داغستان بلدي: رحلة أبناء الجبال بين القلم والنار
صوب القمم لطالما شمخت الأنظار، وفي الأعالي يولدُ السِّحر وكأنه رفيق الغيم والضباب. وفي أعلى جبال القوقاز متوغِّلةً بين الصُّخورِ تتربَّعُ داغستان.
داغستان هي إحدى جمهوريَّات الحُكْم الذَّاتيّ ضمن الاتِّحاد الرُّوسيّ، تقع في منطقة القوقاز على ساحل بحر قزوين. وهي صغيرة المساحة وقليلة التعداد ولكنها متشعِّبةُ الأعْرَاق واللُّغات، ذات أغلبيةٍ مسلمة، وقد دخلها الإسلام في عهد الخليفة «عمر بن الخطاب». وهي بلدٌ لا نعرفُ عنه إلَّا أنه بلدُ المُقَاتلين الأشداء في الرياضات القتاليَّة، وموطن الشَّاعِر الكبير “رسول حمزاتوف” الذي خلَّدها في كتابه الأشهر «داغستان بلدي».
«داغستان بلدي» كتابٌ عسيرٌ على التجنيس الأدبيّ، ليس رواية ولا سيرة ذاتيَّة، هو سيرة شِعريَّة مختلفة لا تستندُ إلى تقسيمٍ زمنيٍّ ولا تتَّبعُ أحداثًا عِظامًا. تغمرك لذَّة الاكتشاف من المقدّمة وكأنك على أعتاب طائرة، تستعدُ للتحليق فوق الحدود الموضوعة والمسافات الشاسعة، لتهبطَ في داغستان البعيدة، والأجمل أنَّ مرشدك في هذه الرحلة ابن الجبال البار وشاعرها الوفيّ «رسول حمزاتوف».
وُلِدَ رسول حمزاتوف في قرية تسادا، قرية السبعين موقدًا دافئًا، بيوتها بيضاء فوق أرضها السوداء، ودروبها وعرة كخنجرٍ مغروسٍ في خاصرة الجبال. ودَرَسَ “حمزاتوف” في معهد “غوركي” للآداب، وكان عضوًا في اتِّحاد الكُتَّاب السُّوفيت”. وَرَثَ ملَكة الشِّعر عن والده «حمزة» ومن عباءة قصائده خَرَجَ إلى العَالَم.
كيف وُلِدَ هذا الكتاب؟ ولماذا كُتِبَ؟
على كل إنسانٍ أن يفهم منذ صباه أنه أتى إلى هذا العَالَم ليصبح مُمثِّلًا لشعبه، وعليه أن يكون مستعدًا لتحمُّل أعباء هذه المهمة.
رسول حمزاتوف
بدأت القصة مع رسالةٍ استلمها رسول حمزاتوف من محرِّرٍ روسيٍّ، طلب إليه كتابة أقصوصة أو مقالة عن بلده ومآثرها الطيبة في تسع أو عشر صفحات. فغمر هذا الطلب “حمزاتوف” بالسُّخط والإهانة، فالأوطان لا تُختزَل ولا تُختصَر ولا يمكن حشرها في بضع وريقات، داغستان الصغيرة حيث كلّ جديدٍ تراه بعينك وكلّ قديمٍ تسمع عنهُ وتذكره، هي لابنها ذاته وطفولته ومنبع حكمته وأشجانه.
في فؤاد “حمزاتوف” جرحٌ قديمٌ جدَّدته رسالة المحرِّر الرُّوسيّ، ففي كلّ بلدٍ زاره ومع كلّ تكريمٍ ناله كان النَّاس يسألونه باستغرابٍ ودهشةٍ عن موطنه، ويرسمون إشارات الاستفهام والتعجُّب حول جنسيَّته. وقد كان شَاعِرًا كبيرًا من بلدٍ صغير، فاختار أن يحملهُ إلى العالميَّة ويجعل من اسمه عُنْوانًا لكتابه، فاسم الكتاب كاسم الشَّخص يأتي من نسبه، وكتبه بلغته الأم «اللُّغة الآفارية»، رغم كَوْن اللُّغة الروسيَّة هي اللُّغة الرسميَّة في داغستان.
إنَّ اللُّغة الآفاريَّة أقرب للهجةٍ محليَّة، وقد تبدو لدارسها لغةً فقيرةً، فمفاهيمٌ مثل الحريَّة والخير والحياة كان يعبِّر عنها بمفردةٍ واحدة، وذات الكلمة تُسْتَخدم للدلالة على العمر والبيت. ومع ذلك فإن أبناءها شديدو التعصُّب لها، لدرجة أنَّ النساء كانوا يدعون على أبنائهم في لحظات الغضب بأن “يربوا في كنف لغةٍ غير لغتهم الأم”.
الجبل وحكمة أبنائه في “داغستان بلدي”
تزهر الحكمة في كل حرفٍ يزرعه «رسول» في كتابه، ويشتعل افتخاره وتناغمه مع أبناء الجبل بين فصوله. فالداغستانيون أبناء الجبال الأقوياء وخبراء الحروب المتمرِّسون، قد واجهوا جحافل تيمورلنك وحاربوا روسيا القيصريَّة والسُّوفيتية والحالية. وعانوا الفقر وعاشوا المجاعة وتعانقوا في الطبيعة القاسية في رحلة البقاء. وفي نبرة «رسول حمزاتوف» لطالما تشعرُ أنه يخاطبك من أعلى الجبل، وينظر إلى العَالَم نظرة استعلاء وكأنَّ العَالَم تحت أقدامهِ.
