الإجهاض الأنثوي في رواية ماري كاردينال “الكلام المباح”

ماذا تريد المرأة؟

فرويد

الـ “مرأة” غير موجودة. جواب يعطيه لاكان.
ماذا تكون المرأة؟ سؤالٌ ماههويٌّ تطرحه الذات اللاواعية المنقسمة على ذاتها اللاواعية من خلال خطابها الهستيري.
المرأة هيستيريَّة؟ متماهيةٌ مجروحةٌ وتحوُّليَّة (conversional) أيضًا.

الأنثى التي نزفت قهرًا

أردت أن أبدأ مقالي بهذا الكلام التحليليِّ الشاقّ، لأنَّ ماري كاردينال الروائيَّة والممثِّلة قد كتبت رواية أباحت فيها الكلام الشاقَّ والمحظور؛ فكانت رواية كاردينال المعنوَنة بـ “الكلام المباح: حكاية شفائي بالتحليل النفسي” عبارةً عن مشوارها الطويل مع المرض والشفاء؛ حكاية تحاكي إجهاض الأنثى لذاتها وإنكارها لها في سبيل أن تكون رغبة الآخر الأول -الأم- أو تحقيق رغبة هذا الآخر، وكذلك تمضي الأنثى حياتها منذ الولادة إلى الوفاة في سعيْ دائمٍ نحو الاعتراف، وأن تكون عند حسن ظنِّ الآخر الكبير- الأم والأب والمجتمع بلغة المحلِّل النفسانيِّ جاك لاكان.

فتعيش الأنثى الصراع النفسيَّ الأوليَّ حول هويَّتها الجنسيَّة، والثاني بين القبول لهذه الهويَّة من قبل هذا الآخر، ممَّا سيدخلها أو يخرجها من الحقل الرمزيّ؛ حقل الاعتراف بالذاتيَّة؛ فتلجأ للآليات الدفاعيَّة– التحوُّل أو العزل، تحويل الصراع النفسيِّ إلى عارضٍ جسديّ- شأنها شأن العصابيِّ محاولةً منها للهروب من مواجهة الرغبة الدافعة.

كانت ماري كاردينال في السابعة والعشرين من عمرها عندما بدأت تعاني من سيلان الدم -تسميه الشيء- بشكلٍ عشوائيٍّ وغير منتظم. “هل هناك امراةٌ لا يصيبها خبلٌ من رؤية طاقتها الحيويَّة تسيل بهذا الشكل؟ كيف لا يصيبني إرهاقٌ من جرَّاء المراقبة المستمرَّة لهذا الينبوع الحميم والمزعج اللافت للنظر والمخزي، فكم لطّخت من كرسيٍّ ومن مقعد مريح .. من فراش؟ وكم تركت خلفي من مستنقعٍ كبيرٍ وصغيرٍ ومن قطراتٍ كبيرةٍ وصغيرة؟ وبكم من حافلة نقلٍ وبأماكن متعدِّدةٍ مختلفة؟ فلم يعد في مقدوري الخروج بعد.”

لقد تنقَّلت الكاتبة طوال سنوات بين عدَّة أطباء، أجرت الكثير من عمليَّات كحت الرحم (Uterine curettage) ودون فائدة، فالدم استمر بالانسياب بدفءٍ على أرجلها. إنَّه الدم الذي يشعرها بأنَّها أنثى، لكنَّه دمٌ متطفِّلٌ يأتي دون إذن. في آخر المطاف اقترح عليها طبيبٌ نسائيٌّ أن تستأصل الرحم.

إعلان

كانت الفكرة للوهلة الأولى تحمل وعدًا بالخلاص وبأن تعود لحياتها الزوجيَّة بعد أن هجرها زوجها متذرِّعًا بأنَّه مظلومٌ معها وهو في أوَّل شبابه وهي مريضةٌ لا تقوى على شيء، لكنَّها وقبل العمليَّة بيوم قررت إلغاء الموعد؛ فهي لا تريد التخلي عن ما يعبّر عن رغبتها؛ فبزواله يزول العارض. واستبدلت موعد العمليَّة بموعدٍ لدى محلِّلٍ نفسانيٍّ قصير القامة ذو عينين سوداوين في باريس.

من يُجهِض من؟

بعد عدَّة جلساتٍ تحليليَّةٍ كانت خلالها ماري كاردينال تتكلَّم عن مشكلتها الرئيسة كما تراها وهي “سيلان الدم”، ومشوارها الطبيِّ وعن آراء الأطباء، وكيف تمضي يومها مقمطة الجزء السفليِّ من جسمها وبحالةٍ تفقُّدٍ دائمٍ لعضوها التناسليِّ وتأهُّبٍ للنزيف.

وسط هذا الكلام، يباغتها المحلِّل الصامت المريب بجملة: إنَّ دمك لا يهمُّني، فحدثيني عن شيءٍ آخر. تقول الكاتبة بأنَّها من يومها لم تنزف! لا بُدَّ أنَّ المحلِّل عرف الوقت الصحيح للمواجهة الوقحة، لكنَّه عَلم عِلم اليقين أنَّ الفكرة باتت حاضرةً في ذهن المريضة وبات من الممكن أن تعيها بسهولة، لكن لماذا الكلام المسكوت عنه والمتمظهر في عارض، أشبه ما يكون بإجهاضٍ رمزيّ؟ إنَّه جرح الأم الذي أورثته للابنة في قلب العلاقة الدراميَّة بين الأم وابنتها.

إنَّ النزيف هو تدميرٌ لذاتها ارضاءً لأمِّها التي صارحتها يومًا أنَّها حاولت المستحيل لإجهاضها “ أتدرين ما يعنيه أن أكون حاملًا إبان فترة الطلاق؟ لقد كنت أواجه مشاكل الطلاق مع رجلٍ وفي أحشائي طفلةٌ منه! كنت أتمنَّى أن أكسر شوكتك يا بنيتي، يا سمكتي الصغيرة، أخرجي منِّي يا قذرة أو ابتعدي عني..”.

لقد حاولت طويلًا الأمُّ أن تجهض ابنتها، فتناولت العقاقير المجهضة؛ رمت بنفسها من علوّ؛ سدَّدت ضرباتٍ على بطنها، لكن عبثًا حاولت فها قد وُلِدَت الطفلة، وُلِدَت معاكسةً لإرادة الأم، ما جعلها حانقةً وكارهةً لها ترمي اللوم عليها لأنها وُلِدَت، وأمضت الطفلة طفولتها ومراهقتها محاولةً إرضاء الأم وتلبية رغبتها بالموت من فرط السيلان وهي رغبةٌ تدميريَّةٌ لاواعية؛ القصد منها إهداء الأم الجثَّة التي لطالما ارادتها، فتقول الطفلة: لطالما كنت أبحث عن هديَّةٍ ترضي رغبة أمي، فهي تدرك أنَّها خيبة أمِّها.

وجودها الأنثوي هو خيبةٌ لها لذلك حاولت التماهي مع الذكور والتلصُّص عليهم وهم يتبوَّلون محاوِلةً تقليدهم, حاسدةً إيَّاهم على قضيبهم؛ مخترعة قرطاسًا تثبِّته أسفل مهبلها لتكون مثل الصبيان فربَّما حينها يمكن أن تحظى بإعجاب أمِّها. إن قرطاسها يحاكي رمز القضيب؛ أي الفالوس، ما يجعل منه دالًّا أولًا على الدخول في مشوار الاعتراف كحاملٍ له.

عانت ماري من الإهمال والجفاء من الأم، كانت تستيقظ مهلوعةً و هي تردِّد “سأموت، سأموت، سأموت” وكانت أمُّها تقف جانبها ببرودة الشتاء الباريسيِّ وترتِّب ملابسها وتردُّ عليها “إنَّها مجرَّد حالةٍ عصبية وستزول، لن تموتي الآن“ وتعود لنومها وكأنَّ شيئًا لم يكن وتتركها ترتجف في فراشها.

تحمل كاردينال الكثير داخلها من أمِّها من محاولاتٍ لا تُحصَى من تلبية رغبة الآخر من حصد الحبِّ والتمسُّك به بالرغم من رفضه لها. لقد كرهت والدها فقط لكي ترضي أمَّها ولتظهر لها أنَّها في صفِّها، فقد قالت لها يومًا بشكلٍ بلاغيٍّ ضمن سياق الحديث مع والدها بوجود أمِّها يجب أن تشهدي على اني وحدي أنزف دماً من أجلك”. وإذا حاولنا تحليل العارض أتوقَّع بدوري أنَّ الطفلة أخذت على عاتقها أن توصل رسالةً للأمِّ بعدما أنجبت أطفالها “إنَّني أنت أيضًا أنزف دمًا من أجلك”، أصبحنا متساويتين، لكن للرواية رأيٌ آخر أيضًا.

ماري وبعد سبع سنوات من ارتيادها للزقاق حيث عيادة المحلِّل؛ فهمت أنَّها طوال تلك الفترة كانت تحاول تغطية الفقدان، النقص الحاصل عند الأم، ففي حالة ماري لم تكن الأمُّ موجودةً ساعة الطلب لأنَّها ترغب في شيءٍ آخر، ممَّا دفعها لتكون موضوع رغبة الأم (The Object of Desire) فقد حاولت أن تكون الفالوس الخيالي -الموضوع الخيالي- للرغبة؛ فانتهى بها الأمر بإنكارها لذاتها ووقوعها في دائرة العصاب لحماية نفسها وحماية أمِّها من نفسها.

بعد سنواتٍ طويلة تعرَّفن ماري بواسطة المحلِّل على شخصيَّةٍ لم تتعرَّف عليها من قبل؛ فبدأت الكتابة والتمثيل والرياضة والتعليم الأكاديمي. الشيء الوحيد الذي سلبها إيَّاه المحلِّل هو عصابها الأساسي؛ ليتركها من بعده صفحةً بيضاء تملؤها بنفسها.

سأفترض أنَّه تركها تسأل سؤال فرويد الأول “ماذا تريد المرأة ؟و تقول للاكان أنَّه بعدم وجود الـمرأة يُفسَح المجال لتتواجد هي خارج القالب الجنسانيِّ كيانًا مستقلًّا لها لغتها و خطابها، تكون ما تشاء؛ ففي إزاحتها من الدراما الأوديبيَّة تأخذ لنفسها منعطفًا إيتيقيًّا خاصًّا تجيب فيه عن سؤال كينونتها. يقول لاكان:

” فإمَّا كلامًا محملًّا بالمعاني يُتبادَل بين ذاتين، وإمَّا العنف والموت وغريزة التدمير والانتهاك؛ التي تمضي في سلسلةٍ غير متناهيةٍ تتركنا بذات الدائرة المفرغة.”

جاك لاكان

ماري كاردينال باعتبارها تجربةً مكرَّرةً للجرح الأنثوي

هذه الرواية هي روايةٌ تحاكي الجروح الأنثوية التي تورثها الأنثى الصغيرة من أمِّها التي هي الأخرى تورثها من والدتها وهكذا إلى بناية تاريخ الهيمنة الذكوريَّة على المجتمع وإزاحة الأنثى جانبًا باعتبارها ضلعًا قاصرًا أو ناقصةً أو عارضًا للرجل. فولادة الذكر هي الولادة الكاملة، هو بمثابة تذكرة اعترافٍ في المجتمع وخاصة للأمِّ باعتبارها “أمَّ الصبيّ” أو المرأة التي تنجب صبيانًا” مقابل ولادة الأنثى التي تحمل الأسرة كلها همَّها للممات.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد الأمين

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

اترك تعليقا