ابن عربي: بين الخيال والحقيقة في موت صغير | راما دحدوح
إنَّ رواية موت صغير هي الصُّورة المتخيًّلة الكاملة عن الشيخ الأكبر مُنذ أن كان طفلًا. فهي لا تتناول فِكره ومذهبه، أو فلسفته وتصوّفه فقط، بل الجانبِ الآخر منه الذي هو الإنسان، وليس الشّاعر، فهي تحكي عن ضعفهِ وتردّده، وانكساراتهِ وشكوكه، قلقه ووحدته خلال بحثه عن الحياةِ والمعنى والحب.
هنا نجد أنَّ ابن عربي هو العالم البحر المليء بالحِكمة والعِرفان والعلم، ومراهقٌ يتسكَّع في دروب مرسيَّة، وشابٌ حالم يتوق للاكتشافِ والحريّة، وعاشِق يتحوّل إلى شاعرٍ في حضرة المحبوبة.
وقد سلّط العمل الضوء على أجزاءٍ من حياته العاطفيّة والإنسانية، ليس فقط كإمامٍ للمتصوِّفة بل كعالِم دينٍ وشاعر كبير. وتُقسَّم أحداث الرواية حسب تسلسُلها التّاريخي إلى اثني عشر سفرًا يقوم بهم ابن عربي محاولًا تطهير قلبهِ وتهذيب نفسه.
رحلة ابن عربي
طهّر قلبك ، ثم اتبعه ، وعندها فقط يجِدُك وتدك.
هذه هي الجملة التي أوصت بها «فاطمة بنت المثنى» الشيخ محيي الدين والتي غيّرت مسار حياتهِ بأكملها. تلك السيّدة التي كانت لهُ بمثابة المرشدة الروحيَّة والأم الثانية، فقد كان لها ابنًا مطيعًا وتلميذًا جيدًا.
انطلق ابن عربي في رحلته الداخلية ابتداءً من بحثه عن أوتاده الذين يثبِّتون قلبه ويساعدونه على تهذيبِ روحه ووصولها إلى الحقّ. والوتد هو أحد مراتب الصّوفية للدلالةِ على رتبة في الارتقاء الروحي الإيماني. فيقال: فلان من الأوتاد ، يعني ذلك أنّ الله تعالى يثبّت به الإيمان والتقوى في قلوب من يهديهم الله به.
إعلان
وتسير الرواية في حقبتين زمنيتين مختلفتين: حقبة مسار ابن عربي، منذ ولادته في مرسية، وصولًا إلى وفاته في دمشق، مرورًا بترحاله الدائم من الأندلس إلى المغرب إلى الحجاز إلى الشام ووسط آسيا. وحقبة مسار المخطوط، الذي كان يعود إليه بين أسفارِ روايته الاثنا عشر.
كان ابن عربي كثير التّرحال، ومُحب للسفر، وفي لقاءٍ دائمٍ مع المفكّرين والزاهدين والعلماء. حيث يعيش تجربة صوفية تتصِّف بالعمق في كل ترحالٍ له. ويعرِّفنا في كل مدينة زارها على خلافات متحالفة، وموقفها جميعها من الحركة الصوفية.
يقول ابن عربي في هذا العمل حول هذا:
لقيت أناسا وصحبت أولياء وعشت تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة. (1)
لم يغفل الكاتب عن إبراز الوقائع التاريخية والسمات السياسية التي اعتملت في المدن التي عاش بها محيي الدبن ابن عربي منذ طفولته وحتى وفاته في دمشق، وما نشب بعد ذلك من تغيُّرات طرأت على حياة الناس ومعاشهم. استطاع رسم نسيجها الثقافي والاجتماعي ليخلُق عند القارئ وعيًا ومعرفة بتاريخ تلك المنطقة وزمانها.
في رحلة ابن عربي يطوف بنا الكاتب في مدنٍ وأماكن كثيرة، فرحلة ابن عربي رحلة تصوُّف واستكشاف معًا، فقد ذكر وخالط المتصوِّفة وزواياهم كمن كتبها وهو يخالطهم في مجالسهم، ويصف تعاليمهم وطقوسهم كأنَّه جزء منهم. وفي هذا الشأن يقول ابن عربي:
جعلَني الله مرادُكَ وأنتم مريدُو . أقبضك وأبسطُكَ بِأَمْرِ الله ، ثم أرسَلك بعد أن تضع قدماك على أوَّلِ الطَّريق (2)
وقد لعِبت مربِّيته (فاطمة بنت المثنى) دورًا أساسيًا في سيرة ابن عربي، فهي أوَّل من تنبَّأ بنزعته التصوفية وميلهِ إلى التّأمل والتّفكر وعدم حبه وابتعادهِ عن مسالك أبيه في مجاراة السلاطين، ورفضه أن يكون على خطى أبيه في بلاط الملوك، بل اختار لنفسه طريقًا آخر يسلكه، طريق الكشف والتصوُّف والمحبة .
وقد أضاء الكاتب على الرؤية الصوفية كفكرة رئيسية، فكرَّر كلمات كثيرة كالوتد والكشف والخلوة والخضرة والجذبة والفناء، لكنه لم يُوغل في استخدامها بحيث لا يفهم أبعادها إلَّا المتبحِّر والمتعمّق في هذا العلم. فقد تم التركيز على شأن الحركة الصوفية وأتباعها وتطورها واختلافها على تعدُّد المشايخ والطرق. وقد أراد الكاتب إيصالًا أنَّ ابن عربي الشيخ الأكبر، كان يحاول خلقَ وإنتاج مجتمع صحي معافىً روحيًا، فإن لم يستطع فقد فعله بروحه وقلمه من خلال فصوص الحكم الممتدة والباقية إلى زمننا هذا، كتُرجمان الأشواق والفتوحات المكية، يقول:
ميِّز نفسك الحقيقية تجدها متخارجة عن الزمان، لا ماضي لها ولا حاضر ولا مستقبل، عندها تجد سلامك الروحي. (3)
ونرى مغامرات الشيخ الأكبر في كل مراحل حياته، والجانب العاطفي منه، كفيلسوف شاعر يأخذ إلهامه ومواضيع أشعاره من فكر وجمال محبوبته، التي منعه من الزواج بها أنها وتدهُ الثالث. ونرى أيضًا بصورة واضحة وعذبة الحبّ ودوره وقدسيّته في تكوين شخصية ابن عربي وتأثيرهِ على شتّى جوانب حياته فهو يذكر:
كل محبة لا يؤثر صاحبها إرادة محبوبة على إرادته لا يعول عليها(4)
وفي هذا القول يظهر ابن عربي الاستسلام المطلق للمحبوب ورضاه في وهب الروح والبدن والفكر في سبيله. ففي منظوره أنَّ المحبوب هو إرادتنا المطلقة واللسان الذي ينطق بحالنا إن عجزنا عن الكلام.
ومن المعروف عن ابن عربي شاعريته المرهفة وتبجيله للحب وجعله في أعلى وأسمى المراتب في كل مراحل حياته ويظهر هذا في معظم أشعاره وأقواله.
العالم من منظور ابن عربي
إنَّ كل أحداث رواية موت صغير هي من رؤية ومنظور ابن عربي، فنستطيع أن نرى نظرة ابن عربي للأشياء وكيف يتعاطى معها، نرى ما يراه ابن عربي بداخل نفسه ومشاعره وصفًا دقيقًا واقعيًا، كما يصوِّر حركات جسدهِ وأطرافه واختلاجاته أو تردُّدها عن الحركة والاختلاج مرات ليرسم للقارئ صورة كاملة عن الموقف والحدث.
يطوي ابن عربي رحاله عن السَّفر بعد تقدمه في العمر، مقرِّرًا الاعتكاف والتفرُّغ للكتابة، يحاربه رجال الدولة فيمنعونه من التدريس ويضيقون دائرة الحياة عليه، فتجبِره ظروف الحياة وحاجته إلى العمل، ليكسب قوت يومه، فيكون مضطَّرًا لقبولِ أي فرصة عمل دون الأخذ بالاعتبار إلى مكانتهِ وعلمه النافع، ليعمل أجيرًا في أحد بساتين دمشق.
لقد قاسى ابن عربي الكثير بعد تقدُّمه في السن وفقدانه لصحته وقوته، فقد مرَّت أيامٍ عديدة بقي فيها جائعًا متروكًا، مما جعله مقبلًا وراضيًا بأي عمل يستطيع أن يؤمِّن لقمة اليوم من خلاله.
ولا تُعتبر رواية موت صغير وثيقة تاريخية أو سيرة ذاتية كاملة عن الشيخ الأكبر ابن عربي، لأن المُتخيَّل فيها يطغى على الحقيقة، فقد استند الكاتب على تسلسل الأحداث الواقعية ثم أعاد صياغتها وتركيبها روائيًا. فـ غاية الرواية الأولى والأسمى هي وصل القارئ مع الزمن الذي وُلد وعاش فيه ابن عربي، وتكون سبيل لتعريف القارئ إلى مقوِّمات الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية آنذاك.
المرجع:
1 – تأليف محمد حسن علوان، موت صغير، دار الساقي، (صفحة 25)
2 – المرجع نفسه (صفحة 93)
3 – المرجع نفسه (صفحة 140)
4 – المرجع نفسه (صفحة 384)
إعلان