تلعب كلمات «رسول» بالنار ليُحَاكي بها لهيب أبناء قوميَّته، ويعاملُ أجيجها كإرثٍ شعبيٍّ وثقافيٍّ، فالجبليّ حين يتباهي يقول: “لم أطلب من أحدٍ جذوة نار”. وحين يصف أحدهم بالشجاع يقول: “هذا ليس بشرًا إنه نار”، فيشعرك دومًا أن حواراتهم مأخوذة من الأساطير. وكلماتهم فذة صُلْبَة وتعابيرهم مولودة من رحم الطبيعة. يلتهب رأس وجدانك بقبعتهم الصوفيَّة المميزة، التي ارتداها بطل الرياضات القتاليَّة المختلطة -المعتزل في العام الفائت- “محمد نور الدين محمدوف” كرسالة اعتزازٍ بهُوْيَّته الثقافيَّة الداغستانيَّة.
تبرز ملامح الصِّرَاع النَّفسيّ في داخل رسول حمزاتوف بين الشُّيوعيَّة والمعسكر الإسلاميّ، فهو يتحدَّث بنبرةٍ حميدة عن «لينين» ويصف الحرب مع روسيا بالحرب الأهليَّة، وفي الجانب الآخر يسردُ عشرات القصص عن «الإمام شامل» أشهر المقاومين ضِدّ الضَّمّ الرُّوسيّ للقوقاز. ويستحضر مواقف كثيرة عن «الحاج مراد» الداغستانيّ وعَلاقته بالإمام شامل، الذي كانت آخر روايات الكاتب الرُّوسيّ الشَّهير “ليو تولستوي” بعُنْوَان «الحاج مراد» عنه، في إشارةٍ إلى الحاج المراد الداغستانيّ ونضاله مع شعبه ضِدّ الاحتلال الرُّوسيّ. والحقيقة أنَّ ما يحكم “رسول حمزاتوف” هو قوميَّته فحسب، بغضِّ النظر عن اسمه الإسلاميّ وفكره الاشتراكيّ.
ولا يتستَّر «رسول» في كتابه «داغستان بلدي» عن تعصُّبه لقوميَّته ولغته وتراثه، بل يستغلّ كلّ فرصةٍ سانحةٍ ليفتخر بهذا الانتماء المتجذِّر، وعندما يتحدَّث عن أبيه وأمّه ستفهم أنَّ نوعية التربية التي تلقَّاها تُأصّلُه مع داغستان، والشُّعور المغروس في ذاته منذ الطفولة الباكرة أنه وهذا البلد واحد. ويضعُ كل زخمه الشِّعريّ في خدمة افتتانه بداغستان وأهلها وعاداتها. فـ رسول حمزاتوف الشَّاعِر على ضوء النار الجبليَّة يتحدَّثُ عن الحُبِّ والحياة والأمل.
العودة للواقع
الشَّعب الصغير كان ذا مصيرٍ كبيرٍ، وقصة داغستان ما زالت تُكْتَب. ليس لها، ولن يكون لها نهاية. وسأكون سعيدًا إذا وجدت في هذا الكتاب الذهبيّ والخالد صفحة أنا كاتبها، أنا أُغَنِّي أغنيتي، فاقبَليها يا داغستان!
ختام كتاب داغستان بلدي لـ رسول حمزاتوف
وتشعر عند قراءة «داغستان بلدي» أنك في المدينة الفاضلة، إذ يُجمِّلُ «حمزاتوف» بقلمه السَّاحر كل سلبيةٍ في هذا المجتمع البسيط النمطي، ويوغلك بالعاطفة حتى تستساغ المبرر وتتقبَّل هذه العيوب. لكن في الحقيقة أن مجرَّد احتفاظ أبناء الجبل بهُوْيَّتهم وتراثهم وديانتهم يُعَدّ إنجازًا عظيمًا في ظلِّ عدم استقرار المنطقة وضيق العَيْش وكَوْنهم على خط حربٍ دائمٍ. ومن المُبْهج أن تجد بلدًا لا يميِّزه الكثير شديدُ التَّميُّز في نظر أبنائه. ورغم كَوْن «رسول حمزاتوف» نائبًا في مجلس السُّوفيت الأعلى، فإن كتابه “داغستان بلدي” لم يبصر النور إلَّا بعد فترةٍ طويلة، وواجه مشقَّاتٍ كبيرة قبل طباعته، لأنه كان داغستانيًّا خالصًا في مضمونه، وفيه حكايات عن داغستان تمجِّدُ تاريخها القوميّ، وتسلِّط الضوء على وجودها وكأنَّه صرختها للحياة.
لطالما عشقتُ الأشياء التي تحمل روحًا، وهذا الكتاب بشاعريته وحكمته وتعصُّبه فيه الكثير من الرُّوح. ستجدُّ فيه ما يلمسُ عمودك الفقريّ برعشةٍ، ويخطف من خيالك نبض فكرةٍ. هذا الكتاب فيه الكثير من «كان يا مكان»، فهو يؤهِّلك لتكون راويًا، ومتخِّمًا بالحكمة ليوقد في خلايا دماغك جذوةً من نارهم، وهو كتابٌ منسوجٌ بالشِّعر يصلحُ ليكون بطانيةً صوفيةً على كتفك في ليالي الشتاء الباردة.