الحق في ارتداء الحجاب بوصفه رمزًا دينيًّا. وأحكام الاتفاقيَّة الأوروبيَّة لحقوق الإنسان

يُعَدّ الحجاب من بين القضايا الأكثر جدليَّة في العَالَم الغربيّ، إذ حصلت منازعات وخلافات كثيرة حول مدى إمكانية ارتدائه، لأنه قد يُخَالِف ارتداء الحجاب دساتير بعض من الدُّوُل العلمانيَّة، إذ تفرض دساتير بعض من الدُّوُل العلمانيَّة واجبًا بأن تكون الحياة العامة خالية من أي رموزٍ دينيَة، وبالتالي يُفْرَض على الأفراد عدم ارتداء أي رمزٍ من الرموز الدِّينيَّة، بينما قد تسمح بعض الدساتير بارتداء الرموز الدِّينيَّة في الحياة والمؤسَّسات العامة إلا في بعضٍ منها مثل المدارس، وقد تسمح دساتير بعض من الدول بارتداء الحجاب في الحياة والمؤسَّسات العامة جميعها من دون استثناء.

إن ما تقدَّم يجعلنا نطرح سؤالًا: هل يتفق حظر ارتداء الحجاب بوصفه رمزًا دينيًّا مع أحكام الاتفاقيَّة الأوروبيَّة لحقوق الإنسان؟

ويتفرَّع عن هذا السؤال سؤالان وهما: ما هي ضوابط تقييد الحق بارتداء الحجاب؟ وهل يمكن للدُّوُل أن تفرض عقوبات على من يرتدي الحجاب؟

سنسعى للإجابة عن هذا السؤال باستعراض تاريخ قضايا المحكمة الأوروبيَّة لحقوق الإنسان حول هذا الموضوع، ثُمَّ بيان ضوابط تقييد الحق بارتداء الحجاب.

لكن قبل ذلك يقتضي التنويه بأن الرموز الدِّينيَّة تُسْتخدَم  كأي رمزٍ آخر للإشارة إلى معنى أو عِدَّة معانٍ في آنٍ واحد، في مكانٍ واحدة أو عِدَّة أماكن، وبالتالي تشير الرموز الدِّينيَّة لمعانٍ دينيَّة. ولكن هذا لا يعني أن الرمز الدينيّ يكون له دلالات دينيَّة في جميع السياقات، إذ قد لا يكون للرمز الدينيّ معانٍ دينيَّة في حال ما إذا اسْتُخدِم في سياقٍ معين، مثل الصليب والهلال، إذ لو كان لون الصليب أو الهلال أحمر لِمَا كان رمزًا دينيًّا بل لأشار لمُنظَّمةٍ دوليَّة. وبالتالي تميل الرموز الدِّينيَّة بحكم تعريفها لأن تكون خاصة بجماعةٍ ما من دون غيرها، وتمييز هذه المجموعة من دون غيرها، وترسل معانيَ دينيًّة في نطاقٍ مُحدَّد. وأيًّا كان يُعَدّ حق صناعة واستخدام وارتداء الرموز الدِّينيَّة محميًّا بموجب دساتير معظم الدُّوُل في داخل مجلس أوروبا[i] بهذا المعنى لكن في طبيعة الحال لا يُعَدّ هذا الحق مطلقًا إذ لو عدنا لأحكام المادة التاسعة من الاتفاقيَّة الأوروبيَّة لوجدنا أن هذا الحق (والذي يُعَدّ جزءًا من حُرِّيَّة المعتقد) هو من بين الحقوق القابلة للتقييد وكما يلي:

إعلان

1 .لكل شــخصٍ الحق في حُرِّيَّة الفِكْر والضمير والدِّين. ويســتلزم هذا الحــق حُرِّيَّة تغيير الدِّيــن أو المُعْتَقَد، وكذلك حُرِّيَّــة إظهار الدِّين والمُمَارَسَات وإحياء الشعائر. َ والمُعْتَقَد فرديًّا أو جماعيًّا، وفي العلن أو في السِّــرّ، بالتعبُّد والتعليم.

2 .لا يجوز وضع قيود على حُرِّيَّة إظهار الدِّين أو المعتقدات غير تلك المنصوص عليها في القانون التي تُشــكِّل تدابير ضرورية في المجتمع العامة أو حماية حقوق الغير وحُرِّيَّاته [ii].

أولًا: قضايا المحكمة الأوروبيَّة المتعلِّقة بارتداء الحجاب:

-قضية Dahlab V. Switzerland :

تتمثَّل وقائع القضية بأن المُدَّعية السيدة دهلاب التي تحوَّلت للإسلام –التي تعمل مدرسةً،  اشتكت من قرار منعها من ارتداء الحجاب حينما تُدرِّس للطلاب، وبعدما طعن بالقرار بيَّنت المحكمة العليا أن القرار مشروع في العام 1997 [iii].

فيما يلي اشتكت المدَّعية أمام المحكمة الأوروبيَّة، وأكَّدت الأخيرة على صحة القرار مُبَينَة أن التدبير كان معقولًا، وخاصة وأن لارتداء الحجاب أثرًا على الطلاب بين عمر 4-8 سنوات، الذي يمكن أن يؤثِّر فيه على معتقداتهم بسهولة، كما يتعارض مع حق الوالدين بتربية أبنائهم بما يتلاءم مع معتقداتهم، وخاصة وأن الحجاب رمز ذو آثارٍ تبشيريَّة [iv].

 – قضيةkurtulmuş V. Turkey:

تتعلَّق القضية بمنع أستاذة جامعية من ارتداء الحجاب، وذلك في أثناء تدريسها للطلاب داخل الحرم في تركيا. واشتكت المدَّعية أن هذا الحظر يعارض حقها بالتعبير عن معتقدها من جهةٍ، وأن التدبير الانضباطيّ الذي فُرِضَ عليها يُشكِّل انتهاكًا لحقها في الخصوصية في المادة 8 وحريتها بالتعبير عن المعتقد بموجب المادة “9” والمادة “10” من جهة أخرى [v].

فيما بعد أكَّدت المحكمة الأوروبيَّة  أن المسألة تدخل ضمن نطاق《هامش التقدير-Margin of appreciation》للدول، إذ يحق لها حظر الحجاب في حال ما إذا تعارض مع حقوق وحُرِّيَّات الآخرين. إن السماح الذي أبدته الحكومة للأستاذة لم يكن ليجعل القاعدة غير ملزمة، وأن قانون الملابس الذي فُرِضَ، قد طُبِّقَ بشكلٍ غير تمييزيٍّ على جميع الموظفين العامين، وكان يستهدف حماية مبادئ العلمانيَّة 《والحياديَّة-neutrality》 في ميدان التعليم الحكوميّ [vi].

وبالتالي فإن نطاق التدابير وتنظيمها تُتْرَك لهامش تقدير الدولة لا محالة. وهذا يعني أن هامش التقدير الممنوح للدول الأطراف في هذه المسألة، يبرِّر التدابير التي فُرِضَت ويجعلها متناسبة [vii].

-قضية Leyla Şahin V. Turkey:

تتمثَّل وقائع القضية بأن المُدَّعية 《ليلى شاهين-  Leyla Shahin، التي هي مواطنة تركية مسلمة من عائلةٍ تقليديَّة، تعتقد بأن عليها واجبًا دينيًّا في ارتداء الحجاب أيضًا، رأت أن القانون الذي فُرِضَ حظر ارتداء الحجاب في كليَّات الطِّبّ بالصفوف والامتحانات ينتهك حقوقها وحُرِّيَّاتها ، يذكر أنها غادرت إلى النمسا فيما بعد لتتمكَّن من ارتداء الحجاب حينما تدرس، فيما بعد اشتكت المدَّعية أمام المحكمة الأوروبيَّة، مدَّعيةً بأن القانون انتهك المادة “9” [viii].

في الواقع بيَّنت المحكمة بأن القانون لم ينتهك أحكام المادة “9” من الاتفاقيَّة، ورأت أن لهذا القانون أساسًا في النظام القانونيّ التركيّ، الذي سمح بتقييد حُرِّيَّتها في التَّعبير عن دينها، وكما ذكرت المحكمة الأوروبيَّة رأي المحكمة الدستوريَّة التركية التي رأت أن ارتداء الحجاب يُعَارِض الدستور. وبالتالي كان واضحًا على المدَّعية من اليوم الذي دخلت فيه الجامعة، بوجود قيود تُفْرَض على ارتداء الحجاب، وهذا يجعلها مسؤولة منذ اليوم الذي صدر فيه القانون، وإن هذا القرار يدخل ضمن هامش التقدير  للسُلُطات التركية، إذ يُعَدّ ضروريًّا في المجتمع الديموقراطيّ بموجب أحكام الفقرة الثانية من المادة “9” [ix].

قضيةköse And 93 Others v. Turkey:

تتعلَّق القضية بحظر ارتداء الطلاب للحجاب في داخل المدارس في تركيا.

وبالاستناد إلى المادة “9” من الاتفاقيَّة، اشتكى المدَّعون مبينين أن حظر ارتداء الحجاب في المدرسة يشكِّل تقييدًا غير مبررٍ للحُرِّيَّة بالتَّعبير عن الدِّين. وبيَّنت أسرهم بأن حظر ارتداء الحجاب يُعَارِض حقهم في التَّعليم بموجب المادة “2” من البروتوكول الأول للاتفاقيَّة من جهةٍ، وكذلك حق الوالدين بتعليم أبنائهم بما يتلاءم مع معتقداتهم، من جهةٍ أخرى، المنصوص عليها في المادة نفسها [x].

فيما بعد حكمت المحكمة بأن قانون الزِّيّ المدرسيّ الذي فُرِضَ على الطلاب كان تدبيرًا عامًا ينطبق على جميع الطلاب بغض النظر عن معتقداتهم. ولم تجد المحكمة أي دليلٍ يبين حصول انتهاك لحُرِّيَّة المُعْتَقَد بموجب المادة “9” من الاتفاقيَّة، هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى، رأت المحكمة أن التقييد كان مبنيًا على مبادئٍ واضحةٍ، وكان متناسبًا يستهدف حماية النظام العام وحقوق وحُرِّيَّات الآخرين، ويستهدف حماية مبدأ حياديَّة التَّعليم الثانويّ، ولم يُشكِّل انتهاكًا للحقوق المَنْصوص عليها في المادة “2” من البروتوكول الأول [xi].

قضية Dogru V. France و Kervanci V. France:

تتمثَّل وقائع هذه القضية بتسجيل المدَّعيتين في مدرسةٍ ثانويةٍ في العام 1998-1999 في فرنسا، وفيما بعد وحينما باشرت المدَّعيتان دراستهما، حظرتا من دخول العديد من المحاضرات بسبب ارتداء الحجاب، ومع ذلك رفضتا خلعه. شكَّلت لجنة انضباطية لمعاقبتهما بسبب مخالفتهما للتعليمات والقوانين المدرسيَّة، قرَّرت اللجنة  فصلهما من المدرسة لانتهاكهما واجبهما بالاجتهاد والالتزام بالزِّيّ المدرسيّ والمواظبة داخل المدرسة، ويُلْزِم هذا الواجب الطلاب بالمشاركة بشكلٍ فعَّال في المحاضرات ومن بينها الحصص الرياضيَّة، التي لم تحضرها المدَّعيتان [xii].

تلا ذلك، رَفْع المدَّعيتين دعوى أمام المحكمة الأوروبيَّة، مدعيتين بأن القوانين في المدرسة انتهكت حقوقهما بموجب المادة “9”، حكمت المحكمة الأوروبيَّة بعدم وجود أي انتهاكٍ للمادة “9”، مسببة ذلك أن قرار المحاكم الوطنية بأن الحجاب يتعارض مع الحصص الرياضيَّة لأسبابٍ صحيَّة وأمنيَّة ولم يكن غير معقولٍ، بل كان معقولًا ومُتنَاسِبًا [xiii].

قضية Aktas Et. Al V. France:

تتعلَّق القضية بطرد ست طالباتٍ وطلابٍ من المدارس في العامين 2004-2005، وذلك بسبب ارتدائهم رموز دينيَّة في فرنسا. كانت الطالبات يرتدين الحجاب والوشاح، أما الطلاب فكانوا يرتدون 《التوربان -Keski》 الذي يرتديه الشيخ. رفضت المدارس في البداية إدخالهم للصفوف، وبعد مدةٍ فُصِلوا من المدارس. اشتكوا الطلاب بأن حظرهم من ارتداء الرموز الدِّينيَّة يشكِّل انتهاكًا للمادة “9” من الاتفاقيَّة الأوروبيَّة [xiv].

فيما يلي ذلك، حكمت المحكمة بعدم حصول انتهاك للمادة “9” من الاتفاقيَّة مبينة أن تقييد حق الطلاب بالتَّعبير عن المُعْتَقَد، كان مبنيًا على قانونٍ، وكان هذا القانون بمثابة إجراءٍ مشروعٍ يستهدف حماية الحقوق والحُرِّيَّات والنظام العام، وأن عقوبة الفصل كانت متناسبة [xv].

قضية  Ebrahimian V. France:

تتعلَّق القضية برفض المستشفى تجديد عقد عاملة اجتماعيَّة نتيجة لرفضها خلع الحجاب. اشتكت المدَّعية مُبَينةً أن رفض تجديد عقدها يشكِّل انتهاكًا لحُرِّيَّتها في التَّعبير عن دينها [xvi].

فيما بعد بيَّنت المحكمة أنه لم يحصل انتهاك للحق بالخصوصية وأن القرار الذي اتخذته السُّلُطات كان ضمن نطاق هامش التقدير الممنوح للدول، إذ لم تجد السُّلُطات أي بدائل من شأنها أن توفِّق المعتقدات مع الواجب بالامتناع عن التَّعبير عنها في الحياة العامة، إذ تلتزم الدولة بواجب الحيادية وعدم الانحياز تجاه الأديان. وبيَّنت المحكمة أن السُّلُطات الوطنيَّة قد رأت أن ارتداء الحجاب لا يتفق مع الواجب بالحيادية، وهذا القرار كان صحيحًا [xvii].

وكذلك ذكرت المحكمة أن المادة “1” من الدستور الفرنسيّ تُلزِم المحاكم الوطنيَّة باتخاذ أي قرارٍ من شأنه الحفاظ على الهُويَّة العلمانيَّة للدولة، وبالتالي فكان ضروريًّا لحماية الصفة العلمانيَّة للدولة ولحماية مرضى المستشفى من خطر الابتعاد عن الحياد وعدم الانحياز على أساس الدين أو المُعتَقَد وضع قانون كهذا. وبالتالي فإن ضرورة حماية حقوق وحُرِّيَّات الآخرين كانت أساسًا صحيحًا لتقييد حقوق المدَّعية [xviii].

– قضية Lachiri v. Belgium:

تتعلَّق القضية بطرد المدَّعية من غرفة المحكمة وذلك لرفضها خلع الحجاب، اشتكت المدَّعية بأن هذا القرار يمس حُرِّيَّتها في التَّعبير عن دينها بموجب المادة “9” من الاتفاقيَّة [xix].

رأت المحكمة حصول انتهاك للمادة “9” من الاتفاقيَّة، مبينةً أن استبعاد مواطنٍ عاديٍّ لا يُمثِّل الحكومة من المحكمة، يُمثِّل تقييدًا لحُرِّيَّة المُعْتَقَد. الذي استهدف هدف مشروع يتمثَّل بحماية النظام العام، يتمثَّل بحماية الهيئة القضائيَّة من سلوك ازدرائيٍّ أو يُقَاطِع سير الجلسات، لكن مع ذلك فإن سلوك المدَّعية لم يكن يهدف لازدراء المحكمة ولم يُعَرقِل سير الجلسة، وبالتالي فإن التقييد لم يكن ضروريًّا، وهذا من شأنه أن يُسبِّب حصول انتهاكٍ لحُرِّيَّة المدَّعية بالتَّعبير عن دينها [xx].

من المُلاحَظ هنا تناقض آراء المحكمة من قضيةٍ لقضيةٍ أخرى، إذ نجد أن المحكمة قد استنكرت طرد مواطنة ترتدي الحجاب في هذه القضية، وحكمت بمُخَالَفة هذا القرار لأحكام الاتفاقيَّة، بينما رأت أن فَصْل الطالبات اللاتي يرتدين الحجاب في باقي القضايا أمرٌ لا يُخَالِف أحكام الاتفاقيَّة.

قضية S.A.S. v. France:

تتعلَّق القضية بمواطنة فرنسيَّة مسلمة، لم يُسْمَح لها بتغطية وجهها بشكلٍ كامل وذلك عقب صدور قانون في تاريخ 11 نيسان من العام 2011، الذي حظر تغطية الوجه بالكامل في الحياة العامة. بيَّنت المدَّعية أن ارتدائها البرقع والنقاب كان بموجب معتقداتها الدِّينيَّة وثقافتها ومعتقداتها الشَّخصيَّة. وبيَّنت أنها لم تتعرَّض لضغوطٍ شخصيَّة لا من قِبَل زوجها ولا من قِبَل أحد أفراد أسرتها. وبيَّنت أنها ارتدت النقاب في الحياة العامة والخاصة بشكلٍ متقطعٍ، بهذا فرأت أن من حقها أن ترتدي النقاب متى شاءت من دون أن يفرض عليها هذا الشيء[xxi].

بيَّنت المحكمة أن القانون الذي صدر لم ينتهك لا المادة “8” ولا المادة “9” من الاتفاقيَّة. وأكَدت أن هذا التدبير كان يقع ضمن نطاق هامش التقدير  للدولة، وبالتالي فإن حظر تغطية الوجه لم يشكِّل انتهاكًا لأحكام الاتفاقيَّة الأوروبيَّة [xxii].

  • قضية Dakir V. Belgium

    :

تتعلَّق القضية بصدور لائحة في حزيران من العام 2008 في ثلاث مقاطعات بلجيكيَّة تحظر ارتداء الملابس التي تخفي الوجه في الأماكن العامة. قُدِّمَ طعن باللائحة أمام مجلس الدولة، ولكن أيَّد الأخير مشروعيَّة اللائحة، رفع المدَّعي دعوى أمام المحكمة الأوروبيَّة بحقوق الإنسان، مؤكِّدًا فيها بأن اللائحة تُخَالِف أحكام المادة “8” و”9″ من أحكام الاتفاقيَّة الأوروبيَّة [xxiii].

حكمت المحكمة الأوروبيَّة بأن اللوائح لم تُخَالِف المادة “8” والمادة “9” والمادة “14” من الاتفاقيَّة. ورأت المحكمة بأن الحظر كان متناسبًا ويستهدف هدف مشروع يتمثَّل في تحقيق التعايش بين الأفراد بوصفه عنصرًا من عناصر حقوق وحُرِّيَّات الآخرين [xxiv].

ثانيًا: ضوابط تقييد الحق بارتداء الحجاب:

مما تقدَّم يتبيَّن لنا مسألة مهمة، وهي أنه بالإمكان حظر ارتداء الحجاب بوصفه رمزًا دينيًّا، وهذه مجموعة من الملاحظات نتبيَّن من خلالها متى يمكن للدولة أن تحظر ارتداء الحجاب، بشكلٍ لا تخالف فيه أحكام الاتفاقيَّة الأوروبيَّة لحقوق الإنسان، وهي:

  1. لا يمكن حظر ارتداء الحجاب من قِبَل المواطن الذي يزور دائرة حكوميَّة، إذ من الصعب القول إن ارتداء مواطنًا ما الحجاب قد يفضي إلى حصول تعارض مع حقوق غيره في داخل المؤسَّسة، لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى الطالب، إذ يمكن أن يَقيَّد حقه في ارتداء الرموز الدِّينيَّة، وهذا بحدّ ذاته يدل على تناقض رؤية المحكمة الأوروبيَّة حول هذه المسألة.
  2. لا يمكن حظر ارتداء الحجاب إلا بموجب قانون، إذ يُعَدّ ارتداء الحجاب جزءًا من حُرِّيَّة المُعْتَقَد، التي لا يمكن أن تُقيَّد إلا بموجب قانون.
  3. يجب أن يتِمّ ذلك الحظر بمراعاة مجموعة من الشروط، وهي:
  • أ‌- أن يكون القانون الذي يحظر فيه ارتداء الحجاب عامًا وغير تميزيٍّ، إذ لو كان تمييزيًّا لخالف أحكام المادة “14” من الاتفاقيَّة التي نصَّت على:

“يجــب تأمين التمتُّع بالحقوق والحُرِّيَّات المعتــرف بها في هذه الاتفاقيَّة من دون أي تمييــزٍ، وتحديــدًا ذاك القائم على الجنــس أو العنصر أو اللون أو اللُّغة أو الدِّين أو الآراء السياســيَّة أو الأصل الوطنيّ أو الاجتماعي أو الانتماء إلى أقليةٍ وطنيَّة، أو الثَّروة أو الولادة أو أي وضعٍ آخر” [xxv].

  • ب‌- أن يراعي معيار التناسب، وذلك ما نجده في قضية Köse And 93 Others v. Turkey إذ رأت المحكمة أن السُّلُطات راعت معيار التناسب في القانون الذي حظر ارتداء الحجاب من قِبَل الطلاب [xxvi].
  • ت‌- أن يكون القانون الذي يحظر ارتداء الحجاب مستندًا إلى أسبابٍ مشروعةٍ، وذلك ما بيَّنته المحكمة في قضية Dahlab v. Switzerland، إذ بيَّنت المحكمة أن تخوُّف الدولة من الآثار التبشيريَّة للحجاب يُعَدّ سببًا مشروعًا لتقييد الحُرِّيَّة في ارتداء الحجاب، وهذا يعني أن الدولة لا يمكنها أن تستند إلى أسبابٍ غير مشروعةٍ في تقييدها للحق بارتداء الحجاب [xxvii].
  • ث‌- كما هو الحال بالنسبة إلى السبب، فيُفْتَرض أن تكون الغاية من القانون متفقة مع أحكام الاتفاقيَّة الأوروبيَّة، وهذا ما بيَّنته المحكمة في قضيةkurtulmuş turkey، إذ رأت أن حماية مبدأي العلمانيَّة والحياديَّة يُعَدّان غايتين تتفقان مع مبادئ وأحكام الاتفاقيَّة الأوروبيَّة لحقوق الإنسان [xxviii].
  • ج‌- أن تكون العقوبات التي تفرضها القوانين المتعلِّقة بحظر ارتداء الرموز الدِّينيَّة كالحجاب مراعية مبدأ التناسب، الذي يتطلَّب ألا تكون العقوبات جسيمة، وذلك ما أكَّدت عليه المحكمة في قضية Aktas Et. Al v. France ([xxix]).
  1. وبما أن التقييد يكون بموجب قانون فيجب أن تراعي سُلُطات الدولة شروط Quality of Law أو جودة القانون التي كشفت عنها المحكمة في سوابقها القضائيَّة، وهذه الشروط هي:
  • أ‌- إمكانية الوصول: أي مدى إمكانية الفرد الوصول للقاعدة القانونيَّة التي تقيِّد الحق، وذلك ما وضحته المحكمة في قضية V. France [xxx] ونجد لهذا المبدأ تطبيقًا في قضية Leyla Şahin v. Turkey التي بيَّنت فيها المحكمة بأنه كان لزامًا على السيدة “ليلى شاهين” بأن تلتزم بالقوانين التي تحظر ارتداء الحجاب، التي كانت تعلم بوجودها [xxxi].
  • ب‌- يعني إمكانية التنبُّؤ :Foreseeabilityمعرفة الفرد معنى النص حتى لو كان بمساعدة التفسير القضائيّ أو بعد أخذ الاستشارة القانونيَّة الملائمة، من أجل أن يعرف إذ ما كان الفعل أو الامتناع الذي يسعى للقيام به أو الامتناع عنه يجعله مسؤولًا [xxxii].
  1. يجب ألا يمس ارتداء الحجاب حقوق وحُرِّيَّات الآخرين، فارتداء الحجاب من قِبَل مُدَرِّسة قد يمس حُرِّيَّة الأطفال بالمُعْتَقَد وحق والديهم بتعليمهم بما يتلائم مع معتقداتهم، الأمر الذي يفضي إلى حصول تعارضٍ بين الحقوق والحُرِّيَّات، مثل ذلك قضية Dahlab v. Switzerland التي رأت المحكمة فيها أن ارتداء الحجاب من قِبَل المُدَرِّسة يتعارض مع حق الأطفال في المُعْتَقَد وحق والديهم بتعليمهم بما يتلاءم مع معتقداتهم [xxxiii].
  2. بإمكان الدولة أن تقيِّد ارتداء الحجاب بالاستناد إلى مبدأي العلمانيَّة والحياديَّة، لتوضيح ذلك يمكن القول إن مفهوم العلمانيَّة اللائكيَّة كما هو مطبَّق في فرنسا وتركيا يلزم بإنشاء حياة عامة خالية من تأثير الدين بمقدار واسع، ولهذا السبب يحظر ارتداء الرموز الدِّينيَّة [xxxiv].
  3. تقع المسألة ضمن نطاق هامش تقدير الدول، وهذا يعني أن الدُّوُل ليست مُلْزَمة بالحظر، بل يمكنها السماح بارتداء الحجاب.

————————————————–

الهوامش:

[i] Janet L. Dolgin, Religious Symbols And The Establishment Of A National ‘Religion’, 39 Mercer, L. Rev. 495, 1988, Page 498.

 [ii]الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، 1950، الرابط:

https://vu.fr/tgMn

[iii] Dahlab V. Switzerland (Dec.), Echr, Application No. 42393/98,2001.

[iv] Ibid.

[v] Kurtulmuş V. Turkey (dec.), ECHR, Application no. 65500/01, 2006.

[vi] Ibid.

[vii] Ibid.

[viii] Leyla Şahin V. Turkey, ECHR, Application No. 44774/98, 2005.

[ix] Ibid.

[x]  Köse And 93 Others V. Turkey (Dec.), ECHR, No. 26625/02, 2006.

[xi] Ibid.

[xii]  Dogru V. France, No. 27058/05, ECHR (Fifth Section), 4 March 2009,

 And Kervanci v. France, No. 31645/04, ECHR (Fifth Section), 4 March 2009.

[xiii] Ibid.

[xiv]  Aktas V. France, ECHR, Application No. 43563/08, 2009;

Bayrak v. France, dec., ECHR, Application No. 14308/08, 2009;

Gamaleddyn v. France, dec.,ECHR, Application No. 18527/08, 2009;

Ghazal v. France, dec., ECHR, Application No. 29134/08,  2009;

Jasvir Singh v. France, dec., ECHR, Application No. 25463/08, 2009;

Ranjit Singh v. France, dec., ECRH, Application No. 27561/08, 2009.

[xv] Ibid.

[xvi]  Ebrahimian V. France, ECHR, Application No. 64846/11, 2015.

[xvii] Ibid.

[xviii] Ibid.

[xix]  Lachiri V. Belgium, , ECHR , Application No. 3413/09, 2018.

[xx] Ibid.

[xxi]  S.A.S. v. France, ECHR, Application No. 43835/11, 2014.

[xxii] Ibid.

[xxiii]  Dakir V. Belgium, ECHR, Application No. 4619/12, 2017.

[xxiv] Ibid.

([xxv]) الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، المصدر السابق.

[xxvi]  Köse And 93 Others V. Turkey, Op.Cit.

[xxvii]  Dahlab V. Switzerland, Op.Cit.

[xxviii] Kurtulmuş V. Turkey, Op.Cit.

[xxix]  Aktas Et. Al v. France, Op.Cit.

[xxx]  G. V. France, The European Court Of Human Rights, Application No. 15312/89, 1995.

[xxxi]  Leyla Şahin v. Turkey, Op.Cit.

[xxxii]  Guide For Article 7, The European Court of Human Rights, 2021.

[xxxiii] Dahlab V. Switzerland, Op.Cit.

[xxxiv] Lorenzo Zucca and Camil Ungureanu, Law, State, and Religion in New Europe, Cambridge University Press, Page 209.

تدقيق لغوي: أمل فاخر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا