آيْدُيولوجيا الحرية: من الحُرِّيَّة كآيْدُيولوجيا سياسيَّة إلى الحُرِّيَّة كتكنولوجيا اقتصاديَّة

في ثنايا الذاكرة الفرنسيَّة تَسْكُن تلك الحادثة الخالدة، والتي ما زال البعض يسمع أصدائها إلى يومنا هذا. لقد كانت الثَّوْرة الفرنسيَّة ذات أهمية خاصة للتاريخ الإنسانيّ، فهى تلك الشَّرَارَة التي قادت الشُّعُوب من أجل المُطالبة بحُرّيتها وبحقها في مُمارسة تلك الحُرِّيَّة، فعلَّمت العالَم أجمع قيمة تلك الحرية وأنها لم تَعُد تلك الرفاهية أو حتى الحُلْم الميتافيزيقيّ الذي تمنَّاه المفكِّرون والفَلاسفة على مَرّ العُصُور.

استطاعت الثورة الصناعيةأن تؤثِّر بقوة كتلك التي أثَّرت بها الثَّوْرة الفرنسيَّة في مجرى التاريخ، ومع تطوُّر تلك الآلات الجبَّارة تغيَّرت معها الكثير من الأمور، لتُعيد للأذهان السؤال عن حقيقة الحُرِّيَّة، وهل توجد حقًا حُرِّيَّة في المجتمع الرأسماليّ؟ وما هى أشكال العبوديَّة، وهل يمكن اختزالها في شكلها المعروف باستعبادٍ جبريّ للإنسان من قِبل أخيه الإنسان؟ ألا يمكن أن تكون هناك أشكال أخرى أكثر جبريَّة كعبودية الإنسان للآلات بعد أن أصبحت هى المسئولة عن تلبية متطلَّبات الإنسان الأساسيَّة، ومن ثَمَّ تحوَّلت المعايير التقنية، وأصبحت هى من تحدِّد ما هى المتطلبات التي يحتاجها الإنسان، فعلى سبيل المثال، بعد أن كان دور الآلة أن تُساعِد الإنسان على الزراعة وغيرها من الأمور وتنميتها والحصول على محاصيل أكثر، تحوَّلت لتكون التكنولوجيا هى الغاية في ذاتها بعيدًا عن منافعها وآثارها على الصناعات والتخصُّصات الأخرى، ومن ثَمَّ تدخَّلت التكنولوجيا سلبًا فصارت هى المُتحكِّم في حاجات السوق، وهى من تتدخَّل في الدور البشريّ في الصناعة وغيرها، وتحوَّلت المعايير لمعاييرٍ أداتيَّة تقنية تؤثِّر سلبًا على حياة البشر وأنماط حياتهم.

قد يظن البعض أن الحرية كانت في منأى عن كل تلك التغيُّرات، وبعيدة هى عن التطوُّر الأداتي على المستوى الاقتصاديّ، والذي تغيَّر معه منطق العَلاقات القائمة بين الأفراد على المستوى الاقتصاديّ ليصل إلى شكله التعاقديّ، والبعض أيضًا اختزل رؤيَّته للحُرِّيَّة على مستواها الميتافيزيقيّ، فلم يرى أي تغيُّر قد حدث لمفهوم الحُرِّيَّة، بل وللمفارقة ادَّعى البعض أن الطريق الأنسب للوصول إلى تلك الحُرِّيَّة هو بالإيمان بجدوى هذا النموذج الاقتصاديّ وتطبيقاته التي سوف تؤول حتى إلى الحرية للكل في النموذج الليبراليّ الحداثي، ولكنه وإن جاز أن يكون ذلك على الحرية كقيمة إنسانيَّة لم تفقد قيمتها -حتى الآن على الأقل- فعلى الأقل قد حدث تغيُّر ما في دورها الآيْدُيولوجي.

لم تَعُد الحُرِّيَّة هى القِبْلَة الأولى التي تؤمها الشُّعُوب نحو المُطالبة بحقوقها وممارستها بحُرِّيَّة، بل وربما أصبحت الحُرِّيَّة هى الأداة التي تُستخدَم في تجديد عَقْد احتكار النظام الرأسماليّ وملكيته لموارد الشُّعُوب عبر الدور الذي تمارسه تلك الحُرِّيَّة في ترسيخ منطق العَلاقات القائم بين السُّلْطة والنظام الاقتصاديّ العالميّ عبر التأكيد على وجود الحرية الاقتصاديَّة وجدواها، بدلًا من تلك الحُرِّيَّة السياسيَّة الميتافيزيقيَّة واليوتيوبيَّة غير القابلة للتحقيق في أعين المُنظِّرين الاقتصاديين المُناصرين للنظام الرأسماليّ، ولعل الحُرِّيَّة أيضًا كانت في صورتها الاستهلاكيَّة أقرب ما يمكن إلى العبودية والتبعية لمن بيدهِ أدوات الإنتاج، فتبدَّلت الحُرِّيَّة من غاياتها السياسيَّة والتشريعيَّة في بحثٍ عن حقوق الأفراد إلى حُرِّيَّةٍ اقتصاديَّة يغلب عليها الطابع المصلحي، لتتغيَّر المعادلة من السياسة إلى الاقتصاد، ولعل هذه التغيُّرات هى من تُسوِّغ أسئلتنا عن طبيعة الحُرِّيَّة وعن إمكانية وجودها على المستوى الاقتصاديّ في ظل نظام يرسِّخ التبعية الاقتصاديَّة عبر التوزيع غير المتكافئ للأرباح والعبودية المُقنعَّة عبر الاستهلاك.

ولكن التغيير الأكبر كان من نصيب عَلاقة الحرية بالسُّلْطة نفسها وليس فقط بالجماعات والأفراد ونظرتهم للحُرِّيَّة أو العبودية التي يقعون فيها، فبعد أن كانت الحُرِّيَّة في أحد تجلياتها نقيضًا للسُّلْطة، أصبحت هى أداة لها، يتغيَّر معها الدور الآيْدُيولوجيّ الذي تلعبهُ الحُرِّيَّة من تَثْوير الجماهير إلى تسكينهم وحتى تدجينهم من خلال إعادة تعريف الحُرِّيَّة كحُرِّيَّةٍ للاستهلاك والتبعية لأدوات الإنتاج.

إعلان

وسوف نحاول هنا أن نعرض موَاطِن هذا التغيُّر الحادث على الدور الآيْدُيولوجيّ الخاص بالحُرِّيَّة من التَثْوير إلى التسكين، وكذلك تغيُّر منطق العَلاقات التي تربطها بالسُّلْطة، مع إيضاح التغيُّرات على المستوى الاقتصاديّ والسياسيّ، وذلك من خلال الحديث عن الدور الآيْدُيولوجيّ للحُرِّيَّة في التحولات التي طرأت على النُظُم الاقتصاديَّة وأبرز تطوُّراتها في حالة الليبراليَّة الجديدة، وما هو التغيُّر الحاصل في الدور الآيْدُيولوجيّ الذي يحدِّد العَلاقة بين الحُرِّيَّة والسُّلْطة، من خلال عرض الدور الذي تلعبه الحُرِّيَّة كضرورة وجوديَّة التي تمثلها الأولى للأخيرة.

الحُرِّيَّة كآيْدُيولوجيا: رحلة البحث عن الحُرِّيَّة

هناك العديد من المضامين والتعريفات الخاصة بالحُرِّيَّة، ولكن لعل أشهرها هو المتعلِّق بمفهومها السياسيّ والتشريعيّ خاصة في ما قبل العصر الليبراليّ، حيث تكون الحرية:

“مجموعة من الأفكار التي تُسوِّغ نظامًا سياسيًّا”.

وتعرف أيضًا بـ:

حقوقًا شرعيَّة للأفراد في مقابل الحُكْم وتجاوزاته”.

ومن هنا نرى الدور التشريعيّ التي كانت تقوم به الحُرِّيَّة في تسويغ الحقوق الداعمة لوجود بعض النُظُم السياسيَّة.

وقد تنبَّه الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو إلى الدور الآيْدُيولوجي الذي تلعبهُ الحُرِّيَّة على المستوى السياسيّ عبر التَّشْريع والتَّسْويغ للحقوق الفرديَّة داخل الأنظمة السياسيَّة الغربيَّة، التي تحاول أن تعمل على ادِّعاء الحُرِّيَّة أكثر من تطبيقها بشكلٍ كلي، ولكنه قد لاحظ أيضًا حدوث تغيُّر في هذا الدور الآيْدُيولوجي في المرحلة الليبراليَّة وخاصة المتأخرة منها، وكذلك التحوُّل إلى المستوى الاقتصاديّ كساحةٍ جديدة للمعركة، لتكون الحُرِّيَّة في فهم فوكو آيْدُيولوجيا اقتصاديَّة تجد فعالياتها في المُمارسة في إطار النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ، وكذلك يتبدَّل معها منطق العَلاقات القائم ما بين الحُرِّيَّة والسُّلْطة.

لم تنشأ تلك التعريفات السياسيَّة والتَّشْريعيَّة للحُرِّيَّة من فراغٍ تاريخيّ، بل كانت هناك سوابق تاريخيَّة حافلة تؤكِّد للحُرِّيَّة على دورها البارز على مَرّ التاريخ، وأهمية خاصة في تَشْريع الحقوق الخاصة بالأفراد والجماعات وتسويقها باعتبارها حجر الزاوية الذي تبنى عليه تلك الحقوق وتؤسَّس به، وقد بدى هذا الدور ظاهرًا في كثيرٍ من القوانين والمواثيق التي تجعل من الحُرِّيَّة الأساس الثابت والحق الأصيل لكل إنسان، وتقوم بالتأكيد عليه من خلال التَّشْريعات وسَنّ القوانين الضابطة للعَلاقات بين الأفراد وتحديد حقوقهم وتعاملاتهم بعضهم مع بعض أو في عَلاقة الأفراد بالسُّلْطة الحاكمة لهم.

ولَعِبَت الحُرِّيَّة على الصعيد السياسيّ دورًا في دفع جماهير الشُّعُوب نحو الثَّورة في حال لم توجد تلك الحُرِّيَّات ولم تأتِ تلك السُّلْطات الشُّعُوب حقها، وقد رأينا في الثَّورة الفرنسيَّة النموذج الأبرز على مَرّ التاريخ لتلك الحالة من الحراك الشعبيّ باسم الحُرِّيَّة.

ولكنه مع الوقت قد تبدَّلت الحرية نفسها لتصبح ما يمكن تسميته آيْدُيولوجيا سُلْطويَّة، فتكون هى الأداة التي تتحكَّم من خلالها السُّلْطة وتدير مؤسساتها لتضمن أسباب وجودها وتؤكِّد على فاعليتهما معًا.

والحق أنه لم تكن الحُرِّيَّة أبدًا حُرَّة بشكلٍ مطلق، بل كان دأب السُّلْطة أن تُطوِّعها من خلال تحجيم دورها، وتحِدّ من الحُرِّيَّات بسَنّ القوانين المُقيِّدة ووضع الحدود المُلزمة، لتكون ضابطًا للحُرِّيَّة ومراقبًا على تحولاتها وحائلًا بينها وبين التغيُّرات الراديكاليَّة.

ويتحدَّث فوكو عن دور الحُرِّيَّة كمقاومة لممارسة السُّلْطة، وتلك النهاية التي تؤول إليها الحُرِّيَّة، وخاصة بعد نشوء السُّلْطة الحيويَّة التي أعادت تكوين العَلاقات بين الحُرِّيَّة والسُّلْطة قائلًا:

“لا يسعها (الحُرِّيَّة) إلا أن تقاوِم ممارسة السُّلْطة، والتي تنزع في النهاية إلى تحديد هذه الحُرِّيَّة كليًّة”.

ويتحدَّث فوكو هنا عن إعادة تعريف وتحديد الحُرِّيَّة من خلال عَلاقتها بالسُّلْطة وليس فقط عبر مقاومتها للسُّلْطة.

وقد تحدَّث فوكو عن تلك السُّلْطة الانضباطيَّة التي تضع الحدود للحُرِّيَّة بلسانها قائلًا:

“لا يمكن لنا، بالطبع، أن نقوم بتحرِّير الأفراد من دون أن نقوم بتطويعهم”.

مؤكِّدًا بذلك على الدور الانضباطيّ التي تلعبهُ السُّلْطة في سبيل تقييد الحُرِّيَّة وتحديدها.

ولكن هذا لا يعني كما يعتقد البعض أن العَلاقة بين السُّلْطة والحُرِّيَّة عَلاقة تناقض بينهما، أو أن العَلاقة التي تربط الحُرِّيَّة والسُّلْطة هي عَلاقة استبعاديَّة، فحينما تكون أحدهما موجودة تنتفي الأخرى، بل على العكس هى أقرب ما تكون بالعَلاقة التكامُليَّة، حيث لا يمكن أن توجد سُّلْطة بلا حُرِّيَّة.

ويمكن فهم الحُرِّيَّة كجزءٍ من البِنْيَة الآيْدُيولوجيَّة للسُّلْطة في تصوّرها الفوكوي كتكنولوجيا، وهذا ما سوف نحاول إيضاحه.

الحرية كتكنولوجيا: عن الحرية في زمن الاسْتِهْلاك

مع تطوُّر النظام الرأسماليّ على المستوى الاقتصاديّ، ظهرت ضرورة وجود الحُرِّيَّة في صورتها الاقتصاديَّة، حيث من الصعب أن تكتمل شروط التطوُّر للنُظُم الاقتصاديَّة إلى الأشكال الحديثة من الرأسماليَّة بدون توافر “حُرِّيَّة السُّوق”، “وحُرِّيَّة الحركة”.

لا شَكّ أن النظام الرأسماليّ، وخاصة الرأسماليَّة الليبراليَّة، استطاعت أن تؤدلج الحرية وتستفيد من وجودها على الصعيد السياسيّ والاقتصاديّ، حيث أعطت نفسها صبغة شَرْعيَّة على الصعيد السياسيّ، من خلال التصويت والانتخابات وغيرها من الممارسات التي تؤكِّد على حُرِّيَّة الأفراد في اختيار من يحملون أصواتهم، وكذلك في إعطاء الأفراد بعض الحُرِّيَّات الجُزئيَّة من أجل اختيار أنماط اسْتِهْلاكيَّة بعينها، حتى لو كانت قابلة للسلب مرة أخرى في حال معارضتها مع المصالح الاقتصاديَّة الكُليَّة للسُّلْطة، أو السماح بتعددية حزبية على المستوى الخارجي مع الحفاظ على منطق العَلاقات الحاكم للسُّلْطة والحُرِّيَّة عند حدود لا تصل أبدًا لحدود التغيُّر.

ولكن الحديث عن حُرِّيَّة في ظل النظام الرأسماليّ كنظامٍ اقتصاديّ مهيمن عالميًّا، وفي ظل احْتِكار فئة بعينها لأدوات الإنتاج والقدرة على شراء الأصوات، هو حديث عن حُرِّيَّة من يملكون تلك الأدوات فقط وليس من هم يخضعون لمصالحهم، وقدرة هؤلاء المسيطرين على أدوات الإنتاج على التدخُّل في مسار الحُرِّيَّة وتحجيمها بكل السُبُل المُمكنة.

ولكن هذا لا ينفي ضرورة وجود الحُرَِّيَّة بالنسبة إلى السُّلْطة نفسها، فعلى المستوى السُّلْطوي نفسه لا تستطيع السُّلْطة أن تُمارِس فاعليتها في تقييد الحقوق والحُرِّيَّات بدون وجود مثل تلك الحُرِّيَّة أيضًا، لأنها هي من تعطي السُّلْطة القدرة والجاهزية على تأمين ضرورات الحُكْم وأسبابه من أجل أن تكتمل الصورة الأمنية بتفعيل جاهزيتها.

وأنه لا بُدّ من افتراض وجود حُرِّيَّة مسبقًا من أجل أن تتم عَلاقات السُّلْطة وتُمارِس قمعها، فلا تستطيع السُّلْطة أن تمُارِس سُّلْطتها إلا على ذَواتٍ حُرَّة، بل ويجب أن تبقى تلك الذَّوات حُرَّة حتى تظل عَلاقات السُّلْطة قائمة.

وكما رأى فوكو نفسه في الحُرِّيَّة بأنها هذا المجال من القدرة على الفعل والتصرُّف، والذي من خلاله تُظهِر السُّلْطة فاعليتها، وبالتالي تكون هي الشرط لوجود السُّلْطة.

وفي الواقع، فإن هذا ما جعل السُّلْطة ترى في الحُرِّيَّة بهذا التصوُّر على الأقل تقنية فعَّالة في الحُكْم، فوجدت فيها تلك التكنولوجيا التي تستطيع من خلالها السُّلْطة أن تضبط وتنظِّم المجتمع، وقال فوكو عن هذا التعريف للحُرِّيَّة بأنها:

“أولًا وقبل كل شيء، تكنولوجيا السُّلْطة”.

وقد تنبَّه فوكو إلى هذا الدور الآيْدُيولوجي الذي تلعبهُ الحُرِّيَّة في توفير مناخ العمل الجيد للسُّلْطة، من خلال توفير الحركة والتنقُّل الشروط اللازمة لجاهزية الآمن وفعاليته، وقال فوكو في هذا السياق:

“علينا أن نفهم هذه الحرية التي هى آيْدُيولوجيا وتقنية في الحُكْم في الوقت نفسه ضمن تغيُّرات وتحولَّات السُّلْطة، وبشكلٍ خاص ومحدَّد، فإن هذه الحُرِّيَّة ليست شيئاً آخر غير التلازم والترابط في جاهزيات الآمن”.

وقد اعتبر فوكو تلك الحُرِّيَّة كآليَّةٍ أساسية في السُّلْطة الحيويَّة، ومن هنا لم يرَ فيها تلك التعريفات السياسيَّة والتَّشْريعيَّة فقط، بل وأيضًا تكنولوجيا السُّلْطة.

لتكون الحُرِّيَّة هى الآليَّة التنظيميَّة التي تستطيع من خلالها السُّلْطة ممارسة سُلْطتها عبر ضمان الشروط التي تضمن وجودها واستمرارها، بل وتضمن أيضًا قدرتها على الضبط والتنظيم في حُكْم المجتمعات.

ولكن يبدو من المفارقة أنه في ظل هذه التغيُّرات ما زالت الحُرِّيَّة تلعب دورًا أيضًا في تقويض السُّلْطة في فتراتٍ زمنيَّةٍ معينة، وهذا ما جعل فوكو يفضلها من أجل هذا الدور الذي تلعبه في الحَدّ من السُّلْطة وإعطاء الأفراد حُريتهم حتى لو كان على المستوى الاقتصاديّ فقط.

وقد رأى فوكو في الحُرِّيَّة:

“الحرية تستطيع أن تُصارِع وتُناضِل وتصبح قوة سياسيَّة وتاريخيَّة”.

ويعتقد البعض أن في تفضيل فوكو للحُرِّيَّة في صورتها الليبراليَّة لم يكن بدوافع استحسان، ولكنه كان مبنيًّا على نزعةٍ نقديَّةٍ تميَّزت بها الفَلْسَفة الفوكويَّة في منظورها تجاه السُّلْطة نفسها، وإظهار التناقضات الداخلية الخاصة بالسياسات الغربيَّة ومفارقاتها، وبين ما تدَّعيه أنظمتها من شعارات الحُرِّيَّة والمدنيَّة وما تمارسهُ على أرض الواقع من ممارساتٍ أخرى تتميَّز بالقمعِ والوحشيَّة.

ومن هنا يكون هذا التسليم الفوكويّ بإقرار مفهوم الحُرِّيَّة الليبرالي، من أجل تقويض السُّلْطة من الداخل والمساهمة في تجاوزها، وتكون الدوافع الحقيقية لتسليم فوكو بأفضلية الحُرِّيَّة الليبراليَّة لدوافعٍ تنويريَّة نقديَّة تهدف إلى تجاوزها وليس الإبقاء عليها.

وتظهر كذلك تلك النزعة النقديَّة في الفَلْسَفة الفوكويَّة في إعادة تعريف السُّلْطة على أنها “لُعْبَة مفتوحة” مع التأكيد على وجود مطالب “ممارسة الحُرِّيَّة” فيها، ومن هنا تكون الصياغة الفوكويَّة لمفهوم السُّلْطة تعمل على نقد السُّلْطة والحَدّ منها من الداخل، من خلال التأكيد على روح الحُرِّيَّة في السُّلْطة والمُطالبة بها، وكذلك في كونها لُعْبَة استراتيجيَّة مفتوحة، والتي ينشأ عنها لَعِب السُّلْطة في أقل قدر ممكن من الهيمنة تحت مظلة الحُرِّيَّة، مع التأكيد على الدور الذي سوف تلعبهُ الحُرِّيَّة في منع ترسيخ السُّلْطة لأقدامها ومقاومة هيمنتها السُّلْطويَّة.

لكن هل يمكن في يومٍ ما أن تنتقل تلك الروح التحرُّريَّة من المستوى الاقتصاديّ إلى المستوى السياسيّ؟

أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تتعلَّق بالسياسات الرأسماليَّة التي تتبعها السُّلْطة في بعض الأنظمة، والتي ترى في أي تحرُّرٍ سياسيّ تهديدًا وجوديًّا لها ولأنظمتها السياسيَة التي ترى مصالحها الاقتصاديَّة، ومن هنا لا بُدّ من إبقاء هامش الحُرِّيَّة على الصعيد الاقتصاديّ فقط.

وقد رأى فوكو أن السَّبَب وراء غياب الحرية من المجتمعات، هو تفشي الرأسماليَّة وضياع العدالة الاجتماعيَّة في تلك المجتمعات، مما جعل السُّلْطة تُمارِس بحُرِّيَّة أكثر سُلْطتها القمعيَّة.

وهل يمكن أن تتحوَّل أيضًا الحُرِّيَّة من فعلٍ تحرُّري إلى فعل خضوع؟ ومن مُمارسة جماعية تهدف إلى تحقيق مطالب الأفراد وتشريع حقوقهم، إلى أداة آيْدُيولوجيَّة في يَدّ السلطة تسيطر بها على مجموعةٍ من الذَّوات الفرديَّة المؤدلجة، وذلك بعد أن تغيَّرت الآيْدُيولوجيا الاقتصاديَّة والثقافيَّة لترسيخ صورة جديدة عن الحُرِّيَّة وتؤكِّد على القِيَم الاسْتِهَلاكيَّة؟

وقد قامت السُّلْطة بتلك التغيُّرات الثقافية عبر خِطابها المؤدلج ولُغتها وأساليبها التي مارستها على الحُرِّيَّة وفهمها، لتتحوَّل الحُرِّيَّة من صورتها التحرُّريَّة إلى أشبه ما يكون بالتَّبَعِية لبعض الشعارات والخِطابات الفِكْريَّة والسياسيَّة.

هوامش:

(1) “السلطة الحيويّة” هي سلطة “تدير حياة الناس وتمتلك قوّة الموت والحياة. وتعمل على محورين أساسيين: محور الجسد الآلة…ومحور الجنس البشري القائم على التكاثر”.

(2) الزواوي بغورة، مفهوم الخطاب في فلسفة فوكو (المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000).

(3) ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء: أنطولوجيا العلوم الإنسانية (مركز الإنماء القومي، دار الفارابي، 2013).

(4) خديجة زتيلي، الفلسفة السياسية المعاصرة: قضايا وإشكاليات (منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، الرباط، 2014).

(5) بيونج تشول هان، ما السلطة؟ ترجمة: بدر الدين مصطفى (دار أركان للدراسات والأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2021).

(6) شريف بوعلام، النقد الاجتماعي في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت (أنموذج هربرت ماركيوز) (مركز الكتاب الأكاديمي، 2018).

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد مهدي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا