الشرعية الغَائِبة بين تَشْرِيع السُّلْطة وسُلْطة التَّشْرِيع

لقد كان الناسُ يأسون من أن يخرج من قم شيء فيه صلاح، فلم يكونوا يسمعوا من المرجعيات كالكاشاني والبروجردي غير ما يُصبِّرهم على بلاءٍ مُبينٍ. فَعَزَفَ الناس عن السؤال واكْتَفَوا بتلك الإجابات السَّلبيَّة التي جعلتهم يرون في رجال الدِّين تابعين للسَّلاطين أينما كانوا وبما قالوا فهم له شاهدون.

ولكن هذا الحال من العزوف لم يستمر طويلًا، فقد قام من بين الخاملين، شيخٌ شاب خرج على شُيُوخه في حُجَجهم ونفر من سلبيَّتهم، فأعاد للحياة تلك الصورة المألوفة عن ثَوْريَّة الفِكْر الشيعيّ بطول التاريخ، وجعل الناس يتهافتون على المذياع ويتوددون لكل امرئٍ سمعه ورأه من قبل وجهًا لوجه. لقد كان الخميني هو الحُجَّة الوحيدة التي كسر طوق تبعية فُقهاء الشِّيعة، وأخرج فقه السياسة الشيعيّ من ثباتهِ الطويل، فخرج من ثبات المهدي إلى حياة الولي، ليُخرِج الثَّورة الإيرانيَّة من الظلُمَّاتِ إلى النور، ويُشْعِل في قلوب الشِّيعة أملًا في عدلٍ بعد كثيرٍ من الجَوْر، فحاول أن يجتهدَ في الدفاع عن تلك الثَّوْرَة ويُأصِّلها فقهيًّا، ويشرِّعُ معها روح التغيُّر، فصار هو روح الله الخميني.

ولكنه ولسوء حظ الشِّيعة قد اجتمعت في شخص الخميني من السيِّئات كما اجتمعت فيه الحَسَنَات، فلم تخلو ثَوْرته من زلَّاتٍ طالت حتى المُقرَّبين منه[1]، ولم تكن ثَوْرته الفقهيَّة، إلا بداية لعهدٍ طويل من السُّلْطة السَّلبيَّة التي تَقْمَع البشر وتقتل التغيُّر فيهم. ولكنه يبقى في ذاكرة التاريخ أن هذا الرَّجُل أدخل الثَّورة في متن فقه السياسة الشيعيّ وشرَّع لها، وأخرج للسياسة حُجَّة وبرهانًا من قلب الدِّين، فشرَّع لِمَا عجز الفقهاء من قبلهِ عن تشريعهِ، وحَرَّم ما خشي الفقهاء غضب السُّلطان منه.

 إن دراسة العَلاقة بين النظرية السياسيَّة كالسُّلْطة ومصادر تشريعها من المواضيع الهامة والضرورية، ولكن دراسة هذه المواضيع في متن فقه السياسة الشيعيّ، لم تكن بأمرٍ جديدٍ، وأن جد على الخميني أن أحيا روحُ الشيعة الثورية، وجدَّد لهم دِينهم بأن بحث لهم عن مخرجٍ من مشكلاتهم التي أعاقت السُّلْطة عن تشريع وجودها لسنواتٍ طويلة وربما حتى يومنا هذا[2]. ومن هنا، فإن هذا البحث في دراسته لتجديد الخميني لنظرية التَّشريع للسُّلْطة السياسيَّة من داخل الفقه الشيعيّ، سوف نفهم العَلاقة بين النظرية السياسيَّة وفقه السياسة، أو ما يمكن اعتباره بين الدين والسياسة، وتلك الهوامش المتقاطعة بين السُّلْطة والتَّشريع وما لهما من مشكلاتٍ تُعَاني منها النظرية السياسيَّة في الشَّرق الأوْسَط الكثير[3].

وإن اختيارنا لنموذج آية الله الخميني، لم يكن فقط من أجل دوره التجديديّ والتحديثيّ للفقه الشيعيّ ومحاولاته أن يُعيد بناء العَلاقة بين الدِّين والسياسة، فيعيد بناء السُّلْطة من داخل رحم التَّشريع الدِّينيّ، وإنما كان لأنه النموذج الذي اجتمعت فيه تلك العَلاقة بمستوياتها المختلفة؛ من محاولة السُّلْطة لتشريع ذاتها وحتى انقلاب تلك السُّلْطة على مصادر شرعيَّتها.

إعلان

إشكاليَّة:

إن إشكاليَّة هذا البحث تقوم على السؤال المشروع حول العَلاقة بين السُّلْطة ومشرعاتها، وهل يمكن أن تنقلب السُّلْطة على تلك المشرعات، أو حتى تصبح هي مصدر الشَّرْعِيَّة لنفسها؟

في الواقع، إن هذا السؤال النظريّ والذي يُمكن الإجابة عنه بإجابةٍ نظريةٍ، مثل تمركُز السُّلْطتان في سُلْطةٍ واحدةٍ، وجمع مصادر التَّشريع مع سُلْطة الحُكْم التنفيذيَّة[4]، يُمكن أن نرى له نموذجًا واقعيًّا في العَلاقة التي تَحْكُم النَّظريَّة السياسيَّة وَفِقه السياسة الشيعيّ، حيث شكَّلت إشكاليَّة الشَّرعيَّة تلك جانبًا هامًا من تطوُّر فِكْر السياسة الشيعيّ، واستمرت حتى بحث الخميني عن أُطرٍ جديدة، واستخرج من باطن نَظريَّة الولاية في الفِقه الشيعيّ جانبها التَّشريعيّ للحُكْم.

أهمية:

تقع أهمية هذا البحث في دوره على تفسير الجوانب المختلفة من نَظريَة ولاية الفقيه، فيُمكن أن نرى الجانب التَّشريعيّ من تلك النَّظريَّة، والتي استخدمه الخميني في تشريع وجود سُلْطة في الحُكْم بعد أن كانت هناك الكثير من العوائق أمام ذلك قبله وأمام كل فقهاء الشِّيعة، ومن ثَمَّ في التحوُّلات التي طرأت على تلك العَلاقة مع الخميني نفسه بعد وصولهُ إلى سُدَّة الحُكْم وتخليه عن مصادر تشريعه من نَظريَّة ولاية الفقيه، أو على أقل تقديرٍ قِصَر النَّظريَّة على الجانب الحُكْميّ وتقيُّده بالنَّظريَّة الرابعة من نَظريَّات الولاية والتي تعتمد على حُكْم الوَلي الفقيه، بدون البحث عن الأصول التَّشريعيَّة في تلك النَّظريَّة التي تعطيه تلك الصلاحية، والتي كانت هي الأداة الأقوى في نقد شَرْعيَّة نظام الشاه[5] والثَّورة عليه لعدم تحقيقه للمَطَالِب التي تفرضها نَظريَّة الوِلاية على الولي أيًّا كان شخصه، كرعاية مصالح الناس والاهتمام بشئونهم.

ولعل الواقع الإيرانيّ اليوم، بل وحتى الوضع في الشَّرق الأوَسْط بشكلٍ، عام يفترض منا أن نتساءل عن مصادر التَّشريع للسُّلُطات الحَاكِمَة فيه، حيث دائمًا ما نجد القصور هناك، ونجد انقلاب لا تكف السُّلْطة عن مُمَارسته على مصادر شريعتها بعد أن تصل لسُدَّة الحُكْم[6].

فرضيَّات:

يفترض هذا البحث أن هناك عَلاقة ما بين السُّلْطة وتشريعاتها، وأن تلك العَلاقة يمكن أن نراها من خلال نموذج الثَّورة الإيرانية، وهو النموذج الأبرز على تلك الجَدَليَّة بين السُّلْطة وتشريعاتها، فمن بداية شرعيَّتها حتى تلك النهاية التي تحاول تشريع نفسها بوجودها نفسه، نافية وناسية لكل مصادر شرعيتها السابقة، ولما تُميِّز به هذا النموذج من دورٍ بارزٍ للدِّين، وهو اللاعب الأبرز على الساحة والأقرب للشرعية في الوجود عن أي سُلْطةٍ في وجدان الشُّعُوب.

ونفترض كذلك أن التحوُّلات التي طرأت على تلك العَلاقة، ترجع بالأساس لأسبابٍ سياسيَّة وليست إلى أسبابٍ دِينيَّة، فلا شَكّ أن حلفاء اليوم هم أعداء الغد، ما دامت المصلحة مختلفة ومتغيرة مع تغيُّر الظروف التاريخيَّة التي تُحدِّد ماهية العَلاقات ذاتها.

مصطلحات:

تسهيلًا على القارئ وتوضيحًا لمقاصدنا، فضَّلنا أن نُوضِّح عمَّا نعنيه من تلك المصطلحات، حتى لا يختلط عليه التعريف السياسيّ وأيضًا القانونيّ، ففضَّلنا هنا أن نَصُكّ تعريفًا خاصًا بنا قد يتشابه في بعض الأحيان، ولكنه يُعبِّر عن روح بحثنا فقط.

شَرْعيَّة الحُكْم:

هي تلك الشرعية التي تمنح سُلْطة الحُكْم حق في هذا الحُكْم، ولكن هذا الحق بالتأكيد ليس مطلقًا، بل يوجد ضوابط وحدود تُعطَى على أساسها تلك الشَّرعيَّة إلى سُلْطة الحُكْم. وتختلف مصادر الشَّرعيَّة تلك باختلاف الزمان والمكان، حيث يمكن أن تكون قانونيَّة ودستوريَّة صرفة، ويمكن أن تكون كنموذجنا هنا، دِينيَّة وفقهيَّة بحتة.

والحق أن الجدل بين كلاهما في الشرق الأوسط مازال مستعراً، حيث لا تختلف الكتل المؤمنة بشرعية الدساتير والقوانين التي تعتبرها دخيلة على بنيتها الثقافية والاجتماعية الأميل إلى الدين منها إلى القانون، ولا شك أن هذا يجعل سلطة الحكم في حاجه لتأييد حتى لو بشكل ضمني من شرعية دينية حتى تستمر في الحكم ولا تسقط عنهُ سريعاً.

تَشْريع الحَاكِم:

هو ذلك الدور الذي يلعبه الحَاكِم في التَّشريع، ولعل هذا الدور مشروع في حال كان الحَاكِم ذاته يستند إلى شَرعيَّة في الحُكْم ويقوم بتلك التَّشريعات بناء عليها وفي حدودها التي حددتها شَرعيَّة الحُكْم له.

ولكنه، وفي بعض الأحيان، يتجاوز الحَاكِم تلك الحدود، بل وحتى شرعيَّة الحُكْم، فيُنصِّب من سلطة وشرعية لنفسه، ومن هذا التَّشريع لذاته يبدأ في وضع التشريعات التي قد تتنافى مع شرعيَّة الحُكْم التي مُنِحَت له، فيضع القوانين ويُصْدِر الأحْكَام بغير هدي من غير ذاته، وبغير شرعيَّة الحُكْم المعطاة له سلفًا.

تَشْريع السُّلْطة: البحث عن شَرْعيَّة

لكل سُلْطةٍ مُشرعَّاتها، إذا حق هذا الكلام على المستوى النَّظريّ والسياسيّ، فإنه يحق على المستوى العمليّ والفقهيّ كذلك. لقد كانت أزمة كل سُلْطةٍ هي في إشكاليَّة التَّشريع لذاتها، فكيف يمكن أن تخرج تلك السُّلْطة من رَحِم النَّظريَّات وتهبط إلى الواقع بغير شَرعيَّةٍ ما؟ والحق أن ضرورة وجود السُّلْطة لتنظيم العَلاقات بين الأفراد على الأصعدة المختلفة، لا تقل عن ضرورة وجود شَرعيَّة من تلك الجماعات حتى تؤيد السُّلْطة وتدعمها. وإن كانت الشَّرعيَّة في الغَرْب تعتمد على الدستور والقانون، فكيف لا تعتمد في الشَّرق على الدِّين[7]؟

ولا شَكّ أن هناك المظهر السياسيّ الذي يقتضي شَرعيَّة قانونيَّة وأصولًا دستوريَّة، ولكنه هل يمكن أن نتخيَّل سُلْطة في السُّلْطة بدون بحثها عن أي مصدرٍ للشرعية الدِّينيَّة لها؟

 إن الخلاف حول مصادر التَّشريع وأيها أحق دينيًّا، وإن كان هناك شبه إجماع على أن الكتاب والسُّنة هما الأساس الموضوعيّ لكل شَرعيَّة ممكنة، وبغض النَّظر عن كيفية قراءة الكتاب واتِّباع تلك السُّنة، ومن ثَمَّ قد ظهر الجدال حول الأئمة كمصدرٍ في التَّشريع في الفِقْه الشيعيّ[8].

لقد أدرك الأصوليون من الشيعة منذ الأعوام الأولى للتشيُّع بضرورة وجود مصدر للتشريع للسُّلْطة، وكان سؤالهم عن كيفية تشريع الحُكْم هو مثار الجَدَل حولهم، ففي خلافهم مع أهل السُّنة حول من يكون الإمام[9]، وما هي مصادر شَرعيَّته، ظهر بحثهم عن مصادر للتشريع تخرج عن تلك التي يتبعها أهل السُّنة في محاولة تشريع وجود الإمام.

ولعل هذا ما جعل الأصوليين من علماء الشيعة يفكرون في إعادة النَّظر في مصادر التَّشريع لكل سُلْطةٍ، فيضيفوا إلى المصادر الأساسيَّة من الكتاب والسُّنة والإمامة. وقد اختلفوا فيما بينهم فيمن هم الأئمة وعددهم؟[10] واستمر هذا الجَدَل طويلًا حتى دخول المهدي إلى سردابه، وبحث الفقهاء الشيعة عمن ينوب عنه من الولاة، فاجتهدوا في نَظريَّة الوِلايَة وتوسَّعت تلك النَّظريَّة حتى أصبحت هي عماد فقه السياسة الشيعيّ[11].

ولكن حتى هذه النَّظريَّة لم تستطع أن تحل المشكلة الكبرى التي وَجَدَ الفِكْر الشيعيّ فيها نفسه من غيبة الإمام ومتى هو زمن عودته، وكيف يتِمّ تدبير أحوال المسلمين في تلك المدة، وهل تسقط الأحكام عنهم خلالها؟ ولا شَكّ أن الفقهاء الشيعة أدركوا الضرورة التي تجعل من تطبيق الأحكام نافذًا، واجتهدوا في تخريجات تسمح لهم بتطبيقها، ولكنهم لم يخرجوا عن إطار الشَّرعيَّة التي ترسَّخت في أذهانهم من الأئمة للحُكْم، ولعل هذا ما أوقف فِقْه السياسة الشيعيّ بوجهٍ خاص عن الحراك لسنواتٍ بعد أن كان ثائرًا في القرون الأولى ومع الأئمة أنفسهم[12].

ومن هذه الإشكاليَّة الخاصة التي وقعت في الفِكْر الشيعيّ، من استعصاء النَّص على التأويل وإظهار إمام جديد، وكذلك على انقطاع سُلالة الأئمة أو حتى دخوله إلى السرداب، ظهرت ضرورة ماسة إلى البحث عن شرعيَّة جديدة لوجود السُّلْطة بعد انقطاع الأئمة.

وقد اجتهد الفقهاء الشيعة في فِقْه السياسة في محاولاتهم التَّشريع للحُكْم من داخل الفِكْر الشيعيّ بعد غياب الإمام ومعاناتهم من الظُّلْم والطُّغيان[13]، فبحثوا في متن نَظريَّة الوِلايَة عمن ينوب عن الأئمة في القيام بأهم مهامهم في تطبيق الأحكام من داخل السُّلْطة نفسها.

إن التجديد الذي فعله الإمام الخميني، ليس بالتأكيد في البحث عن العَلاقة بين السُّلْطة ومصادر شرعيَّتها، أو حتى في إثبات ضرورة وجود هذه الشرعية من أجل وجود السُّلْطة، وإنما في محاولته لتشريع السُّلْطة وتطبيقها للأحْكَام من خلال نَظريَّة الوِلايَة في الفِقْه الشيعيّ.

ويمكن التساؤل عن: هل نَظريَّة وِلايَة الفقيه هي فقط نَظريَّة في الحُكْم؟ ألا يوجد جوانب تشريعيَّة في تلك النَّظريَّة؟

ولعل هذا ما يُفسِّر لنا التجاهل والنسيان للجانب التَّشريعيّ من تلك النَّظريَّة الهامة في الفقه الشيعيّ، وكذلك اللبس والخلط بين جانبها التَّشريعيّ والجانب التطبيقيّ من نَظريَّة وِلايَة الفقيه.

فلا نجد تفريقًا بين المستوى السياسيّ وبين المستوى التَّشريعيّ، ولا بين المستوى النَّظريّ والمستوى التطبيقيّ الفقهيّ. ولعل أكثر الكتابات هي الموجودة عن نَظريَّة وِلايَة الفقيه، كنَظريَّة في الحُكْم وتعرف بمن يُطبِّق الأحْكَام وتنفيذها. وما فعله الإمام الخميني في تجديده لفِقْه السياسة الشيعيّ عبر إدخال نَظريَّة في التَّشريع إلى الفِقْه الشيعيّ. وهذا هو موطن الجدة في طرح الخميني، أن يقوم بإعادة تشريع السُّلْطة ووجودها عبر نَظريَّة في الفِقْه الشيعيّ، وامتدت نَظريَّته حتى البحث فيمن هو الولي القائم على السُّلْطة وحدَّد ماهيته بكونه الفقيه.

وقد حاول الخميني الخروج من المأزق الذي وجد أسلافه من الفقهاء الشيعة أنفسهم فيه من قديم الأزل، حيث ركَّزوا جهودهم واستغرقوا في الجانب الحكُمْيّ من النَّظريَّة، ومن هو الولي الذي يكون على رأس السُّلْطة؟ وقام الخميني بالتأكيد على الجانب التَّشريعيّ من نظرية وِلايَة الفقيه لتشريع الحُكْم؛ أي أنه قد سبقهم بخُطْوةٍ إلى الوراء في البحث عن مشرَّعات وجود السُّلطة قبل أن يبحث عن ماهية تلك السُّلْطة نفسها.

ونحن نرى أن إعادة شرعنة الحُكْم في نَظريَّة وِلايَة الفقيه، وليس في تحديد ماهية الولي بالفقيه ومن له الحق في الحُكْم، هو موطن الجدة في طرحه. و هذا الطرح هو ما أخرج الشيعة من مأزق غياب الإمام ونوَّابه، فجعل فِقْه السياسة الشيعيّ يعود إلى حيويَّته وثَوريَّته بعد أن ركد لزمنٍ طويلٍ[14]، ليعود مع اجتهاد الخميني إلى التَّشريع والحُكْم من جديد.

ولا شَكّ أن السؤال الذي فرض نفسه على الخميني كما فُرِضَ على الذين من قبله، حتى لا تكون تلك أضغاث أحلام، هو من الأجدر على تطبيق الأحْكَام وقيادة السُّلْطة؟ فمن يحكم ومن يقوم بالسُّلْطة؟ واختلف الأحزاب من بينهم بين قولهم بالعَالِم وبين العَارِف وحتى الفقيه. ولا شَكّ أن نظرة كل واحدٍ فيهم لمقتضيات الدِّين والدنيا، من تطبيق للشرائع وحتى مصلحة للشُّعُوب، كانت هي المحك في اختيار كل واحدٍ فيهم إلى تصوّرٍ معينٍ عن الولي.

والحق أنه إذا أكد الخميني من أجل تصوراته عن الحكومة الإسلاميَّة[15] وضرورة تطبيق الأحْكَام الشرعية من لزوم أن يكون الولي نفسه عارفًا بها وبين قوسين هو نفسه فقيهًا، فإن آخرين في اجتهاداتهم في نَظريَّة وِلايَة الفقيه وعن الولي الذي ينوب عن الإمام في تطبيق الأحْكَام لم يشترطوا أن يكون الولي هو الفقيه ورجل الدِّين، وإنما يمكن أن يكون عارفًا بالدِّين وقادرًا على تطبيق أحكامه، ولعل هذا ما كان هو الصَّدع بين النَّظريَّة الرابعة التي أقر بها الخميني من اشتراطه لحُكْم رجل الديِّن، وبين النَّظريَّات الأخرى التي كانت تتبع مرجعيَّات مختلفة في النجف وكربلاء، كالوائلي والسيستاني[16].

إن الخلط بين الجانب التَّشريعيّ والجانب الحُكْميّ من نَظريَّة وِلايَة الفقيه، كان من أبرز المشكلات التي نتجت عن نَظريَة الخميني، فنجده قد جمع بين سُلْطة التَّشريع وسُلْطة التَّطبيق في شخص الولي الفقيه، وبذلك أضاع ما فعله من اجتهادٍ في التَّشريع وفي بحثه عن ضرورة إيجاد تأصيل للحُكْم من خلال الفِقْه، ومن ثَمَّ النَّظر إلى من يستحق هذا الحُكْم. ولا شَكّ أن هذه إشكاليَّة كبرى في سُلْطة الحُكْم، حيث تُحَاوِل دائمًا هذه السُّلْطة أن تجمع بين التَّشريع والتَّطبيق في ذاتها، وأيضًا تحاول أن تنقلب على مصادر شرعيَّتها وتُنصِّب من ذاتها مُشرِّعًا، وهذا ما سوف نتطرق إليه في الجانب الآخر من البحث.

ولعل ما فعله الخميني كان أوضح مثالًا على عمق أزمة رجال الدِّين ومحاولاتهم المستميتة في مركزة السُّلُطات حولهم، ومن ثَمَّ انقلاب سُلْطة الحُكْم إلى سُلْطة للتشريع، لتشرِّع لوجود ذاتها بذاتها، فيسقط عن مصادر شرعيَّتها الشرعية.

سلطة التشريع: السُّلْطة التي تُشرِّع لنفسها

إن العَلاقة بين السُّلْطة وتشريعاتها عَلاقةٌ جَدَليَّةٌ، حيث نرى صراعًا دائمًا بين السُّلْطة ومحاولاتها الفَكَاك من مصادر شرعيَّتها، وكذلك في محاولات مصادر التَّشريع ذاتها أن تنفي الشَّرعيَّة عن تلك السُّلُطات في حال خرجت عن المألوف فيها. ولعل حديثنا عن السُّلْطة ومصادر التَّشريع التي أقرها الخميني وحاول التجديد فيها ينقلنا إلى جانبٍ أعمق من المشكلة، وهو دور الخميني نفسه في ترسيخ سُلْطة الحُكْم مع نفي سُلْطة التَّشريع للحُكْم والتأكيد على دور الحَاكِم نفسه في التَّشريع، فانقلب السِّحر على السَّاحر، وصارت السُّلْطة من بحثها عن الشَّرعيَّة إلى محاولتها هي ذاتها التَّشريع لذاتها ولغيرها، لتصبغ وجودها بصبغة شَرعيَّة. ولعل المشكل الأساسيّ هو في اختيار الخميني للنَظريَّة الرابعة[17] من نَظريَّات وِلايَة الفَقيه والتي كانت تعتمد على الوَلي الفَقيه في تطبيق الأحْكام، فحاول الخميني من خلال نقله مصدريَّة التَّشريع من النَّظريَّة إلى الفَقيه تأبيد وإدامة وجود الفَقيه على سُدَّة الحُكْم.

وقد نتج عن هذا التَّركيز للسُلُطات حول الولي الفقيه، ظواهر حديثة نسبيًّا، مثل تسلُّط رجال الدِّين على الحُكْم[18] وتفشي النُظُم الثيوقراطيَّة التي تبحث عن أساسٍ دِينيٍّ لها، ومن ثَمَّ تنقلب حتى على هذا الأساس أو على الأقل تعيد فهمه، ولعل المفارقة هي في تحوُّل الفِقْه الشيعيّ من التحرُّر والثَّورة إلى الانتظار والتبعية، وأخيرًا إلى التقييد والاستعباد[19].

استنتاجات:

إن مَنْطق العَلاقة بين السُّلْطة والشرعية في الشَّرق جَدَليٌّ، حيث تبدأ السُّلْطة أولًا في البحث عن شَرعيَّةٍ لها، ثُمَّ تنقلب على تلك الشرعية وتعتبر أنها وحدها الشَّرعيَّة.

الدور الفعّال الذي قام به الدين في خلق ثورة على كل المستويات الفقهية وحتى الواقعية وقدرة رجال الدين على تحريك الجماهير، ولكنه في حال تم ترك ذلك لرجال الدين يمكن أن يتحول لكارثة مثل إيران

تساؤلات:

هل يُمكن أن نستخرج نَظريَّة في التَّشريع من الدِّين، بعد أن أثبتت نَظريَّات التَّشريع التي تعتمد على الدستور فشلها في التعبير عن مطالب الجماهير؟ هل يُمكن أن نُوسِّع من مفهوم الوِلايَة كأساسٍ تشريعيٍّ للحُكْم حتى يشمل جماعة وليس وَليًّا واحدًا؟

توصيَّات:

يجب القيام بمقارنةٍ تاريخيَّة بين واقع نَظريَّة الوِلايَة في الواقع الحالي وبين الوِلايَة في تاريخ الفِكْر الشيعيّ، حتى نفهم الأُسُس التي قامت عليها نَظريَّة الوِلايَّة نفسها. القيام بمقارنة بين نَظريَّة الوِلايَة بين الفِقْه الشيعيَ والفِقْه السُّنيّ، وكذلك بين الوِلايَة في الصُوفيَّة وحتى في تصوراتها الفَلْسَفيَّة.

لا شَكّ أن تلك هي الجَذْوَة التي أوقدت نيرانها عليقتي منذ أعوامٍ مضت، ولكن لهيبها لم يمض مع الوقت وتنطفئ شمعتي، فبقيت أبحث في متن الوِلايَة عن أصلٍ لكل ما أرى من تبدُلات على المستوى السياسيّ وأسمع من حكايات عن أساطير الأوَّلين.


هوامش:

[1] فاطمة صمادي، التيارات السياسيّة في إيران، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سنة 2012م، ص123.

[2] كاتب، أحمد، تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، دار الجديد، سنة 1998م، ص271.

[3] فرانسيس فوكوياما، مجاب الإمام، ترجمة، بناء الدولة: النظام العالمي ومشكلة الحكم والإدارة في القرن الحادي والعشرين …، العبيكان، سنة 2009م، ص42.

[4] مجموعة مؤلفين، الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: اتجاهات وتجارب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سنة 2013م، ص189.

[5] سعيد منتظري، نقد الذات: آية الله حسين علي منتظري في حوار نقد ومكاشفة…، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سنة 2020م، ص17.

[6] عبد القادر ياسين، التحول العاصف – سياسة إيران الخارجية بين عهدين، مكتبة مدبولي، سنة 2006م، ص206.

[7] خليل، خليل أحمد، سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سنة 2005م، ص263.

[8] شاينول جيوا، امين ب. صاجو، تحرير، العالم الشيعي: طرائق في التقليد والحداثة، دار الساقي للطباعة والنشر، سنة 2018م، ص70.

[9] الدكتور عبد الرحمن بدوي، الخوارج والشيعة، دار القلم، سنة 2020م، ص17.

[10] أماني صالح، الشرعية بين فقه الخلافة الإسلامية وواقعها (الجزء الأول)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، سنة 2006م، ص96.

[11] علي فياض، نظريات السلطة في الفكر السياسي الشيعي المعاصر، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، سنة 2010م، ص443.

[12] حسن حنفي، من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (٣) التراكم: تنظير الموروث قبل …، مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع، سنة 2022م، ص230.

[13] مهنا، محمد نصر، تجديد الخطاب الديني واشكالية الخلافة بين السنة والشيعة، الدار الثقافية للنشر، سنة 2008م، ص133.

[14] عبد الحسن آل نجف، مدخل إلى الفكر الكلامي عند الشهيد الصدر، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، سنة 2003م، ص224.

[15] صباح، إبراهيم دعيج، الشرعية الإسلامية والشرعية الدستورية، دار الشروق للنشر والتوزيع، سنة 2000م، ص71.

[16] إبراهيم المقدادي، موسوعة إيران والتشيع السياسي – المجلد الأول -، مركز المزماة للدراسات والبحوث، سنة 2018م، ص167.

[17] جلال الدين محمد صالح، ولاية الفقيه وإشكالية السلطة السياسية في الفقه الشيعي: المنطلقات الفكرية…، مكتبة القانون والاقتصاد (الرياض)، ط1، سنة 2015م، ص245.

[18] مجموعة مؤلفين، الإسلام في تاريخ شعوب الشرق، أكاديمية العلوم في الاتحاد السوفياتي : معهد الاستشراق، سنة 2017م، ص141.

[19] فاطمة الصمادي، التيارات السياسية في إيران: صراع رجال الدين والساسة – طبعة ثانية مزيدة ومنقّحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سنة 2019م، ص45.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد مهدي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا