حرب غزة: ما سر الحميمية الغريبة بين الرهائن ومحتجزيهم؟

في أكثر من تسجيل لإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين، يتصافح الشباب والشابات الذين تم إطلاق سراحهم للتو مع أولئك الذين أسروهم واحتجزوهم تحت الأرض من أفراد كتائب القسام.

لا شكَّ أنَّ كتائب القسام عاملت أسراها معاملةً حسنة، لكن هذا الأمر لا يكفي وحده لتفسير هذه الحميمية الغريبة بين الرهائن ومحتجزيهم، لكن هناك تفسير آخر أكثر معقولية؛ فهؤلاء الرهائن هم فقراء اليهود المحكوم عليهم بالحياة في المستوطنات الحدودية تحت التهديد اليومي بالموت، ولا شكَّ أنَّ إيمان هؤلاء بالعقيدة الصهيونية الاستعمارية ضعيف بما لا يقارن بالنسبة لوضعيتهم الوجودية كفقراء مجبرين على الحرب.

لنتذكَّر أنَّ أغلب المحاربين في الجيش على الجبهات الأمامية في الجيش الإسرائيلي هم من أبناء العائلات الفقيرة*، طبقاً للإحصائيات السابقة على أحداث السابع من أكتوبر، ولنتذكَّر أنَّ أبناء المستوطنات الحدودية هم فقراء اليهود أيضاً، لكن هل يشكِّل هذا الأمر فارقاً جوهرياً في تحليل الكيفية التي تدور بها هذه الحرب والتنبؤ بمآلاتها، نعم ولحسن الحظ أنَّ هذا الفارق يلعب لصالح الفلسطينيين في تلك المعركة وكافة المعارك المستقبلية، وهو ما تتصدَّى له هذه السطور القادمة بالتحليل والنطر، أما كيف يتمكن الفلسطينيون من الاستفادة منه فهو أمر آخر، غير أنَّ هذه المصافحة الحميمة بين الرهائن ومحتجزيهم ليست أمراً مجانياً على الإطلاق.

الأغنياء في الداخل والفقراء على الحدود:

مع تأسيس دولة إسرائيل، تتحوَّل عصابات البلماخ للعمود الأوَّل المؤسِّس للجيش الإسرائيلي، كيان عصابي استيطاني يتطور إلى جيش، ينضمُّ إليه كل فرد بالغ في أي أسرة يهودية تعيش داخل هذا المربَّع، وهذا المربَّع لابدَّ أن يتمدَّد ويلتهم مما حوله، أولاً لأسباب أيدولوجية بحتة، وثانياً بسبب التزايد الطبيعي لأعداد اليهود داخل هذا الرقعة المحدودة من الأرض، وتنشأ عقيدة جمعية، أو يتم استعادتها من ماضٍ سحيق ما، مفادها أنَّ على الأسرة اليهودية في إسرائيل أن تنجب أكبر عدد من  الأبناء، لأنَّ معدَّل الوفيات عن طريق القتل على الجبهة أو في الشارع عالٍ بما لا يقارن بأي مجتمع آخر، ومرَّة لأنَّ المشروع الاستيطاني التوسُّعي للخارج يلزمه عدد أكبر من النسل، وهم يتجوَّلون في الشارع مع إشارات مرور منتظمة وانضباط عالٍ، وصافرات الإنذار جاهزة للانطلاق في أي لحظة، نحنُ الآن في الشارع الإسرائيلي.

والمدنيون في داخل المستوطنات القديمة يعيشون في درجة أعلى من الرفاهية والأمان بعيداً إلى حدٍ ما عن الصواريخ والعمليات الانتحارية وبالطبع عن المواجهة المباشرة مع الفلسطينيين، أما الذين يعيشون على الهامش فهؤلاء هم الذين يتم إرسالهم لاستعمار مستوطنات جديدة على الهامش، الأسر اليهوية من أبناء الطبقات الفقيرة على الأغلب، ويتولد الاحتقان الطبقي في أبشع حالاته، لأن المقايضة الطبقية هذه المرة لا تجري على النحو العادي أي من سيحصل على رفاهية أعلى، لكنها تجري على نحوٍ مأساوي، من منا مضطر لأن يموت عوضاً عن الآخر.

إعلان

حتى نتمكَّن من فهم المجتمع الإسرائيلي على نحوٍ جيد، فإنَّه يتوجب علينا أن نتبادل الأدوار مع أعدائنا للحظة واحدة، تخيَّل نفسك كمواطن إسرائيلي يعيش على الهامش في المستوطنات القريبة من الجدار العازل، وتتوقَّع في أي لحظة  وأنت تخطط للنزول إلى الشارع أنك لن تعود للمنزل مجدداً، أنت أو أي من أفراد أسرتك، سيناريو الموت في كل اتجاه.

دور المواطن الآخر الذي يعيش في مستوطنات الوسط أو مستوطنات الداخل سيكون مناسباً أيضاً لتأمُّل الموقف، هذه المرة على نحوٍ أعقد، ربما تعيش في حالة أكثر أمناً الآن وربما أوفر رفاهية، بعيداً إلى حدٍّ ما عن الصواريخ والعمليات الانتحارية وتحلم أن تدرس في جامعة إسرائيلية مرموقة أو تسافر إلى أمريكا أو تتولَّى منصباً في الدولة، لكنك تعرف أنَّ استدعاءً طارئاً للجيش من الممكن أن يأتيك في أية لحظة، في دولة تعيش في حالة حرب متصلة، وعلاوة على ذلك تشعر أن أقرباءك الذين يعملون بجد على الحدود لاستيطان أراضٍ جديدة يشعرون تجاهك بحقد مكتوم، مشاعر غضب لاذعة لا تكفي نزوات تعذيب الفلسطينيين لإخمادها، وتتوقع الهجوم الكارثي  في أية لحظة من الداخل، مواطنك الذي يعيش على الأطراف لكنه عضو فاعل في استمرار هذا المجتمع وتمدده للأمام.

نحن الآن في صلب الشارع الإسرائيلي، مجتمع يغلي وينتظر لحظة المعجزة التي ستحيل هذا الغليان برداً وسلاماً، المعجزة التي ستحمي هذا المجتمع من الانهيار الحتمي.

ونحنُ الآن أمام ثلاثة احتمالات لهذا المجتمع، جميعها تؤدِّي على نحوٍ منفصل للانهيار، وثلاثتهم مجتمعين يؤدُّون إلى تسريع حركة الانهيار، وتعكف السياسة الإسرائيلية منذ نشأة الدولة إلى الآن على منع هذا الانهيار الداخلي أو على الأقل تعطيله.

الاحتمال الأول: أن يستمر المجتمع الإسرائيلي على نفس النحو من الزيادة السكانية على مساحة محدودة للغاية من الأرض مع معدَّل توسُّع خارجي غير كافٍ لاستيعاب الزيادة السكانية نظراً للمقاومة الشرسة في غزة والضفة، وهو ما يعني تفاقم الأمر سوءً

الاحتمال الثاني: أن يتم تقييد معدل الزيادة السكانية وهذا معناه تعطُّل مشروع الاستيطان القائم عليه مشروع الدولة وأيدولوجيتها الحاكمة ووجودها كله، فكما هو معلوم، إسرائيل دولة قائمة على الاستيطان للخارج ولا يمكنها التوقف عن هذا الأمر.

الاحتمال الثالث: أن تشنُّ إسرائيل حرباً خاطفة على إحدى دول الجوار لحل مشكلة الأرض بشكل حاسم ودائم، وهو احتمال صعب التفكير فيه لأنه يهدد بانهيار الدولة تماماً في ظل ظروف مغايرة تماماً لما حدث في عام 1967

وهكذا تتولَّد الدوامة التي أصبح مقدراً على مواطني إسرائيل أن يعيشوا داخلها منذ لحظة نشأة الدولة للحظة اضمحلالها، على المجتمع الإسرائيلي أن يواصل التناسل والتكاثر والاستقتال على جبهة المستوطنات الهامشية، أو أن يحد من نسبة الزيادة وهو ما سيتسبب عنه فشل المشروع الاستيطاني في المستقبل، اليهود المتشدِّدون يشجِّعون التناسل على نحو أعمق وأكثر ومصرِّون على ذلك وليس للدولة سلطة عليهم، وهو ما يؤيِّد ثبات حالة الغليان واستمرارها داخل المجتمع الإسرائيلي.

*يتزايد المجتمع الإسرائيلي بمتوسط 2٪ سنوياً وهو معدَّل زيادة كبير مقارنةً بعدد لا بأس به من دول العالم وكبير للغاية مقارنةً بالمساحة الصغيرة للدولة، كما أنَّ معدَّل الزيادة بالنسبة لليهود المتشدِّدين يصل إلى نحو 3.1% وهناك توقُّعات لتراكم الدين الخارجي لإسرائيل ليبلغ 88% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2059 نتيجة للزيادة السكانية، وعلى الرغم من أن معدل الزيادة قد تراجع من 2% إلى  1.6% عام 2021 بحسب تقارير البنك الدولي إلَّا أنَّ مجتمع المتشددين في إسرائيل مصر على دفع نسبة الزيادة السكانية مرة أخرى، ولا حيلة للدولة حيال ذلك الأمر بالذات، لسبب بسيط هو أنَّ على هؤلاء تقوم الأيدولوجيا الدينية العنصرية الاستعمارية للدولة، وحال سقوطهم تسقط الأيدولوجيا وتسقط الدولة.

لكن إذا كان الأمر على هذه الدرجة من المأساوية بالنسبة لمواطن دولة إسرائيل، فلماذا لم يتفكك مجتمع إسرائيل إلى الآن؟ منذ ما يزيد على ثمانين عاماً.

لحظة المعجزة واستراتيجيات التعطيل

إنَّ الهم الأول في المجال السياسي لإسرائيل هو تثبيت هذا الوضع قبل لحظة الانفجار، تثبيته أطول زمن ممكن، على اعتبار أنَّ الظرف يمكن أن يتغيَّر في لحظةٍ بعينها، نحن الآن أمام لحظتين أو احتمالين متضادين في المستقبل، لحظة الانهيار التام للمجتمع من الداخل ولحظة المعجزة التي ستوقف فيلم الانهيار البطيء. وسنركِّز الآن على لحظة المعجزة التي تنتظرها النخبة الإسرائيلية وتراهن عليها.

إنَّها اللحظة التي يتمكَّن فيها مشروع الاستيطان من احتلال الأرض التي تكفي لتناسل عدد وافر من الأجيال المتعاقبة، نفس اللحظة التي يتمكن فيها مشروع الاستيطان من احتلال الخريطة التوراتية القديمة بكاملها على أرض فلسطين، ساعتها يمكن أن يتم التوافق داخل المجتمع الإسرائيلي على عدة حلول، على رأسها حل مشكلته الأساسية مع اليمين المتطرِّف الذي يغذي أيدولوجيا الاستيطان على أساس أنَّه لم تعد هناك حاجة ماسة لتغذية هذه الفكرة بالنار من جديد، وهناك مشكلة أخرى ستنحل من تلقاء ذاتها في لحظة المعجزة هذه وهي مشكلة الزيادة السكانية، فمع توافر رقعة جديدة من الأرض والوصول للحد النهائي من المشروع الصهيوني على أرض فلسطين؛ ساعتها يمكن التوصل إلى تفاهمات بخصوص تحديد النسل، أما الشرط الثالث لحلول المعجزة الصهيونية فقد يتوفر بأن تحلِّ إسرائيل مشكلتها مع دول الجوار العربي، إنَّها اللحظة التي سينسى فيها الجميع بما فيهم العرب أنفسهم قضية الفلسطينيين بكاملها وتصبح مع مرور الزمن مجرد تاريخ مطوي في صفحات التاريخ.

ولحين تحقُّق هذه المعجزة الصهيونية فإنَّ شبح الانهيار الداخلي للمجتمع ينبغي تعطيله، باتباع عدد ناجع وفعال من استراتيجيات التعطيل.

إنَّ كافة استرتيحيات تعطيل الانهيار تتمحور حول المال، وهؤلاء الذين تصافحوا بحميمية مع أعدائهم بعد نكبة 7 أكتوبر (بالتعبير الإسرائيلي) لا يربطهم بهذا المكان أي شيء سوى وضعيتهم الوجودية كمولودين في هذا المكان لأباء شاركوا في اغتصاب هذه الأرض، وكانت الامتيازات التي تمنحها إسرائيل للمستوطنين علي الحدود من فرص عمل وسكن وتعليم تعمل كمسكِّنات فعالة لهذا الوضع، الأشياء التي لم يكن لهم أن يتحصلوا عليها في أي مكان آخر  كفقراء أبناء فقراء إلَّا تحت هذه الوضعية، المقايضة الطبقية على الموت، حيث يمنح أغنياء اليهود  بعض المال لفقراء اليهود مقابل مواجهة الموت كل يوم بالنيابة عنهم، هذه وضعية تثبت فعاليتها حتى تحين لحظة الجد، كتلك التي حدثت في 7 أكتوبر الماضي.

والذين تمكَّنوا من الفرار فروا بالفعل، أما أولئك الذين وقعوا تحت الأسر فقد أكلوا وشربوا وضحكوا مع محتجزيهم وتصافحوا معهم بحميمية لحظة الوداع، ما حدث في لحظة الجد في 7 أكتوبر، هو أنَّ الغطاء الخارجي الهشّ للعقيدة الصهيونية الاستعمارية قد سقط تماماً في قلوب هؤلاء المستوطنين، لأنَّ الحقيقة الجلية قد ظهرت أمام عيونهم فجأة، ليسوا إلَّا فقراء دفعتهم دولتهم المزعومة لمواجهة الموت كل يوم مقابل حفنة من المال لم تعد مجدية أمام الحقيقة العارية.

ربما شعروا أنَّ هؤلاء المقاومين الذين احتجزوهم ليسوا إلا صورة في مرآة لوضعيتهم المأزومة مع العالم، الفارق الوحيد هو أن الفلسطينيين ولدوا وسط النار ليدافعوا عن قضية حقيقية، أما المستوطنون  فقد ولدوا وسط النار ليدافعوا عن قضية زائفة، وتكشف زيفها تماماً حين دقت ساعة الحرب ساعة الحقيقة.


مصادر:

*1: مجلة دراسات فلسطينية، رائف زريق: احتلال كولونيالي للقانون: عدد صيف 2023 ص18

*2

https://roayahnews.com/%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%B3%D9%83%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D9%85%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A8/#:~:text=%D8%A3%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D8%AA%20%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA%20%D8%B1%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%A9%20%D8%A5%D9%84%D9%89%20%D8%A3%D9%86%D9%87,%D9%81%D9%85%D8%A7%20%D8%B3%D8%A8%D8%A8%20%D9%87%D8%B0%D9%87%20%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9%D8%9F*

إعلان

اترك تعليقا