حلم الفلسطيني: أن لا نموت أحياء

يولد جميع الناس أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهِبوا العقل والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الإخاء.

خرجت للنور تلك الكلمات في إعلان ميثاق الأُمَم المتحدَّة لحقوق الإنسان، وللمفارقة أنَّ هذا الإعلان نفسه قد وُلِدَ من رحم أزمة وأتى بعد الحرب العالميَّة الثانية بسنين ليست بكثيرة، وكانت موادهُ شاهدة إن لم تكن نتيجة لتلك الحرب، إذ حملت الكثير من المواد هذه الروح المناضلة من أجل الاعتراف بحقوق الآخرين الأساسيَّة وبشكلٍ خاص الأقليَّات التي دفعت في تلك المأساة الكثير من أسرار بقائها على قيد الحياة، وربما فقدت وجودها ذاته نتيجة لعدم الاعتراف بها وبحقوقها الأساسيَّة، ونفي الأحقيَّة عنها عبر محاولات الدول الشموليَّة وأحقيتها في سلب جيرانها الحريَّة وسحق ثناياها الداخلية من الأقليَّات كما حدث في النموذج الهتلريّ.

ولعلَّ اليهود كانوا هم النموذج الأبرز لتلك الأقليَّات التي عانت في الحرب العالميَّة من اضطهادٍ وعُنْفٍ لا مبرَّر وحرمان لجميع الحقوق بما فيها أقدس الحقوق وهو حق الحياة، إذ أزهق ما يقارب من 2  مليون[1] نفس نتيجة لهذا العنف حسب بعض التقديرات.

ولا شك أنَّ هذا الإعلان كان انتصارًا للإنسانيَّة على لا عقلانيتها المفرطة وعنفها الأعمى المتمثِّل في الدولة القوميَّة الشموليَّة بكل صورها وبخاصة الهتلريَّة، ولكن السؤال الذي دفعنا للتفكير في موضوع هذه المقالة: هل يمكن أن يتحوَّل الضحية نفسه لجانٍ في يومٍ ما؟ فنجد أنَّ جزءًا من ضحايا الأمس يؤسسون للاعقلانيَّة اليوم وعنفها غير المنضبط لتصنع ضحايا آخرين من أقلياتٍ أخرى جديدة، وتبرِّر أفعالها بخطايا الماضي التي فعلها الغرب النادم والحزين على ماضيه المخزي.

وهل يمكن أن يكون الاعتراف بحق الأقليَّات وما عانته في سبيل حقوقها هو المبرِّر اليوم لهتك هذا الميثاق وجعل أفعالهم استثنائيَّة من قانون الإنسانيَّة؟

ولعلَّ تحييز البعض إلى الأقليَّة المظلومة على حساب القيم الظالمة، كان هو علة الإزدواجيَّة في معايير التعامل مع العنف غير المبرَّر الذي قامت به تلك الأقلية نفسها -أو من يتمسحون فيها- مع آخرين.

إعلان

في الواقع إنَّنا سوف نحاول اكتشاف إجابة عن هذه الأسئلة التي رادوتنا خلال البحث من زاويةٍ لا تبحث عن حكم على تلك الفئة أو غيرها فتوصمها بالخطيئة،  فتعطي بهذا شرعية للإتيان بها أو الرد عليها، وإننا في إطار بحثنا عن موضوع الصراع الفلسطيني- الإسرائيليّ، وهو النموذج الأظهر على تحوُّل للمشتتين فالأرض إلى أمة واحدة ذات شعوبٍ متعدِّدة في إسرائيل، سوف نتجنَّب الحكم القيميّ والأخلاقيّ قدر المستطاع على هذا الطرف أو ذاك مركزين جهدنا في الأساس القيميّ الإنسانيّ المؤسس للمواثيق الحقوقيَّة الدوليَّة، وهي الإطار القانونيّ المنظم للعلاقات بين البشر، فنعود بالقضية للإنسانيَّة الأُمّ بعد أن تفتَّتت إلى هُويَّاتٍ فرعيَّة.

