الثورة الصناعية وأثرها على الثقافة المادية للغرب

لعبت الثورة الصناعية دورًا هامًا في جعل تفكير الغرب تفكيرًا ماديًا نتيجة لتغيرات كثيرة حدثت في كلِّ مجالات الحياة. اندلعت الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر بأوروبا. وكان لها تأثير بالغ على كل النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأدبية. وهي نتيجة لعصر النهضة وإن كان بشكل غير مباشر، ففي عصر النهضة أصبح التركيز على المخلوق وليس على الخالق، وأصبح الجهد على تحسين الحياة الدنيوية للإنسان.

وبالتالي حدثت ثورات علمية وتغيرات في نمط التفكير، فظهر”جاليليو” وظهر أيضًا “كوبرنيكوس” الذي أثبتوا أفكارًا وحقائقًا كثيرة تختلف عما كان شائع حينئذٍ وتتخذ صفة القداسة مثل مركزية الشمس وإنَّ الأرض ما هي إلَّا كوكب صغير يدور حولها، وهذه الحقيقة تتعارض مع فكرة مركزية الإنسان في الكون. فكلُّ هذا أدَّى إلى ازدهار العلم والذي كان البذرة لعصر التنوير في القرن الثامن عشر وهو عصر المعرفة والعقل حيث ارتفاع الأصوات الموالية للعلم وإعمال العقل والتخلص من الخرافات التي كانت سائدة خلال العصور الوسطى. فلولا ازدهار العلم -على سبيل المثال اكتشاف البخار كقوة محركة على يد جيمس واط عام 1784م- لم تكن صناعة الماكينة والتي تمثِّل الأساس للثورة الصناعية

تأثيرها على الاقتصاد

آثار الثورة الصناعية لا تزال موجودة حتى الآن لأنَّ من أهم نتائجها هي نشأة الرأسمالية، وهي تشير إلى نظام يحتكر كل وسائل الإنتاج ومصادر الربح في أيدي ملكية خاصة. سرعان ما أصبح مُلاك المصانع الذين سيطروا على وسائل الإنتاج أثرياء جدًا وأنشأوا مصانع أخرى وأصبح لديهم استثمارات أكثر. هؤلاء أصحاب المصانع أُحلوا محل مُلاك الأراضي الزراعية كقادة لاقتصاد الدولة ومصادر القوة. أصبحت أوروبا وخصيصًا إنجلترا حيث أنشأت الثورة الصناعية مجتمعًا منقسمًا إلى طبقتين وهما: طبقة البرجوازية وهم أصحاب المصانع والطبقة الأخرى هي طبقة البروليتاريا وهم طبقة العمالة الكادحين الذي نقصت رواتبهم نتيجة أن الاعتماد الكلي لم يكن عليهم وعلى ما يعملونه بأيديهم بل على الماكينة، ولكن ازداد الانتاج بسبب الماكينات، فما ينتجه العمل اليدوي أقل مما تنتجه الماكينات.

أدى هذا إلى تفاوت كبير بين ثروات أصحاب المصانع والعمال كما ذكرنا من قبل، لذا وضع ” كارل ماركس” نظريته الشهيرة وهي نظرية “فائض القيمة” والتي تلقي الضوء على تراكم رأس المال والتفاوت الكبير بين البرجوازي والبروليتاري.

 

الفيلسوف وعالم الاقتصاد كارل ماركس

 

والمادية والاستهلاكية تعتبران أحد أكبر عيوب الثورة الصناعية. فتمركٌز الأشخاص حول المال جعل الناس ينظرون إلى كل شيء باعتباره سلعة حتى أنفسهم، فالبشر أصبحوا مجرَّد بضائع تُباع وتُشترى. أي أنَّ كل شيء ما هو إلا مادة فالبشر هم مجرد “ماكينات بيولوجية” يجب أن تتطوَّر للوصول إلى “الإنسان الأعلى” حسب ما اعتقد الفيلسوف الألماني الشهير “فريدريك نيتشه“، وإن كان متأثِّرا أيضًا بالفكر الدارويني.

إعلان

الثورة الصناعية وتأثيرها على الأدب

أدَّت الثورة الصناعية أيضًا إلى زيادة التلوث البيئي نظرًا لعوادم المداخن وما شابه والكثافة السكانية في المدن بسبب لجوء الكثير من أهل الريف إلى العمل في المدينة. وبهذا ظهر خطَّان متوازيان: الأشخاص الماديِّين الذين يسعون إلى اكتساب المال وزيادة ثرواتهم عن طريق الإنتاج من ناحية، والأشخاص الذين كرهوا ضوضاء المدن وتلوُّثها والصناعة بوصفها أداة للبعد عن ما هو طبيعي من ناحية أخرى، فلجأ هذا النوع من الأشخاص إلى الطبيعة التي تمثِّل لهم النقاء والجمال والمهرب لهم من شعورهم بالاغتراب تجاه مجتمعهم الذي طرأت عليه التغيُّرات الناتجة عن الثورة الصناعية. فظهرت حركة أدبية بأوروبا وهي الرومانسية، وكانت بمثابة رد فعل ضد الآثار السلبية للثورة الصناعية فالرومانسية تعلي من شأن الروح متمثّلة في المشاعر والخيال عن المادة متمثّلة في العقل والتحليل.

 

الشاعر الإنجليزي الرومانسي ويليام وردزورث

 

ونجد الشاعر الإنجليزي الرومانسي “ويليام وردزورث” يبدع في وصفه للطبيعة وجمالها ومناظرها الخلابة في باقة من أجمل قصائده، فعلى سبيل المثال، في قصيدة “أزهار النرجس” يبدأ قصيدته بالبيت المشهور “تجوَّلت وحيدا كسحابة”، فهو يهرب من الناس في المدينة ليستمتع بجمال الأزهار وحده نتيجة لشعوره بالاغتراب. وأصبح هؤلاء الشعراء روحانيين إلى حدٍّ زائد عن اللازم، فاعتبروا أنفسهم أنبياءً وأن ما يكتبونه هو وحي من السماء ونرى الشاعر والرسام “ويليام بليك” في مجموعته الشعرية ” أغاني المعرفة” وهو ينادي البشر بأسرهم لكي يتوبوا عن خطاياهم وعن ما وصلوا إليه من مادية وبعدهم عن القيم الروحية والمعاني الإنسانية السامية.

الثورة الصناعية وتأثيرها على السياسة

وكان للثورة الصناعية دور كبير في زيادة الاستعمار الأوروبي لأفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا طمعًا في نهب ثرواتهم لجلب المواد الخام اللازمة للصناعات مثل القطن والفحم والخشب. ولا بدَّ أن نلقي نظرة على أن الثورة الصناعية قد ساعدت الدول الأوروبية بإمدادهم بأسلحة قوية وسفن تمكِّنهم من الوصول بشكلٍ أسرع مما كانت عليه السفن من قبل الثورة. ولزيادة الإنتاج الصناعي، كانت الدول المحتلة عبارة عن أسواق لبيع هذه البضائع الكثيرة، وهذا شكل من أشكال المادية المتزايدة في الغرب، فهو لا يبحث إلا عن المادة. وإذا نظرنا من الناحية السيكولوجية للدول التي استفادت من الثورة الصناعية، فنجد أن هذه الدول قد رأت أنفسها بأنَّها قوية اقتصاديًا وعسكريًا لذا يجب أن تحتَّل الدول الضعيفة.

ومن هنا يتضِّح أنَّ ما عليه الغرب اليوم من مادية ما هو إلإ نتيجة تراكمات تاريخية حدثت له. ويبقى الغرب له ما له وعليه ما عليه، ويجب أن نستفاد منه بما هو ملائم لنا وأن نترك أي شيء سلبي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أبانوب وجدي

تدقيق لغوي: مروان محمود

اترك تعليقا