الفصل العنصري: تاريخ موجز (مترجم)

كان «الأبارتهايد-Aparheid»، والذي يعني “الانفصال” باللغة الأفريكانية، بمثابة نظام للفصل العنصري الراسخ، بموجب قانون “الأرض” في جنوب أفريقيا خلال الفترة من 1948 وحتى 1994.

تعود جذور الفصل العنصري الأبارتهايد إلى الاستعمار الهولندي والبريطاني. حيث قامت «شركة الهند الشرقية الهولندية – Dutch East India Company» بإنشاء أول مستعمرة أوروبية في جنوب أفريقيا عام 1652 في «خليج تريبل- Table Bay»، وهو (كيب تاون- Cape Town حاليًا)، وكانت غالبية المستوطنين الأوائل من المزارعين، حيث قاموا بالاستيلاء على الأراضي من السكان الأصليين الأفارقة وأسسوا لنظام العبودية كي يتمكنوا من زراعة المحاصيل وتربية الماشية على نطاقٍ أوسع. كذلك قام هؤلاء المستوطنون الأوائل من الناطقين باللغة الهولندية بتطوير لغة مميزة تعرف بـ «الأفريكانية-Afrikaans»، وصار يُشار إليهم غالبًا باسم «الأفريكانيين-Afrikaners» أو «البوير- Boers»، أي المزارعين.

وفي عام 1795، تمكَّنت بريطانيا من السيطرة على المنطقة، ثم أنشأت مستعمرة «رأس الرجاء الصالح -Cape of Good Hope». ومع فرض الأحكام والقوانين البريطانية، غادر حوالي 13000 من الأفريكانيين المستعمرة في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وبدأوا فيما بات يُعرَف بـ «الهجرة الكبرى- The Great Trek»، وهو ومانتج عنه إقامة عددٍ من جمهوريات البوير المستقلة مثل «ترانسفال-Transvaal» و«جمهورية البرتقال الحرة-Orange Free State» في المناطق الداخلية من جنوب أفريقيا، بعيدًا عن مستعمرة رأس الرجاء الصالح. وبرغم المنافسة الاستعمارية لكلٍّ من الهولنديين والبريطانيين، إلَّا أن القوانين والعادات التي وضعتها كل من الدولتين الاستعماريتين كانت جميعها قائمةً على استغلال السكان الأفارقة الأصليين، وهو ماكان يمثِّل الأساس الذي قام عليه الفصل العنصري في منتصف القرن العشرين.

بدأ نظام الأبارتهايد في مايو 1948، حين وصل الحزب الوطني إلى السلطة بعد فوزه في الانتخابات بفارق ضئيل، وكان هذا الحزب الوطني يمثِّل مصالح السكان البيض الناطقين باللغة الأفريكانية.

واستجابةً للمخاوف العنصرية لدى هذه الأقلية البيضاء إزاء تزايد مستويات هجرة ذوي البشرة السوداء إلى مدن جنوب أفريقيا، سارعت الحكومة الجديدة لفرض قوانين لمزيدٍ من التنظيم والتحكُّم في حياة وحركة كل من السكان الأفارقة، والملونين (وهو مصطلح يشير إلى الأشخاص من ذوي الأعراق المختلطة)، والهنود. وفي حين أنَّ الفصل العرقي كان قد بات بالفعل القاعدة السائدة في جنوب أفريقيا، إلَّا أنَّ نظام الأبارتهايد كُرِّس له بشكلٍ صارمٍ كسياسة حكومية وأدى إلى زيادة اضطهاد الأغلبية “غير البيضاء” في البلاد. فعلى سبيل المثال، منحت قوانين مثل «قانون المناطق الجماعية-Group Areas Act» لعام 1950 مناطق محددة لفئة من الأشخاص بناءً على العِرق. أما قانون «السكان الأصليين-Natives Act» لعام 1952 فقد نصَّ على إلزام جميع السكان “غير البيض” بضرورة حمل تصاريحٍ، كما حدَّد المناطق التي يُسمَح لهم بالعيش والعمل بها. كما توسَّعت سلطة البيض على السكان الأفارقة من خلال طائفةٍ أخرى من التشريعات، مثل «سلطات البانتو-Bantu Authorities» لعام 1951، وقوانين «إعادة توطين السكان الأصليين-Natives Resettlement» لعام 1954، والتي هدفت إلى إعادة قبائل السكان الأفارقة في المناطق الريفية، وقامت بتوفير الإطار التشريعي للدولة لإزاحة الأفارقة من المناطق الحضرية، ومواصلة إعادة توزيع الأراضي على السكان البيض.

إعلان

كذلك عمل الحزب الوطني على التحكُّم في التفاعلات الاجتماعية بين الجماعات العرقية المختلفة، حيث قام في عام 1949 بإصدار قانون «حظر الزواج المختلط-Mixed Marriage Act»، ثم تعديلات «قانون الفجور-Immorality Amendment Act» عام 1950، والذي بموجبه جعل ممارسة العلاقة الجنسية خارج إطار الزواج بين البيض والأشخاص من أصول عرقية أخرى غير قانونية.

لقد تم سنُّ كل هذه القوانين من أجل الحفاظ على سطوة العرق الأبيض على جنوب أفريقيا. وقد أثَّرت على جلِّ جوانب حياة الأفراد، وحدَّدت لهم الأماكن التي يمكنهم العيش والعمل بها، ومدى إمكانية حصولهم على التعليم، ومن يمكنهم التواصل معه اجتماعيًا، بل وما الذي يمكنهم شراؤه. ومع الوقت أصبح العديد من الأفارقة محصورين في أراضٍ قاحلة ومكتظة بالسكان في المناطق الريفية.

في ظل نظام الأبارتهيد، كان %87 من جنوب أفريقيا مخصصًا للسكان من ذوي البشرة البيضاء، فيما صار الأفارقة الريفيون محصورين في مناطق مكتظة مخصَّصة لهم تعرف بـ «البانتوستان-Bantustan»، وتم التعامل مع الأفارقة في الحضر كعمالٍ مهاجرين. وقد أدى انعدامُ فرص العمل في مناطق الأفارقة إلى اضطرار الملايين منهم إلى المغادرة يوميًا للعمل في المناجم، أو في مزارع السكان البيض، أو للبحث عن عملٍ في المدينة.

من ناحيةٍ أخرى، كان هناك أفارقة آخرون يقيمون في بلدات على أطراف المدن، ويعتاشون من خلال القيام بالأعمال منخفضة الأجر. في الواقع، أدَّت تلك القيود الصارمة على حركة الأفارقة إلى تفكُّك ملايين الأُسَر. لقد تم تطبيق قوانين الأبارتهيد بوحشية من قِبَل الشرطة والنظام القضائي، وبحلول منتصف خمسينيات القرن العشرين كان ربع مليون أفريقي يُزَج بهم إلى السجون كل عام بسبب خرقهم لقوانين تقييد الحركة. تقول «دورا تامانا- Dora Tamana»، الناشطة الأفريقية في مجال مناهضة الفصل العنصري، والتي تقيم منذ فترة طويلة في كيب تاون، واصفةً بأوضح الكلمات وأكثرها جلاءً، مدى بشاعة ووحشية الفصل العنصري على الصعيد الشخصي:

«في ظل هذا النظام-نظام الأبارتهايد- لايُسمَح للأفريقي بشراء الأراضي أو العيش خارج المناطق المخصَّصة له. نحن نشكِّل ثلثي السكان ومع ذلك فإن المخصَّص لنا لايتعدى عُشر مساحة البلاد. ولأننا لانملك أراضٍ لزراعة محاصيلنا أو تربية ماشيتنا، صرنا مضطرين للعيش والعمل في مزارع الرجل الأبيض، والمناجم، والمصانع والمدن.

فقط بهذه الطريقة يمكننا دفع الضرائب وسداد الرسوم المدرسية وشراء الطعام والملابس، ودفع فواتير الأطباء. ومع ذلك، ليس مسموحا لنا التنقل للبحث عن عمل دون تصريح…لقد صار وطننا سجنا حقًا». (دورا تامانا، في كلمتها أمام الإتحاد الديمقراطي الدولي للنساء عام 1955)

 

تم اعتماد "ميثاق الحرية" من قبل مؤتمر الشعب عُقِد في جنوب أفريقيا في عام 1955. وفي الثمانينات أصبح مجددا بمثابة نقطة تجمع للمنظمات المناهضة للفصل العنصري داخل البلاد. الصورة من أرشيف الحركة المناهضة للفصل العنصري.
“ميثاق الحرية-The Freedom Charter”

 

من الجدير بالملاحظة أنًَ مقاومة وتحدِّي نظام الفصل العنصري كانت قائمةً طوال فترة وجوده. وقد شهدت خمسينيات القرن العشرين العديد من حملات العصيان المدني الجماعية والاحتجاجات في جميع أرجاء البلاد، ولعبت النساء دورًا مهمًا ضد تطبيق القوانين العنصرية الجديدة.

في عام 1955، قام كل من «المؤتمر الوطني الأفريقي-ANC/ African National Congress»، «المؤتمر الجنوب أفريقي الهندي-SAIC/South African Indian Congress»، شيوعيو جنوب أفريقيا، وعدد من الجماعات الأخرى بتشكيل التحالف ضد الفصل العنصري، ومعًا أصدرت هذه المنظمات «ميثاق الحرية-Freedom Charter» في عام 1955، والذي وضع رؤية لنظام ديمقراطي لاعنصري في البلاد.

بعد مذبحة «شاربفيل-Sharpeville» والتي وقعت في الحادي والعشرين من مارس عام 1960، وشهدت مقتل تسعة وستين متظاهرًا حين فتحت الشرطة النار على آلاف المحتجين ضد نظام تصاريح التنقِّل والحركة، تكشَّفَت مدى قتامة الوضع السياسي في جنوب أفريقيا، وأعلن الحزب الوطني حالة الطوارئ بعد المذبحة، وقام باعتقال أكثر من 2000 شخص، وبسرعة قام بحظر كل من المؤتمر الوطني الأفريقيANC و «مؤتمر عموم أفريقيا -PAC/Pan African is Congress»، مما أجبر العديد من النشطاء المناهضين للفصل العنصري على العمل في الخفاء ومن المنافي في الخارج.

اقتنع كل من المؤتمر الوطني الأفريقي ومؤتمر عموم أفريقيا بأن الاحتجاج السلمي لن يجدي نفعًا لإحداث التغيير في جنوب أفريقيا، وهو ما أفضى بهما في النهاية إلى تشكيل أجنحة مسلحة، وشاركا في عدد من أعمال التخريب وحروب العصابات ضد دولة الفصل العنصري.

وبرغم  القمع الذي مارسته الدولة والذي جعل المقاومة في جنوب أفريقيا صعبة، إلا أن النشطاء استطاعوا أن يجدوا سبلًا لمقاومة وتحدي الفصل العنصري سواء على الصعيد المحلي أو العالمي. وقد شهدت سبعينيات القرن العشرين موجات متجددة من المقاومة من خلال «حركة الوعي الأسود-Black Consciousness Movement»، وانتفاضات طلاب «سويتو-Sweto» والتي كانت بمثابة رمزٍ لنضال جيل جديد من النشطاء الأفارقة. في نفس الوقت، واصل مواطنو جنوب أفريقيا المنفيين والجماعات السياسية المتنوعة العمل على تفعيل حملات المقاطعة، وفرض العقوبات، وسحب الاستثمارات بهدف عزل دولة الفصل العنصري سياسيًا واقتصاديًا. وهكذا، بفضل الصعوبات التي واجهها اقتصاد الفصل العنصري، وتفجُّر الاحتجاجات الشعبية في جميع أنحاء البلاد، والتي تمثلت في الحملات المنسقة ل«الجبهة الديمقراطية المتحدة-United Democratic Front»، بات من الصعب بشكلٍ متزايدٍ الإبقاء على نظام الفصل العنصري.

وفي مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، اضطر الحزب الوطني إلى إجراء بعض الإصلاحات، وفي عام 1990 تم إطلاق سراح «نيلسون مانديلا-Nelson Mandela» من «جزيرة روبن-Robben Island» بعد سبعة وعشرين عامًا من سجنه لأول مرة. كذلك تم رفع الحظر المفروض على المؤتمر الوطني الأفريقي وغيره من الجماعات المناهضة للفصل العنصري.

وأخيرًا، جاء عام 1994 ليضع نهايةً لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الأبارتهيد مع فوز مانديلا والمؤتمر الوطني الأفريقي في أول انتخابات ديمقراطية في البلاد.


المصدر:

https://antiapartheidlegacy.org.uk/heritage-arts-culture/history/apartheid-a-short-history/

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: خلو

ترجمة: هبة الله الجماع

اترك تعليقا