كما أننا لا نريد صراحة أن يكون منظورنا في بحثنا عن إجابة أن يعتمد على الرؤية الآيديولوجيَّة التي تحوِّل الصِّرَاع إلى ملحمة أسطوريَّة أو معركة أبدية، فتقع في خطيئة المثل والاغتراب عن الواقع لعالمٍ آخر موازٍ في أذهان المنظِّريين والسياسيين الطوباويين فقط، وستكون نظرتنا واقعيَّة إلى نشأة وتطوُّر هذه الآيديولوجية وغرسها في الشَّرق وفشله في الوصول إلى حَلٍّ عقلانيٍّ يضمن الحقوق بدلًا من التصارع حول من هو الأحق بها.

ونحن ننظر إليه كصراعٍ من أجل حقوقٍ أساسيَّة ومطالب ذات شرعيةٍ في أرض الواقع، بعيدًا عن قداسة الصِّرَاع أو دنس من يرفع رايتها، بل إنَّ غايتنا هو البحث عن ما يريده الإنسان حقًا، وهو حقوقه بمختلف أشكالها وكل أنواعها، وكيف يحصل على تلك الحقوق، وهل يمكن ضمانها له في إطار الضوابط القانونيَّة الحالية، وهل هى كافية؟!

وقد يتهمنا البعض بالخروج عن الواقع ببحثنا عن الحقوق والحريَّات في عالمٍ مليء بالصراعات الآيديولوجيَّة والسياسيَّة التي تتصارع حول السُّلْطة والحكم، ونحن نرى أنَّ المبرِّر الحقيقيّ في اختيارنا لهذا المسار، هو فهمنا للحق نفسه وما مصادر شرعيَّته، فنرى أنَّ الغائب عن واقعنا هو الاعتراف بحقوق الأفراد والمواطنين كمصدر لشرعية هذه السُّلطة والاكتفاء فقط بالمصادر الآيديولوجيَّة التي تعتمد على سرديَّة تاريخيَّة تتصارع عليها الآيديولوجيَّات، فنجد أن المواطن وهو صاحب الحقّ في الواقع منفي عن هذه الرؤية الآيديولوجيَّة ويجعلها هى من تهرب عن الواقع.

حقيقة العالم: من حق الأرض إلى حق الحياة

بدا للعالم كله أنَّ منتصف القرن العشرين هو علامة فارقة وتحوُّلات لا تنتهي، إذ انتهت الحرب العالميَّة الثانية التي كانت بمثابة نفيٍ لحقيقة اللاعقلانيَّة الأوروبيَّة التي تبدت في دولة هتلر الشموليَّة ذات الطموحات التوسعيَّة التي لم تعترف بأحقية الشُّعُوب المجاورة لها بأحقيتها في أرضها وحقوق أفرادها وشعوبها واستمر التوسُّع الهتلريّ ليري أوروبا كيف أصبحت الهُوْيَّات العرقيَّة والقوميَّة خطرًا يمس بها وبالعالم أجمع، وأنه يهدِّد الحقوق الأساسيَّة لمجموعات كبيرة من البشر نتيجة لِمَا يراه هذا النموذج من أحقية نابعة من سرديَّةٍ تاريخيَّة.

وانتقلت هذه العدوى فيما بعد إلى الكثير من حركات التحرُّر التي نعتقد أنَّ كثيرًا منها تأثَّر سلبًا أو إيجابًا بالحركات القوميَّة والشموليَّة في أوروبا كما حدث في لبنان في فترة الحرب الأهليَّة[2]، بل وامتدَّ هذا التأثير إلى الشعارات وحتى أسماء الحركات وأجنحتها السياسيَّة والحزبيَّة نفسها[3].

ولم تكن فلسطين بعيدة عن هذا الزخم الآيديولوجيّ، بل هى قلبه النابض، إذ أتت الجماعات اليهوديَّة وحاولت إعطاء مسحة من الشرعية لنفسها وإثبات أحقيتها عبر هذه الرايات القوميَّة التي حاولت مد الجسور الصهيونيَّة مع التاريخ اليهوديّ، ناسية كل النسيان ما تسبَّبت به القوميَّة نفسها في أوروبا من كوارث دَفَعَ اليهود ثمنها الأكبر، فحاكت ما قام بها عدوها من إعادة سرد التاريخ مع نفي الآخر وتهميشه لتكوين هُويَّة تتعالى على الواقع وتنفي حقوق أفراده، بل وتنفي عنهم صفة الإنسانيَّة ذاتها، وتُمَارس العُنْف وتتسع رقعة السَّلب والنهب كحلٍ بعد أن هيَّأت الآيديولوجية الطريق لها ومسحت الحقوق من خريطتها لتبقى القوة وحدها المحدِّد وليس الإنسانيَّة هي المعيار الأخير.

وأعادت الصهيونيَّة إنتاج اللا عقلانيَّة النازيَّة التي تمثَّلت بالعنف حلًّا وبالتوسُّع غاية لها، ولعلَّ السؤال هنا هو: هل يمكن أن تتحوَّل الحركات الدينيَّة اليمينيَّة مثل حماس وغيرها في يومٍ ما إلى قامع جديد بعد وصولها للسُّلْطة أو قدرتها على استخدام العُنْف كما كانت حال اليهود في أوروبا؟ وهل الواقع تحت إدارة حكومة من حماس أو غيرها صار هو الأفضل؟

ولعلَّ التشابهات بين الحركات اليمينيَّة في أوروبا والأخرى في الشَّرق يجعلنا نظن أنَّ البشر قد اجتمعوا على خطاياهم أكثر من حسناتهم، فلا تملك حماس تاريخ ناصع البياض في مجال حقوق الإنسان كما لم تكن إسرائيل نفسها كذلك، ولعلَّ آليَّة العمل واحدة في التعامل مع الآخر وفي رؤية التاريخ كصفحةٍ بيضاء يجب ملؤها بما تمليه رؤية ومصلحة كل واحدٍ منها.

إنَّ المنطق الذي يرى في نفسه أحقية بناء على عوامل ذاتيَّة وداخليَّة في الغالب يستطيع أن يبرِّر ويشرعن من داخله أي تعدٍّ أو عدوان على الآخر وسلبه جلَّ حقوقه حتى لو طالت حقوقه الأساسيَّة هو المنطق ذاته، ولكن الأسوأ حالة إسرائيل أنها تبني شرعيتها على التضحيات التي دفعها اليهود، فيرى الضحية في نفسه حرًا كي يضحي بالجميع من أجل مصلحته -لعل هذا ما تحاول بعض الفصائل فعله لتبرير خطاياها – وهذا الموقف المغالي في أنانيته تدفع ثمنه الحكومة الإسرائيليَّة نفسها، إذ تعطي هى الأخرى مبرِّرات للمزيد من العنف من قِبَل الطرف الآخر وتعيد إنتاج دائرة العنف المبرَّر تلك والنفي للآخر والسلب لحقوقه، فمتى وكيف يمكن أن تتوقَّف تلك الدائرة وما دامت إسرائيل نفسها تغذيها حتى يومنا هذا؟

ولا شكَّ أنَّ العرب أيضًا كان لهم من نصيبهم، فتصارعوا مع اليهود في دوامة الآيديولوجيَّة تلك حول القوميَّة ومن له أحقية في أرض فلسطين مع قمعٍ لحقوق الفلسطينيين في حال تعارضوا مع مصالحها الخاصة، واستمر ذلك حتى بعد احتلال الأراضي الفلسطينيَّة وتوطين اليهود فيها ووجودهم كأمرٍ واقع، فأكَّدوا  أن المهم من فلسطين هو رايتها وليس حقوق شعبها، ولا أكاد أكون أغالي إنَّ قلت أنَّ تغيُّر دواعي المصلحة تجعل البعض يغيِّر مواقفه فيرفع راية التطبيع بدلًا من هيا إلى أرض المعركة.

واستمر هذا الصِّرَاع بهذا الشكل حول أحقية الأرض زمنًا طويلًا حتى عام 1993م، أي بعد 40 عامًا تقريبًا من الصِّرَاع العسكريّ والسياسيّ ذي المنظور الآيديولوجيّ إلى القضية من قِبَل حَمَلة القضية الفلسطينيَّة والدولة الإسرائيليَّة، فكل طرفٍ يحاول أن يعطي نفسه شارة المستحق والأحقية للأرض مع نفي أي حقوق ولو كانت بسيطة للطرف الآخر، وكان الجدال على نفي الآخر ونكران وجوده وحقوقه وليس في محاولة الوصول إلى صياغة توافق حقيقة تضمن للناس حقوقهم مهما اختلفوا واختلفت أسمائهم، وظهر هذا العطب في استحواذ الجغرافيَّة والأرض كل المفاوضات تقريبًا مع الإهمال شبه التام لمن يقومون عليها[4].

ولا شكَّ في أن من دفع الثمن الأكبر في هذا الصِّراع هم الفلسطينون أنفسهم، فآخر ما كانت تتحدَّث عنه الشعارات هي حقوقهم هم التي تسلب منهم يومًا بعد يوم زيادة، وصار كل شيء هامشيًّا أمام الأحقية على الأرض والعراك حولها “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، ومن يملك مفتاح المصالح الإستراتيجيَّة في الشرق الأوسط.

ولعلَّ السؤال الذي يجب أن نطرحه هنا بعد ما يزيد على 70 عامًا على النكبة الأولى لفلسطين: هل يمكن أن ندافع عن الأرض وننسى شعبها؟ هل حقًا كان الفلسطينيون وحقوقهم هم الجزء الحاضر من القضية أم هوامش قليلًا ما ننظر إليها، إلا باعتبارهم سكاَّنًا لعقار ٍ يتصارع المَالِك الحقيقيّ مع المدعى على ملكيته.

وكانت أوسلو كارثة عند البعض، إذ رأوها هزيمة للفلسطينيين في استعادة أرضهم -كاملة- أو في الاعتراف بأحقيتهم في الأرض[5]، فحتى هذه المعركة التي راهن عليها الكثيرون لم تؤت بالكثير بالرغم من العنف الذي مارسته الفصائل الفلسطينيَّة، الذي ردت إسرائيل بأضعافه، فلم تكن الآيديولوجية هنا مقتصرة على حرب شعارات بل امتدت للواقع بالعنف المتبادل.

ونحن نرى أنَّ الخلل ليس في أوسلو كإتفاقية ذات بنودٍ غير عادلة، وإنما في منهجية التعامل الفلسطينيّ غير العقلانيّ بوضع الأرض قبل الإنسان من قِبَل السُّلطة الفلسطينيَّة نفسها مع القضية، وتسخيرها من أجل مصالحها بدلًا من البحث عن أصحاب القضية أنفسهم ومحاولة ضمان حقوقهم بشكلٍ جدي، وأنَّ هذا هو الضمان الوحيد لاستعادة الأرض بألا تكون دماء الشعب مهدرة، ولكن لا شكَّ أنَّ الأغاني الحماسيَّة ودعاوى التضحية بالدماء قد استمَّرت مع نسيان سؤال الثمن والجدوى لكل تلك الدماء المهدرة.

وبغض النظر عن ذلك، فقد انتهت الأمور لحل الدولتين[6] الشهير الذي اعترف للفلسطينيين بجزءٍ من الحقيقة كما يرونها فكان لهم أحقية في جزء من الأراضي، أما الأخرى فأخذتها إسرائيل ولو كحق انتفاع غير محدَّد المدة.

وقد عوَّل الكثيرون على هذا الحل كنهاية للصِّراع ونقطة أخيرة للحرب، ولكنهم فوجئوا أنَّ الصِّراع استمر، وأن الآيديولوجية التي ظن أنها ماتت وقتلت بالاعتراف بأحقية كل الطرفين قد قامت، ونحن نرى أنَّ السرَّ في هذا هو إهمال الجانب الحقوقيّ للشعب الفلسطينيّ، إذ استمر الضغط الإسرائيليّ على حقوق الفلسطينيين بالرغم من اعترافها الجزئيّ بأحقيتهم لتلك الأراضي، وكأنَّ أحقية بلا حقوق هى الحق وليس نصف الباطل.

وقد انتُهِكَت حقوقهم الأساسيَّة وليس فقط أرضهم، وأصبحت الأرض مشاعًا إذا كان أصحابها أنفسهم غائبين عن المشهد السياسيّ ورؤيتهم لأولوياته، وما كان غريبًا أن يكون العنف اللا عقلانيّ هو الحلّ العقلانيّ بعد انعدام الحلول السياسيَّة وغيرها في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين الأساسيَّة، فلم يبقَ غير اللا عقل بدلًا.

واستمرت الطنطنة القومجيَّة إنْ صح وصمها في إفراز أحكام وإخراج شعارات إدانة، مع التأكيد أن الدماء جلها لك يا فلسطين، وأن الموت في سبيلك حلال، ظنًا منهم أنَّ الوطن الأعمى الذي يقتل شعبه ويسلمه لحبل المشنقة أو يجعل حياته جحيمًا وقتلًا لا ينتهي هو الحل. ولم نخرج من تلك الدوامة الأخلاقيَّة والطوباويَّة بحق ولكن بباطل، واستمرت الدماء تزرف حتى يومنا هذا.

ومن العجيب أنَّ السلطة الفلسطينية نفسها شهدت تحوُّلًا في دورها وعَلاقاتها مع المحتَّل، فلم تَعُدّ المقاومة بتلك القوَّة في تلك الفترة تحديدًا كما كانت، وكأن المقاومة ماتت بموت حقوق الشَّعب والاعتراف بنصف أحقيته في الأرض، وحاولت السُّلْطة أن تستثمر القضية لصالحها ومن أجل مصالحها، وتتعالى يومًا فوق يومٍ في رؤيتها المُغَالية على الأفراد، وتبتعد يومًا بعد يوم بقصورها عن البيوت المقصوفة للمواطنين البسطاء، وصار السؤال العاجل: إلى متى سوف يتحمَّل الفلسطينيون هذا الكبرياء المرضي والاغتراب عن واقعهم الأليم؟!

وكانت النتيجة المنطقيَّة لهذا الصِّرَاع المصلحيّ بدرجة أولى أن تحدث انقسامات داخليَّة في المقاومة نفسها، وتخرج من رحمها حركات جديدة تحاول أن تعيد حسب رؤيتها الصِّرَاع الفلسطينيّ من أجل غايته في تحرِّير فلسطين بتحرِّير الفلسطينيين، وازدادت الانقسامات حِدَّة كلما اختلفت المصالح واتسعت رقعة المنتفعين، ولا شكَّ أنَّ إسرائيل نفسها تعاني من هذا المرض العضال بسبب طبيعة تكوينها، وكلما ازدادت حِدَّة الصِّرَاع بين الأحزاب وابتعدت عن المواطن الإسرائيليّ، كانت إعلان بحلول كارثة جديدة على إسرائيل كما يحدث الآن مع ظنون اليمين بملكيّة الحُكْم.

ولعلَّ هذه المُفَارقة تستحق البحث والدراسة، إذ يبلغ التشابه بين آليَّات العمل في السُّلْطة الفلسطينيَّة والإسرائيليَّة، وكذلك في آليَّات تشريع هذه السُّلْطة لنفسها تجربة تستحق الرؤية عن كثب.

ولو كان هذا موقف الصِّرَاع الخارجيّ والداخليّ في فلسطين، فلم يكن موقف السُّلطات العربيَّة أقل برجماتيَّة إن لم يكن أكثر انتهازيَّة، فالبعض أعطى نفسه شرعية للحُكْم باسم القضية الفلسطينية، والآخرون أعطوا لنفسهم دور المدافع عن أراضي فلسطين مع نسيان شعبها إن لم يكن قمعه، ولعلَّ النموذج الأسديّ كان هو أبرز مثال على هذا الازدواج في التعامل مع القضية كما حدث في فترة الحَرْب الأهليَّة اللبنانيَّة وبحَرْب المخيَّمات[7]، التي يرى البعض أنَّ للسوريّ دورًا بارزًا فيها لفرض سيطرته بعد خروج القيادة للبنان.

وقد سبق الإسرائيليون في تعبيرهم عن تلك الرؤية منذ البداية، بأن فلسطين أرضٌ بلا شعب، فالشَّعب غير معترفٍ بحقوقه من الأساس، وحتى لو اُعْتُرِفَ بأحقيَّته في الأرض، فبماذا تنفع الناقة صاحبها إن مات جوعًا أو كمدًا؟ ومن يدافع عنها إن كان ربّ البيت مستفيدًا أو مشغولًا في صِرَاعاتٍ سلطويَّة؟

وربَّما الفارق الجوهريّ بين موقف اليهود في أوروبا والفلسطينيين في بلاد العَرَب هو أنَّ القضية هناك كانت لشعبٍ بلا أرض، والاعتراف كان بحقوقهم وليس بأحقيَّتهم في الأرض، وإن حدث ذلك بعدئذ نتيجة توافق المصالح والرَّغبة، فالتخلُّص من بقايا الشُّعور بالذنب تجاه اليهود كما حدث في اتفاقية سايكوس بيكو ووعد بلفورد الشهير، فما كان هذا الأصل الذي تأسَّست عليه حقوق اليهود، وعلى العكس مع الفلسطينيين، فمهما اعترف البعض بأنهم أصحاب أرض ودافع عن أحقيتهم لذلك رفض هؤلاء استقبالهم في أرضه بصدرٍ رحب وضيَّق عليهم من المعيشة كما عبَّر عنها بعض قيادات “فتح” قائلًا: “الله يسعدهم ويبعدهم”. ما جعلهم يفقدون حقوقهم مواطنين أو لاجئين أو يعيشون بها منقوصة إن لم تكن معدومة في بعض الأحيان.

وتكوَّنت منذ تلك الفترة رؤية لكل اللاجئين والمهجَّريين كعدوٍ محتمل أو مخرِّب محتمل أو في أضعف الشرور مقيم إلى الأبد وعبء غير ضروريٍّ، ولم يقتصر هذا التعامل مع الفلسطينيين وحدهم، بل شملت المخاوف كل اللاجئين المحتملين كما حدث مع السوريين وكما تكرَّر مع السودانيين.

ولا ريب في أنَّ موقف المجتمع الدوليّ متمثِّلًا في مؤسَّساته الدوليَّة والحقوقيَّة لم يقل إهمالًا وتخاذلًا، إذ تأثَّرت الأدوار التي لعبتها المؤسَّسات الدوليَّة في دعم فلسطين وبدقة في إعطاء الفلسطينيين حقوقهم كاملة، وضمان أن ينال الفلسطينيون كما ضمنت مواثيق حقوق الإنسان لليهود حقوقهم من قبل، وللإسرائيليين في الغد أن يعيشوا في سلامٍ ولو مصطنع.

وأثبت الواقع أنَّ المجتمع الدوليّ نفسه لم يكن في فتراتٍ كثيرة سوى أداة لممارسة الضغط على بعض الأطراف، وورقة للعب في يد الدول الكبرى، كما كانت القدس منذ القدم في العصور الوسطى منطقة نزاع ونفوذ، وكانت ورقة حماية الأقليَّات المسيحيَّة في الشَّرق هي الورقة الرابحة في الأزمات، واللحن المفضَّل في آذان ملوك أوروبا الأتقياء، وكذلك الشعار المفضل للخلفاء والسلاطين في بلاد المسلمين من أجل تحريض المؤمنين للجهاد وإيتاء الزكاة والصدقات وشرعية لمن ليس له شرعية للحكم.

فنرى أنَّ الحال لم يتبدَّل كثيرًا مع تبدل الكثير من المسميات، ولكن البنية العالميَّة ما زالت عالقة في هذا الطريق، وربما لن يأذن لها بالخروج قبل الانعتاق من الرأسماليَّة المُشَكِّلة لتلك البُنى وغيرها، ومن الطريف أن كثيرًا من المنظّرين العرب والفلسطينيين قد وعوا أن الصِّرَاع السياسيّ والآيديولوجيّ في فلسطين يعكس مصالح اقتصاديَّة وبنية تشكَّلت للنظام العالميّ، ولكن قليلًا منهم بالرغم من رفعهم شعارات ضِدّ الإمبرياليَّة أو تبنوا الماركسيَّة اللينيَّة كما كان يتبنَّاها بعض قادة “فتح” مجرَّد حبرٍ على ورق أو هامشٍ ثانويّ على معادلة الصِّرَاع.

ومن كل ذلك نستطيع رؤية أنَّ الحقيقة المرَّة التي تجرَّعها الفلسطينيون منذ النكبة الأولى في عام 48 وحتى اليوم هو إهمال حقوقهم وتهميشهم حتى في سبيل القضية نفسها، وكأنَّ الأرض أهم ممن هم عليها، فنجد الصِّرَاع على الحقوق إلى صراع آيديولوجيّ، وأنَّه حتى الغرب الذي اعترف بإسرائيل وحقوق الأقليَّات من قبل وبانتهاكات الصهاينة لم يجد في نفسه القدرة على تحقيق شيء من التوازن بدعم هذا الشَّعب المنكوب وردّ له بعض من حقوقه الأساسيَّة.

واستمر الحال كما هو عليه حتى تشتدُّ يد البطش الإسرائيليّ والضغط المستمر والمزايدة التي لا تنقطع والصمت الذي لا ينطق بالحق، كلما زاد هذا العبء على المواطن الفلسطينيّ بحث عن حلولٍ أخرى غير السياسة التي لم تعطِه طعامه ولم تنقذه من نار جحيمه، فوجد في بندقيته سلاحًا وفي القتال شيئًا لا بُدّ منه، ومن الخَطَل هنا أن نقول إنَّ الحروب المتكررة والانتفاضات المتعدِّدة في تاريخ فلسطين الحديث هي ترفٌ ورغبةٌ فلسطينيَّة في التمتُّع بحقوق الإنسان على التظاهر أو حتى خرق لها، وإنَّما هى نتيجة ورد فعلٍ طبيعيٍّ لحرمان المواطن الفلسطينيّ وهذا الشَّعب من حقوقه، ليس فقط في أرضه ولكن في معيشته وقوت يومه، فكيف يمكن أن ندين فلسطين على مد يدها للبندقية ولا نسأل من هو السبب في هذا الجنوح للعنف منذ عقودٍ؟

إنَّ تاريخ نشأة الحركة الإسلاميَّة للمقاومة الفلسطينيَّة (حماس) وتطوُّرها لدال للغاية على ذلك،إذ تنشط حماس في فترات الأزمات ولعل بداية دورها على الساحة في ما بعد انتفاضة عام 1988[8]  يؤكِّد ما نراه من أنَّ ضياع الحقوق الفلسطينيَّة وقسوة الحياة هي المحرِّض على كل أفعال العنف الممكنة التي من الصعب ضبطها حتى من داخل حماس نفسها، فالكثير من قيادات حماس لم يخططوا للعمليات العشوائيَّة التي حدثت حتى لو كانوا هم في صورة المحرِّض، ولكنهم ما كانوا إلا صورة لواقع أراد العنف بعد أن سأم من روح السلام.

وردود الفعل العنيفة على إسرائيل، وأنَّه لا سلام عادل بدون عدالة في التوزيع ومساواة في الحقوق كانت هي الحقيقة الظاهرة لكل الباحثين عن حقيقة هذا الصِّرَاع. وما دامت الشروط غائبة عن الواقع وبقت مقيَّدة في عالم المُثُل فلا تتوقَّع نتيجة غير متوقَّعة لهذا الصِّرَاع، بل لعلَّ العنف الذي تمارسه إسرائيل لن يُولِّد غير العنف.

إنَّ التواطؤ الغربيّ بالرغم من أنَّ الغرب في تاريخه الحديث يحارب اللا عقلانيَّة وبخاصة العنف اللا عقلانيّ غير المنضبط، سوف ينعكس التشكيك في حقيقة تلك القيم الإنسانيَّة أو حتى في عقلانيتها ما دام الواقع نفسه ينفي وجودها ويؤكِّد عكسها.

ونحن نعتقد أنَّ الواقي من الحروب والحامي للقِيَم الإنسانيَّة هو الدفاع عن حقوق الفلسطينيين في حياةٍ أفضل وأحقيَّتهم لأرضهم كتأكيدٍ على فاعلية تلك القِيَم ودورها الحقيقيّ، حتى لا يكون الحلّ الممكن هو في اللجوء إلى العنف اللا عقلانيّ غير المنضبط.

عالم السلام: لا سلام بلا عدالة

هل يمكن أن توجد خاتمة لتلك المأساة؟ فالأمس كانت مأساة في الأرض المحتلة من أغيار و “جوييم”، والآن هي في الشَّعب المسلوب حقوقه، والحقيقة أننا نرى نكسات الفلسطينيين المتكررة هى نكسة لكل إنسانٍ عاقل يحرص على أن تكون الإنسانيَّة هى المنارة وهي الهُوْيَّة ومعيار أخير للقِيَم التي يتبنَّاها، فنتجاوز على آثارها الضغائن والمشاحنات الآيديولوجيَّة التي لم تزِدنا إلا نفورًا، وأن ننظر إلى الأمور بشكلٍ يضمن حقوق الأفراد قبل الأراضي -بغض النظر عن أهميتها- وأنَّ الاعتراف بالآخر وحقوقه الإنسانيَّة هو أولى الخطوات في تحقيق سلامٍ عادل وهو الضمان أن نصل معًا لحالةٍ من الاستقرار بعيدًا عن زمن الهدنة.

ولعلَّ تلك الكلمات قد خطرت إلى ذهن إدوارد سعيد منذ سنين طويلة، فرأى في حلِّ الدولة الواحدة[9] التي تعترف بحقوق كل الأفراد بغض النظر عن خلفيَّاتهم الدينيَّة والقوميَّة بحقوقٍ متساوية في إطار قانونٍ موحَّد ومنضبط هو الحلُّ الذي يجب أن يناضل الفلسطينيون من أجله، ومهما كانت قداسة الأرض فكرامة المواطن هي من تعطي تلك القداسة قيمة ودماؤه وحدها من ترويها.

ولكن يبقى السؤال الأخير: هل يمكن أن تقوم دولة بدون الاعتراف بحقوق الأفراد بشكلٍ متساوٍ بلا تمييز ٍمن أي نوعٍ؟

الحق أن ما نخشاه، هو إذا في حال القيام باللجوء لحل الدولة الواحدة أن تتغيَّر المسميات وتبقى المضامين واحدة من سلبٍ للحقوق الأساسيَّة وغيرها من الضرورات من أجل الحياة، وربَّما الشَّاهد على أنَّ المسمَّى لا يغيِّر من الواقعِ شيئًا هو واقع كثير من البلدان العربيَّة التي سُمِيَّت كدولةٍ واحدة ولكنها تعثَّرت عن تحقيق شرط الإنصاف في توزيع الثروات والاعتراف بحقوق الأفراد حتى لو كانوا اسميًا ينتمون لهذه الدولة، ولعل حالة عرب 48 تعطينا صورة جزئية عن هذا الفشل ما دامت التغيُّرات شكليَّة ولم تمتد إلى البُنَى الجوهريَّة.

ولعلَّ نهاية هذا الصِّرَاع الدائر الآن مع حماس مهما كانت المكاسب والخسائر للطرفين لن يكون النهاية وإن كان مادة خصبة للدعاية، فما زلنا نتعارك على ملكية طواحين الهواء وننسى أن معركتنا الحقيقيَّة في عدالة توزيع الغلال.


المراجع:

[1] مجموعة مؤلفين، دليل سياسات، التعليم بشأن الهولوكوست ومنع الإبادة الجماعية، اليونسكو، سنة 2018م، ص51.

[2] إبراهيم خليل العلاف، الزعامة المارونية من حبيب السعد الى سمير جعجع، المركز العربي للمعلومات، سنة 1985م، ص28.

[3] يونان لبيب رزق، الأحزاب السياسية في مصر من 1907 لـ 1984م، دار الهلال، سنة 1984، ص97.

[4] شمعون بيرس، الشرق الأوسط الجديد، دار المنهل، طبعة مزيدة ومنقحة، سنة 2016م، ص34.

[5] صباغ، مازن يوسف، إدوار سعيد: طائر القدس المهاجر، دار الشرق للطباعة والنشر، سنة 2006م، ص246.

[6] جوديث بتلر، مفترق الطرق: اليهودية ونقد الصهيونية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سنة 2017م، ص130.

[7] أبو غريبة، بهجت، من مذكرات المناضل بهجت أبو غربية من النكبة إلى الانتفاضة، ١٩٤٩-٢٠٠٠، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سنة 2004م، ص503.

[8] د. محسن محمد صالح، ‏أ. خالد مشعل، ‏د. موسى أبو مرزوق، حركة المقاومة الاسلامية حماس: دراسات في الفكر والتجربة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، سنة 2014م، ص334.

[9] مجموعة مؤلفين، قضية فلسطين ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني (المجلد الثاني)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سنة 2015م، ص360.

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أجمد مهدي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا