التطرف كنزعةٍ فكريَّة (مترجم)

عادة ما نعتقد أن “التطرف” هو اللجوء إلى العنف المبني على الأفكار السياسيَّة، التي يمتثلها الشَّخص في سبيل تحقيقها. ولكن مجرَّد الاعتقاد الآيديولوجيّ الواقع في أحد طرفي الطيف السياسيّ، أو اللجوء إلى العنف لا يكفي لاعتبار الشَّخص متطرِّفًا. فالتطرُّف هو عقليَّة في حَدّ ذاته، منظور لرؤية العالم والآخرين، يتخطى الآيديولوجيَّات وطرائق تحقيقها، كما يحاجج. «كواسيم كاسام – Quassim Cassam»

منذ قرابة العشرين عامًا تقريبًا، وفي مثل هذا اليوم، قاد “محمد عطا” طائرة الخطوط الجويَّة الأمريكيَّة رقم (11) واصطدم ببرجي مركز التجارة العالميّ في نيويورك. كان عطا، في رأي معظم الناس، متطرِّفًا. كذلك كان «أندرس بريفيك -Anders Behring Breivik» الذي، بعد عشر سنوات من عام 2003م، قَتَلَ 69 شخصًا في مخيَّمٍ صيفيٍّ في النرويج. ومع تقدُّمنا بالزمن بعشر سنواتٍ أخرى إلى عام 2021م، لا يزال التطرُّف حيًّا ومزدهرًا في أفغانستان والعديد من الأماكن الأخرى.

فواحدة من الكليشيهات حول الإرهاب الآن، هي أن إرهابيًّا واحدًا هو محارب لحريَّة شخصٍ آخر. في حين تقول مقولة أخرى أقل شعبيَّة أنه: أمام كل متطرِّفٍ هناك آخر وسطيّ. فمن الصعب التفكير في طريقةٍ يكون فيها اختراق طائرة بوينج لمبنى ما، أو تفجير انتحاريّ يطال الناس عند أبواب مطار كابول، تقول بإن تلك الأفعال لا تُعَدّ تطرُّفًا. يبدو أن بعض الأمور ليست نسبيَّة، ومع ذلك، قد يتساءل المرء عمَّا يجمع بين “عطا وبريفيك” وأمثالهم؟ بالتأكيد ليست الآيديولوجيا. فـ”بريفيك” على أقصى اليمين من الطيف السياسيّ ومعادٍ للمسلمين. أما “عطا” فكان إسلاميًّا ومن الصعب تحديد آيديولوجيَّته على طرفي اليسار أو اليمين.

بريفيك وعطا هما متطرِّفان آيديولوجيًّا، أشخاص يؤمنون بآيديولوجيَّاتٍ متطرِّفة على الرَّغم من أنها ليست الآيديولوجيا نفسها، لكن هناك شيء آخر يجمع بينهما وبين العديد من المتطرِّفين الآخرين، ألا وهو استعدادهم لانتهاج أساليبٍ متطرِّفة، بما في ذلك العنف، في سبيل تحقيق أهدافهم السياسيَّة. فالمتطرِّفين يعدون العنف أداةً للحصول على ما يريدون. ويمكن أن تكون الآيديولوجيَّات المتطرِّفة يساريَّة أو يمينيَّة أو ليس أيًّا منهما، ولكنها تكاد دائمًا أن تكون مؤيدة لاستخدام العنف.

معظم الحكومات، بما في ذلك الحكومات المُنْتَخَبَة، مستعدة أيضًا لاستخدام العنف لتحقيق أغراضٍ سياسيَّة. ففي أعقاب أحداث 11 سبتمبر، أقنعت الحكومة الأمريكيَّة نفسها بأن تغيير النظام في العراق كان أحد الأهداف الإستراتيجيَّة لـ “حربها على الإرهاب” المحمومة، ولجأت إلى استخدام العنف المتطرِّف في سبيل تحقيق هذا الهدف. إذ كان القائمون على العنف جنودًا بالزي العسكريّ، ينفِّذون أوامر حكومة مُنْتَخَبَة، ولكن هذا بالكاد يُشكِّل أساسًا كافيًا لنفي أن أولئك الذين يُروِّجون للعنف كوسيلةٍ لتحقيق أهدافهم السياسيَّة في العراق كانوا يحققونها بانتهاجهم أساليب متطرِّفة.

إعلان

في الواقع، العَلاقة بين التطرُّف والعنف أكثر تعقيدًا مما يوحى إلينا. فاستخدام العنف في الدفاع عن النفس لا يجعل الشَّخص ذا نهجٍ متطرِّفٍ في حَدّ ذاته. فواقعة محاولة ضباط الجيش الألمانيّ، اغتيال هتلر بقنبلةٍ في عام 1944 لم تجعلهم متطرِّفين. وكذا الكفاح المسلَّح للحركة الوطنيَّة الإفريقيَّة ضِدّ الفصل العنصريّ في جنوب إفريقيا، لم يجعل قيادتها ذات منهجٍ متطرِّفٍ، وبناءً عليه لم يكن «نيلسون مانديلا – Nelson Mandela» متطرِّفًا.

وطبقًا لهذه الأمثلة، فإنه لمنطقيّ أن يُسْتخدَم العنف في سبيل قضية عادلة. لا شَكّ أن عطا وبريفيك اعتقدا أن استخدامهما للعنف كان في سبيل تحقيق قضيةٍ عادلة، لكنهما كانا مخطئين في ذلك. إذ قال «مارتن لوثر كينغ الابن – Martin Luther King Jnr»: إن السؤال ليس ما إذا كنا سنصبح متطرِّفين، لكن ما إذا كنا سنصبح متطرِّفين في سبيل استبقاء الظلم القائم، أم في سبيل تحقيق العدل. ولكن إذا استُخدِم العنف لإقامة العدل، هل ينبغي تصنيف أولئك الذين يستخدمونه كمتطرِّفين من الأساس؟

ذلك على حسب. حتى لو كانت قضيتُك عادلة، فإن السؤال الأكثر تعقيدًا هو: ما إذا كان استخدام العنف في سبيل تحقيقها عادلًا؟ فمنتهجو التطرُّف لا يستخدمون العنف فقط لتحقيق أهدافهم، بل يستخدمون العنف عندما لا يكون مطلبًا ضروريًّا. فإذا كان مانديلا على حقٍ في أن العنف كان الطريق الوحيد الذي سيقضي على الفصل العنصريّ، فإن ذلك يتعارض وتصنيفه كمتطرِّف النهج. فبالنسبة إلى المتطرِّفين الفعليين في النهج يكون العنف أكثر ما يشبه الحلّ الأوَّل بدلًا من كونه الحلّ الأخير، وذلك لأنهم يستمتعون بالعنف ويرون فيه خلاصهم.

هناك أيضًا معضلة النسبة والتناسب. فالمتطرِّفون في النهج يؤيدون استخدام العنف غير المتناسب، ولا يميزون بين الأهداف الشرعيَّة وغير الشرعيَّة. يرون أن كلًا من هم على الطرف الآخر من الخيط لهم أهداف مشروعة. ففي فتوى عام 1998م، رفض “أسامة بن لادن” صراحة أي تمييز بين الأهداف المدنيَّة والعسكريَّة، وأصر على قتل الأبرياء بدعوى أنه “يصلح دينيًّا ومنطقيًّا”.

هذه  بالتأكيد كلمات نهجٍ متطرِّف. المتطرِّفون في النهج يستخدمون العنف غير الضروريّ و غير المتناسب وغير التمييزيّ في سبيل تحقيق أهدافهم، بغض النظر عن مدى أحقيتهم في تحقيق هذه الأهداف العادلة، وذلك إلى الحدّ الذي تحاول فيه من خلال آيديولوجيَّاتهم أن تشرِّع هذا النوع من العنف، وبالتالي نستنتج أن تكون آيديولوجيَّاتهم المُنْتَهَجَة متطرِّفة لا محالة.

على الرَّغم من الحديث عن الآيديولوجيا وأساليب التطرُّف، فإن هناك نوعًا آخر من التطرُّف يصعب تحديده، ولكنه في العديد من الطرائق هو النوع الأكثر أصوليَّة وتجذُّرًا. فعندما يُفكِّر المرء في متطرِّفين أمثال “عطا وبريفيك”، يُلفت انتباهه التشابه السيكولوجيّ بينهما. المتطرِّفون لا ينتهجون فقط أساليب متطرِّفة ويشتركون في آيديولوجيات متطرِّفة، بل لديهم أيضًا ما يمكن وصفه بأنه عقليَّة متطرِّفة، التي بدورها تعلل أساليبهم وتفضيلاتهم الآيديولوجيَّة.

فمن وجهة نظر سيكولوجيَّة، يُحَدَّد التطرُّف ليس بما يؤمن به الشَّخص -من خلال آيديولوجيَّته- ولكن من خلال كيفية إيمانه، وطريقة إيمانه. المتطرِّفون نفسيًّا متشددون بشكلٍ غريب ولا يساومون في معتقداتهم، يكرهون التفاوض ويرون السياسة كصراعٍ بين الخير والشر، النور والظلام. ليس لديهم أي تسامح للآخر اتجاه الآخر  ويرفضون التعدُّديَّة. وصف «إيزايا برلين Isaiah Berlin» المجتمعات التعدُّديَّة كتلك التي تقبل بل وحتى تحتفي بالاختلافات بين الأفراد واختياراتهم في كيفية العَيْش. أما المتطرِّفون فيجدون صعوبة في قبول أن هناك أكثر من طريقة صحيحة للعَيْش.

لا ينطوي الحس النفسيّ للمتطرِّفين فقط على انتهاجهم العنف، والسَّعي لتحقيق طوباويَّة ما أو استرجاع أخرى، بل هناك الكثير من الانشغالات الفكريَّة التي تسيطر عليهم ويسهل التعرُّف عليها. فهناك من ينطوي تطرُّفه على فكرة “النقاء”، فالنازيون ينطوي تطرُّفهم على “النقاء العرقيّ”، وحركة طالبان تصبو “للنقاء الدينيّ”، وغيرهم من المتطرِّفين يصبون “للنقاء الآيديولوجيّ”. ففكر المتطرِّفين دائمًا ما ينحو بفكرهم على أنهم “ضحايا اضطهاد”. فما يصفه الفيلسوف 《جيسون ستانلي-Jason Stanley》 ب “علم حالة الضحية” هو جزء لا يتجزَّأ من عقليّة المتطرِّف، وذلك لأننا نشعر في الكثير من الأحيان أن تلك الاتهامات بالاضطهاد ليست إلا محض “خيال”، كما هو الحال بالنسبة إلى المتطرِّفين المدعون “ضحايا العزوبيَّة غير الطوعيَّة”، والذين يعتقدون أن النساء اللاتي ترفضن إقامة علاقات جنسيَّة معهم، بأنهن يضطهدنهم.

رغم أنه لا يكثر الحديث لصالح التطرُّف، فإن هناك البذرة التي زرعها مارتن لوثر كينج الابن وعبَّر عنها بأن التطرُّف يمكن أن يكون قوَّة إيجابيَّة، قوَّة من أجل العدالة. أفلم يضطر القائمون بالقضاء على الرق في القرن التاسع عشر إلى انتهاج طرائق متطرِّفة في حربهم ضِدّ الرق؟ وألم تكن النِّسْويَّات اللواتي لجأن إلى الإرهاب لسَنّ “متطرِّفات” في سبيل قضيةٍ رفيعة وجوهريَّة؟ تقول إحدى شخصيَّات روايات الكاتب الأمريكيّ «فيليب روث -Philip Roth»: “في بعض الأحيان يجب أن تلجأ إلى الطرائق الأقصى تطرُّفاً! أليست هذه هي الحقيقة؟ ألن يكون العالم أكثر ظلامًا مما هو عليه الآن لولا جهود “المتطرِّفين” ضِدّ الرق وأشكال الظلم الأخرى؟

في هذا السياق، يكون استخدام الاقتباسات مناسبًا تمامًا. فمعظم حملات مكافحة الرق ومناصرة حقوق المرأة لم تكن عنيفة، لم ينتهجوا أساليب متطرِّفة، ولم يمتلكوا عقليَّات متطرِّفة، لم ينشغلوا بالنقاء بأنواعه، وكانوا حقًا ضحايا الاضطهاد، كانت آيديولوجيَّاتهم متطرِّفة بمعايير زمنهم ولكن ليست بمعاييرنا الحالية.

بدلًا من استخدام مثل هذه الأمثلة لتبرير التطرُّف، من المنطقيّ فَهْم تاريخ الحركات المناهضة للرق والدفاع عن حقوق المرأة بالضرورة، وذلك للتفريق بين التطرُّف والراديكاليَّة. وعلى الرَّغم من أننا نحصل على فَهْمٍ ضعيف لهذا الفارق، فإنه يُعَدّ فارقًا حاسمًا بالنسبة إلى التقدُّميين الذين يرغبون في إثبات الحاجة إلى تغييراتٍ جذريَّة في تنظيمات المجتمع. فإذا كانوا يرغبون في دحض محاولات النُقذَاد لاتهامهم بالتطرُّف، فوَجَبَ عليهم شرح اختلاف رؤيتهم الراديكاليَّة عن التطرُّف.

الراديكاليون يؤمنون، كما تعبِّر عنهم «جريتا ثونبرغ-Greta Thunberg»، بأن “كل شيءٍ يجب أن يتغيَّر، ويجب أن نبدأ التغيير حالاً”. إنهم يطالبون بتغييراتٍ جذريَّة وسريعة في مواجهة حالة الطوارئ المناخيَّة أو ما يرونه كظلمٍ اجتماعيٍّ خطير. فالإصلاحات الهامشيَّة للقضية ليست مطالبهم، ويمكن فهم أسبابهم بوضوح. ومع ذلك، لا يعني هذا بالضرورة أنهم متطرِّفون، حتى لو كان بعض الراديكاليين أيضًا متطرِّفين.

من الممكن أن نؤمن بأن كل شيءٍ يجب أن يتغيَّر دون أن نتمسَّك بعقليَّةٍ متطرِّفة أو نؤمن بأن التغيير يجب حدوثه بواسطة القوَّة. يؤمن الراديكاليون بالسياسة الديمقراطيَّة بطريقةٍ لا يؤمن بها المتطرِّفون، ولطالما كانت الراديكاليَّة بدلًا من التطرُّف مفتاحًا للتقدُّم الاجتماعيّ، ولا تزال كذلك.

فالسؤال ليس ما إذا كنا سنصبح متطرِّفين، أو حتى أي نوعٍ من التطرُّف سنتحوَّل إليه، ولكن ما إذا كنا سنصبح راديكاليين؟ وإذا كان الجواب نعم، فأي نوعٍ من الراديكاليين سنكون؟

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا