احتلال الأدمغة: البروباجندا الإسرائيلية ودورها في تزييف الوعي العالمي

مع بداية الهجوم الذي نفذَّته حركاتُ المقاومة الفلسطينية على المستوطنات المحيطة بغزة في السابع من أكتوبر الماضي، شاهدنا ردَّ الفعل الإسرائيلي العسكري المتوّحش على القطاع، تزامنت هذه المجازر مع حربٍ أخرى لا تقلّ ضراوةً عنها، تمثلت بالدعاية الإسرائيلية المضادة “البروباجندا”، التي سارعت إلى غزو وسائل الإعلام العالمية وحرصت على جذب التعاطف الدولي، منتهجةً أسلوب إطلاق كمٍّ هائلٍ من المبالغات والأكاذيب دون أيّة أدلةٍ موضوعية، نذكر منها على سبيل المثال: اتهامَ حماس بقطع رؤوس الأطفال، واغتصاب النساء، وإنتاج أسلحة كيميائية. وقد اعتمدت هذه الدعاية على تجريد سكان القطاع من إنسانيتهم لتبرير الجرائم التي ترتكب في حقهم معتبرين إياهم “حيوانات بشرية”.
فما “البروباجندا”؟ وما دورُها في التأثير في الرأي العام الدوليّ؟ وما خلفيّتُها التاريخية؟ وما دور الولايات المتحدَّة الأمريكية في ذلك؟

سنحاول هنا أن نجيب عن هذه الأسئلة استنادًا إلى كتاب “السيطرة على الإعلام: الإنجازات الهائلة للبروباجندا” للمفكِّر والفيلسوف الأمريكي “نعوم تشومسكي”.

البروباجندا:

تعني البروباجندا نشر المعلومات بطريقة موجَّهة أحادية المنظور وتوجيه مجموعةٍ مركزة من الرسائل بهدف التأثير في آراء أو سلوك الجماهير. وهي على النقيض من الموضوعية في تقديم المعلومات، والبروباجاندا في معنى مبسَّط، هي عرضُ المعلومات بهدف التأثير في المتلقي “المستهدَف”.

وتعتمد على إعطاء معلومات ناقصة، وبذلك تُقدَّم معلومات كاذبة عن طريق الامتناع عن تقديم المعلومات كاملة، وهي تقوم بالتأثير في الأشخاص عاطفيًا عوضًا عن الطّرح العقلاني للموضوعات.

نبذة عن الكتاب:

يتناول الكتاب الصادر عام 2002 الدورَ الكبير الذي تلعبه وسائل الإعلام الأمريكية في تضليل الجماهير، أو ما يحلو للكاتب أن يطلق عليهم “القطيع الضال”، ويستدلُ بأمثلة عديدة على تشكيل الصورة النمطية للإرهاب من جانب القوة المتغطرسة التي تمثِّلها أمريكا وإسرائيل، وكيف ساهم الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل في انتهاك القانون الدولي.

ويوضِّح الكتاب كيف تُخفَى المعلومات ويُزيَّف الوعي الجمعي للمجتمع وإرغامه على تبني ما يخالف مبادئه، بل ويجعله مع الوقت بدون إرادةٍ منه متحمِّسًا له.

الإعلام الأمني:

يُذكر أنَّ أوَّل عملية دعائية من هذا النوع الذي نراه الآن، حدثت في العصر الحديث في أثناء إدارة الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” الذي اُنتخب عام 1913م، حدث ذلك بينما كانت الحرب العالمية الأولى في أوجِ اشتعالها في أوروبا وكان الشعب الأمريكي حينها مسالمًا ولا يريد التورُّطَ في هذه الحرب، بينما رأت إدارة ويلسون أنَّ عليها الالتزامَ بدخول الحرب، لذلك قاموا بإنشاء لجنة إعلام أمنية حكومية أُطلِق عليها “لجنة كريل” وقد نجحت في ستّةِ أشهر فقط بتحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين متعطِّشين للحرب وللرغبة في تدمير كلِّ ما هو ألماني، وقد أخذ هذا النهج بُعْدًا آخر فيما بعد لإثارة الهستيريا ضدّ الشيوعية أو ما أطلقوا عليه “الذعر الأحمر”، وتطوَّر الأمر مع بداية الخمسينيات من القرن الماضي في ظهور المصطلح الشهير المعروف “بالمكارثية” وذلك نسبة إلى “جوزيف مكارثي” النائب الجمهوري في الكونجرس الأمريكي، وتُعرَّف المكارثية بكونها أسلوب إرهابٍ فكريّ يطلق سيلًا من الاتهامات بدون أيّةِ أدلة.

وأخذت هذه الأساليب الدعائية في التطوُّر مع الزمن فلا يخلو تاريخ الوقائع السياسية الأمريكية خلال القرن المنصرم من استخدام هذه الأساليب سواء كانت معالجةً لقضايا داخلية كحراك نقابي أو سجال انتخابي أو تسويغًا لتحرُّكٍ خارجي يتعارض مع قيم الديمقراطية التي يعتنقها الأمريكيون، نرى هذه الدعاية في أثناء حرب فيتنام، على سبيل المثال، وظهور ما يعرف بـ”أعراض فيتنام”، وهو مصطلح أطلقه “نورمان بودهورتز” المفكِّرُ الموالي للرئيس الأمريكي “ريجان”، وعنى به المخاوف المرضية لدى المجتمع من استخدام القوَّة المفرطة في الحرب على فيتنام، وللتغلُّب عليها تعيّن على الإدارة الأمريكية تلقين الشعبِ كلماتٍ رنانةٍ على غرار “احترام القيم العسكرية”، وإطلاق المبالغات والأكاذيب “نحن نفعل ذلك دفعًا عن أنفسنا ضد المعتدين والوحوش”، وهو شبيه إلى حدٍّ بعيد بما تقوم به آلة الدعاية الإسرائيلية الآن، وكما قامت على مدارِ العقدين الماضيين من خلال “زمالات هاسبارا” وهي منظمة صهيونية تأسست عام 2001 في الولايات المتحدة بهدف تدريب الطلاب في الجامعات الأميركية على الدعاية وتبييض وجه إسرائيل أمام العالم كاستنساخٍ للجنةِ كريل والإعلام الأمني، فما تقوم به إسرائيل ما هو إلا اجترار للتاريخ الأمريكي، فقد قال الأمريكان في أثناء حرب فيتنام: “نحن ندافع عن جنوب فيتنام من الفيتناميين الجنوبيين”، ويقول الإسرائيليون الآن: “نحن لن نترك غزة حتى نقضي على كل ما له صلة بحماس. إنهم وحوش بشرية”.

لقد تناول الكتاب العديد من القضايا التي تثبت حقيقة توجيه الإعلام الأمريكي لتضخيم بعض الأحداث وشيطنة الأشخاص كما حدث في حرب الخليج الثانية والموقف الحازم من احتلال صدام حسين للكويت، بينما تغافل الإعلام نفسه على سبيل المثال عن احتلال دولة جنوب إفريقيا لدولة نامبيا التي تزامنت حرب استقلالها مع حرب الخليج الثانية، وهذا يحيلنا للفرق الشاسع في تناول الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب على غزة الآن وازدواج المعايير في النظرة إلى المحتل الغازي في كلا الحربين.

وفقًا للرؤية التقليدية الأمريكية: “طالما نحن الذين نقوم بالعمل، فهو لا يُعدُّ إرهابًا” – نعوم تشومسكي

مغالطة الرنجة الحمراء:

المغالطة المنطقية هي استدلال خاطئ وطريقة إقناعٍ غيرُ سليمة تستند إلى تبريرٍ ضعيف في تقرير الحجج، وهي محاولةٌ بائسة لإقناع الآخريين.
وتأخذ المغالطات أشكالًا عدة منها الصُّوري، ومنها الافتراضي، ومنها التعميمات الخاطئة، ومنها هذا النوع الذي نحن بصدده الآن “مغالطة الرنجة الحمراء” وهو بدوره يأخذ أشكالًا عدّة.

يشير المعنى المجازي لمصطلح الرنجة الحمراء إلى تقنية كانوا يضلِّلون بها كلابَ الصيد قديمًا في أثناء مطاردتهم للأرانب البرية. ويقصد بها باختصار  في ساحات النقاش: عرضُ بيانات وموضوعات جانبية لتشتيت الانتباه عن الموضوع الأصلي.

وقياسًا على ذلك وإذا تتبَّعنا وجهة النظر التي تروِّج لها إسرائيل ويتبنَّاها الإعلام الغربي وخاصةً الأمريكي، سنجد أنها تعتمد على بعض الجمل الثابتة التي لا تتغيَّر مثل: “لإسرائيلَ الحقّ في الدفاع عن نفسها”، “الهجوم البربري لحماس”، “حماس تقتل المدنيين والأبرياء”، “حماس منظمة إرهابية” أو “حماس تتخذ من المدنيين دروعًا بشرية”. ويكاد لا يخلو نقاش واحدٌ حول الحرب في وسائل الإعلام الغربية من هذه الكلمات، لكن لا تتم أبدًا مناقشة لبَّ القضية. الذي يتمثل في السؤال التالي: ما الذي دفع حماس إلى هذا الهجوم الذي تعرف تبعاته جيدًا؟
هذا ما دفع البعض للسخرية من القنوات الفضائية الغربية التي تكاد لا تبدأ نقاشاتها بدون تذكير الضيف:
?Did you condemn Hamas – هل أدنت حماس؟

وبالعودة إلى الكتاب نجد “نعوم تشومسكي” يشير في الفصول الأخيرة إلى توصيات لجنة “ميتشل” التي تشكّلت في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي استخدمت فيها إسرائيل صواريخ الطائرات الآباتشي في مهاجمة الفلسطينيين العُزّل، ولم تكن هناك حينها أية حجج أو أعذار بالدفاع عن النفس، وهو ما دفع مجلس الأمن حينها إلى تبني قرارٍ بتنفيذ توصياتِ لجنة ميتشل الساعية لوقف العنف وإرسال مراقبين دوليين، لكنّ الولايات المتحدة كالعادة استخدمت حقَّ الفيتو المجحف لإيقاف ذلك القرار، ويتساءل الكاتب عن التغطية الصحفية التي تناولت هذا الأمر! ونحن نتساءل معه الآن عن التغطية الصحفية التي تجاهلت معاناة الشعب الفلسطيني ما يقرب من 75 عامًا، ونتساءل أين الحقُّ في الدفاع عن النفس من حصار أكثر من 2 مليون إنسانٍ لمدة 16 عامًا؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سيد محمد

تدقيق لغوي: ريم حاتم محمد

اترك تعليقا