حافلة واحدة لابن عربي وسبينوزا وماركس

من ابن عربي باعتباره رمزاً روحياً، وسبينوزا باعتباره رمزاً للعقل وصولاً إلى ماركس باعتباره رمزاً للقضية الإنسانية، هناك علاقة أصيلة تربط الفلاسفة الثلاثة.

تكمن هذه العلاقة في كلٍ من الجوهر الخفي والممارسة الظاهرة لابن عربي وسبينوزا معاً، لكنها وبالرغم من أنها تحتَّل قيمةً جوهرية في فلسفة كارل ماركس وإنتاجه الفكري لكنها تختفي تحت بناء كامل من التحليل الاجتماعي والتاريخي والاقتصادي، حتى أنَّ أحداً لا يراها، ربما حتى ماركس نفسه.

ما سنفعله هو أننا سنحفر للعمق لنعثر على الهدف، ونمنحه الحياة مجدَّداً كفكرة منطقية، الهدف هو هذه العلاقة الأصيلة بين الفلاسفة الثلاث، وهذه العلاقة هي: وحدة الوجود.

إذا كان ماركس مادياً، فهو يؤمن بأنَّ المادة أزلية، حيث لا يوجد لديه خيار آخر طالما ابتدأ بتلك النقطة، ولكي تكون المادة أزلية فهي أبدية أيضاً، ولكي تكون نظاماً مكتفياً بذاته لا يتأثر بأي شيء خارجه، فهي إذاً جوهر بمفهوم سبينوزا، بهذه الطريقة التي بدأها ماركس ستكتسب المادة ثلاث صفات إلهية تعيده إلى نظام وحدة الوجود مرة أخرى، لكن من الباب الخلفي.

سبت ماركس

وحدة الوجود

وحدة الوجود هي طريقة من طرق التوحيد. (monism). وقد كان فيورباخ أفضل من تصدَّى لشرح مفهومِ وحدة الوجود، ضمن له تأخِّره الزمني عن فلاسفة وحدة الوجود -ابن عربي وسبينوزا وكانط وفختة وشلينغ وهيجل- أن يحلِّل هذه الفكرة ويتأمَّلها على مهل، ولكي يصف إله وحدة الوجود كان عليه أن يحلِّل نقيضها أولاً أي نموذج (الإله الخارج عن العالم).

في الطريقة الأولى للتوحيد يتجلَّى الإله للذهن البشري كصورة أو فكرة أو كلمة مكانها خارج الوجود الذي نعيش فيه، وهو لذلك -أي هذا الإله- يحكم ويخلق ويدير شئون العالم من الخارج، هذا هو النموذج الأوَّل لإله التوحيد.

إعلان

وطبقاً لبرهان فيورباخ فإن نموذج الإله الخارج عن العالم يتجلى لأذهان البشر في صورةٍ إنسانية، كشخص ذي ملامح بشرية يمسك بعصا الساحر ويخلق ويحرِّك العالم (من خلال الضباب الأزرق)، وهذه الصورة المشوَّشة عن الإله لا يمكن الفكاك منها طالما اعتمدنا النموذج الأول للتوحيد وهو (الإله الخارج عن العالم. *

أما النموذج الثاني فهو الإله القائم في الوجود، بمعنى آخر الموجود في كل مكان، غير أنَّ هذا الأمر يقودنا لفكرة واحدة عبر كل طرق تفسيره، أنَّ في تلك الفكرة يكون الإله هو الوجود كله، والوجود كله هو الإله الواحد.

لا نهائي لأنَّ الوجود بحسب هذه الطريقة لا نهائيٌ أيضاً، وهو أبدي وأزلي لأن الوجود أبدي وأزلي، طبقاً لوحدة الوجود فإن هذا الإله قابل للتأمُّل طبقاً لمنطق الزمن والمكان، لكنه علاوة على ذلك فهو أعلى من القياسات الزمنية والمكانية باعتباره الزمن نفسه والمكان نفسه.

يصبح الإله هو الزمن المطلق والمكان المطلق بهذه الطريقة، بمعنى آخر، هذا الإله هو الوجود المطلق والوجود الوحيد، حيث لا يوجد أي شيء خارج عن الله، وكل الموجودات ما هي إلا حالاته المختلفة عبر الزمن، أي زمن الإله الذي لا ينتهي.

لدينا إذاً طريقتان للتوحيد، وحدة الوجود والطريقة الأخرى التي يمكن أن نسميها بنموذج الإله (الخارج على العالم)، نموذج الإله الذي يملأ الوجود لأنه هو الوجود نفسه في مقابل نموذج الإله المقيم خارج الوجود، وحيث، لا وجود لنماذج أخرى تستطيع أن تصف لنا علاقة الإله بالعالم سوي هذين النموذجين، نموذج الإله المؤنسَن، ونموذج الإله الكلي.

أولاً: ابن عربي

كانت الفكرة قديمة قدماً بالغاً قبل ابن عربي، لكن ابن عربي هو أول من صاغها على نحوٍ منطقي، وأول من منح للفكرة مفهوماً ما، أي منح اسماً محدداً للمعنى الذي كان مستقراً قبله في تاريخ الدين وتاريخ الفلسفة (وحدة الوجود) وفضلاً عن قيمته الروحية فقد كان فيلسوفاً ومنطقياً بارعاً.

المقصود بالوجود في هذا المفهوم الذي أرساه ابن عربي أي كل ما هو موجود، كل ما كان وكل ما يمكن أن يوجد، وبالنسبة لابن عربي، فإنَّ الله هو الوجود كله والوجود كله هو الله، بهذه الطريقة لا يوجد شيء خارج عن الوجود الإلهي. والمقصود بالوحدة هو أنَّ هذا الوجود يعمل طبقاً لوحدة واحدة، وهذه الوحدة هي الله.

في وحدة الوجود لدى ابن عربي، المخلوقات ليست إلا انعاكاسات في مرآة للوجود المطلق الذي هو الله، هناك موجود واحد وهو الله وعدد لا نهائي من المرايا هم مخلوقاته، لا يمكنها أن توجد إلَّا بواسطته لكن بمجرد ظهورها في الزمان المطلق تصبح في واحدية واحدة مع الله، وإدراك هذه الواحدية بشكل عميق هو سعي نحو الحقيقة في فلسفة ابن عربي، رغبة من البشر في معرفة الله ورغبة حقيقية من الله في أن يعرفوه، بهذه الطريقة فإنَّ الوجود المطلق وانعكاساته يشكلان كينونة واحدة تؤدِّي بنا إلي وحدة الوجود. *

إلى سبينوزا:

ينتهي سبينوزا من تأليف كتابه العمدة “علم الأخلاق” في عام 1671 أي بعد نحو أربعة قرون من موت الشيخ الأكبر “محيي الدين بن عربي”، ونحن نعرف أنَّه ألَّف براهينه الفلسفية بطريقة هندسية ورياضية شديدة الصرامة، كانت الرياضيات تكتسب أهمية متعاظمة منذ كوبريتيقوس الذي هدم نظرية مركزية الأرض، مروراً بديكارت الذي أرسى قواعد الهندسة التحليلية، وربما يكون سبينوزا قد تأثَّر علاوةً على ذلك بالرياضيات الجديدة التي بدأ في إرسائها إسحق نيوتن قبل ذلك ذلك التاريخ بنحو 5 سنوات أي في عام 1666، وما فعله سبينوزا مع نظرية (وحدة الوجود) في هذا الكتاب “علم الأخلاق” هو أنه منحها حساً رياضياً جديداً. وبدأ بها الروح العلمية التي تُميِّز عصر النهضة.

ولكيْ يتم سبينوزا منظوره الفلسفي عن الله كوحدةٍ للوجود عاد مرةً أخرى إلى فكرة الجوهر. والجوهر هو الطبيعة الأصيلة للشيء، الطبيعة التي يصدر عنها بشكلٍ مباشر سمات الشيء الظاهرة للعيان أي المظهر، لكن جوهر سبينوزا كان جوهراً رياضياً محضاً، أي قانوناً يحكم الوجود، جوهر الوجود هذا هو الإله في فلسفة سبينوزا، والموجودات ما هي إلا ظواهر هذا الجوهر، بهذه الطريقة يصبح الوجود كله هو الله والله هو الوجود كله.

إنَّ فكرة الجوهر فكرة قديمة في الفلسفة، ونحن نتذكَّر مفهوم ابن سينا عن الله باعتباره الجوهر الأوَّل الذي انبثقت عنه كل الأشياء، لكن ابن سينا يضع حواجز بينيه بين الجوهر ومظهره في تراتبية هرمية تجعل من الله (الجوهر) منزهاً عن عالم المادة*، أما سبينوزا فقد رأى أنَّ عالم الظواهر الذي نراه ونعيش فيه ما هو إلَّا انعكاسات مباشرة لهذا الجوهر الذي لا يتبدَّد.

أي أنَّ العالم هو الحالة الظاهرة والإله (القانون الطبيعي الذي يحكم العالم) هو الأصل، بهذه الطريقة يصبح الإله هو كل شيء، وكل شيء هو الإله، حيث الجوهر والمظهر يساويان رياضياً الرقم واحد.

 

“كل شيء إنٌَما يوجد في الله، ولا يمكن لأي شيء أن يتم تصوُّره أو أن يوجد بدون الله”

سبينوزا: علم الأخلاق. *

برهان سبينوزا*

من طبيعة الجوهر ألَّا يكون خاضعاً إلَّا لذاته، ولا يتم التأثير عليه بأي شكل من الأشكال من خارج ذاته، إنَّ أي تأثير يأتي من الخارج سينفي عن الطبيعة الأصيلة أصالتها، أي يجعلها مظهراً تابعاً لجوهر آخر.

لكن طبيعة الوجود تؤكِّد على التأثير المتبادل والحتمي بين كافة الأشياء،  وبهذه الطريقة لا يصلح أن نطلق على شيء من الموجودات  جوهراً أو أنه ينطوي على جوهر ما، فكل موجود بهذه الطريقة ليس إلَّا نتاجاً لشيءٍ آخر.

بتتبع هذه الطريقة لا يصبح هناك سوى جوهر واحد وكل الموجودات هي ظواهره وحالاته، هذا الجوهر هو الإله عند سبينوزا.

بهذه الطريقة يصل سبينوزا إلى إثبات وحدة الوجود، يبدأ من الجوهر لينتهي بالجوهر، ولكي لا يقع في شرك(البرهان الدائري)، فقد كان يعرف المخرج، إذا نجح في أن يعرف هذا الجوهر بطريقة تسمح له بأن يكون ضرورياً ومكتفياً بذاته لن يعود البرهان دائرياً، ولم يجد في عالم الواقع شيئاً تنطبق عليه تلك الشروط سوى: القانون، أي القانون الطبيعي الذي يحكم الوجود.

لقد اكتفى ماركس بالجانب الأوَّل من كل خطوات سبينوزا البرهانية لكنه تجنَّب النتائج المترتبة على ذلك في عالم الإلهيات، حيث اعترف بنظام الوجود المكتفي بذاته لكنه لم يذهب إلى أنَّ النظام المكتفي بذاته هو في الأساس نظامٌ إلهي، واعترف بأنَّ نظام الوجود يعمل في وحدة واحدة حيث التأثير الحتمي والمتبادل بين الأشياء، لكنه لم يذهب إلى أنَّ هذه الوحدة ذات طبيعة إلهية، واعترف بأزلية الوجود وبالتالي بأبديته، لكنه لم يعترف أبداً أنَّ الأزلية والأبدية هي صفات إلهية بالضرورة، لقد كان إله سبينوزا إله صامت صمت قانون الطبيعة، أما إله ماركس فقد كان إلهاً متلاشياً، يشكل غيابه دليلاً على حضوره في صلب النظرية، الحضور الذي حرص ماركس على إنكاره.

إله سبينوزا الصامت وإله ماركس المتلاشي:

كان سبينوزا يبحث عن جوهر للوجود غير قابل للتغيير، شيء ما لا يمكن أن يصيبه التبدل، وتوصَّل إلى أنَّ الجوهر لا يمكن إلَّا أن يكون القانون الأصلي للوجود.

إنٌَ إله سبينوزا بهذه الطريقة قانوناً يعمل في كل الأحوال والظروف، ينتج كل شيء ويحرِّك كل شيء، لكنه إله مستقر بلا حركة.

وإنَّ فلاسفةً مثل كانط وهيجل وشلنغ وفيورباخ ، وعلى إعجابهم الشديد بنظام سبينوزا فقد وجدوا أنفسهم مدفوعين لملأ هذا  النظام الصامت بالروح والحركة.

لهذا السبب، ربما نستطيع أن نقول أن جميع محاولات المدرسة المثالية الحديثة، من كانط إلى فيورباخ مروراً بهيحل وفختة وشيلينغ، لم تكن إلَّا محاولات لملأ هذا الفراغ الذي تحتويه كلمة (قانون الوجود) أي لجعل إله سبينوزا الذي يبدو أنه غضب من العالم يتحدث من جديد.

جعل هيجل قانون الوجود الصامت يتحرك عبر صراع المتناقضات والروح الكلي، أما فيورباخ فقد صاغ قانون الوجود الصامت ذاك من المادة والروح دفعةً واحدة، فأصبح مادةً وفكرة، مادةً وروح في نفس الوقت، أما ماركس فقد احتفظ من سبينوزا بفكرة القانون الطبيعي واحتفظ من هيجل بفكرة صراع المتناقضات واحتفظ من فيورباخ بالمادة دون الروح، لقد أجرى ماركس قطعاً مباشراً في منتصف برهان سبينوزا وهيجل وفيورباخ وأهمل مسارات هذه البراهين التي تؤدي للروح والألوهية في كل مرة.*

إذا كان ماركس مادياً، فهو يؤمن بأن المادة أزلية، حيث لا يوجد لديه خيار آخر طالما ابتدأ بتلك النقطة، ولكي تكون المادة أزلية فهي أبدية أيضاً، ولكي تكون نظاماً مكتفياً بذاته لا يتأثر بأي شيء خارجه، فهي إذاً جوهر بمفهوم سبينوزا، بهذه الطريقة التي بدأها ماركس ستكتسب المادة ثلاث صفات إلهية تعيده إلى نظام وحدة الوجود مرة أخرى، لكن من الباب الخلفي.

إذا كان إله سبينوزا إلهاً صامتاً، فإن إله ماركس إلهاً متلاشياً بمعنى أنه موجود في صلب النظرية، في برهانها الذي لم يتم تمديده إلى نهايته، ذلك عبر الإمساك بمقصٍ حاد واجتثاثه من المنتصف، لكن إله ماركس المتلاشي يظلُّ موجوداً بطريقةٍ ما، بمعنى أنَّ غيابه يؤكِّد على حضوره .

بهذه الطريقة قدمت وحدة الوجود تمظهراتها الروحية العميقة لدى ابن عربي والحلاج وسبينوزا وهيجل وفيورباخ وشلينج وكانط وفي جوانب متعددة من تاريخ اليهودية والمسيحية والإسلام وعدد وافر من الديانات الشرقية، وقدَّمت إلى جانب ذلك بناءً منطقياً فتح مجالاً للثورة العلمية في العلوم المادية من خلال اجتهادات سبينوزا، وقدَّمت منطقاً جدلياً أسَّسه هيجل وزاد عليه فيورباخ ونقله إلى حيز التنفيذ كارل ماركس،  الباب الذي فتح لثورة جديدة في العلوم الإنسانية.

وإنْ كان ماركس قد أخفق جزئياً في مجال الفلسفة، لكنه نبهنا إلي حقيقة لا تقل أهمية عما قدمه أيٌ منهم، إلى القضية الإنسانية، حيث تفقد وحدة الوجود مصداقيتها إذا أهملت النظر للقضية الإنسانية.


مصادر:

1- Fuerebach lodwig: principles of future philosophy,English Edition: pantheism 21-24

2- little, John T, The perfect man according to In Arabi: 43-54

3- علم الأخلاق لسبينوزا ترجمة جلال الدين سعد: 31-45

4- نفس المصدر ص 45

إعلان

اترك تعليقا