحق الإهتمام، وبالتالي تحقيق التوازن بين الحياة الرقمية و الحياة الواقعية، اعتمادًا على الاخلاقيات المتعلقة بمشاركتنا في وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامنا للتكنولوجيا.
النظر إلى الأمر من منظور مختلف
شخصيًّا لديّ إيمان عميق أنّنا لن نستطيع تجاوز هذا الإحساس البشريّ الجوهري، قد يقدّم لنا الجيل القادم من الحِراك الشّعبي الذي ظهر مؤخرًا والمُصَمَّمِ خصّيصًا لمُعالجة أزمات الإنسان المُعاصِر، وسائلَ وطرقًا لنَبذ المجهود المُفرِط الذي تُفرِزه الحياة الحديثة، وهذا يُعدّ شيئًا جيّدًا، لكنّه لن يحلّ المشكلة من جذورها، لأنّ التكنولوجيا ليست السببَ الوحيد في خوفنا الطبيعي مِن تفويت شيءٍ ما، هي فقط وسيلةٌ عزّزت لدينا هذا الشعور، علاوة على ذلك، إنَّ الخوفَ من تفويت شيءٍ ما هو منبّهٌ طبيعي يمكننا استخدامه لاتخاذ قرارات أفضلَ قد تدفعنا إلى التأقلم والعيش في ظلّ الظروف الحديثة، لذا يجب أن ندرك أنَّ هذه الفضائل نسبيّة وقد تختلف من شخص لآخر، باختصار، يمكننا فهم الظاهرة والنظر فيها بشكل أدق من منظور أكثر انفتاحًا وتفكيرًا نقديًا
المصادر: 1 - http://www.bostonmagazine.com/news/article/2014/07/29/fomo-history/ 2 - https://www.bbc.com/worklife/article/ 20190718-jomo 3 - https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC8283615/
إعلان
