“ملخص ما سبق”: لأن الأدب يسمح لنا باستخدام كل شيء

الأدب مساحةُ لعبٍ وخيال وربَّما مساحة لا نهاية لها، وفي طفولتي كان أوَّل ما لفت انتباهي إلى هذا، فكرة فتح كتاب بداخله عَالَم خيالي كامل. هناك من قرَّر أن يترك هذا العَالَم ليكتب عن عَالَمٍ آخر تمامًا، ثُمَّ بعد أعوامٍ عندما كبرت أدركت أنَّنا لا نحتاج إلى الابتعاد عن العَالَم الحقيقيّ وخَلْق عَالَمٍ كاملٍ جديد كي نستمتع، يمكننا ببساطة استخدام عوامل متوفِّرة حولنا، مثل أن نُعيد استخدام شخصيَّة أيقونيَّة مثل “شيلوك” من مسرحية “تاجر البندقية” كما فَعَلَ “علي أحمد باكثير” في مسرحية “شيلوك الجديد”، فاستخدام القصص نفسها وإعادة روايتها هو أمر ليس بالجديد.

لكن اكتشافي لتبويب “روايات الهواة” في مواقع الكُتُب الأجنبية وخصوصًا الروسيَّة منها غيَّر فكرتي بالكامل عن الشَّكل المتحفِّظ لـ”استخدام العناصر”. ربما لن يستغرب القارئ عندما يعلم أنَّ هناك روايات تتناول شخصيَّة مثل يهوذا، أو أن هناك من يُعيد رواية قصة المسيح التي نعرفها جميعًا، لكن ما قد يثير الاستغراب حقًا هي رواية كاتب هاوٍ من موقعٍ روسيّ تسمَّي “ترامب في مواجهة الكورونا”، وهي تتحدَّث عن وفاة دونالد ترامب بالكورونا الذي تنقله كائنات غريبة إلى مملكة الكورونا، يجمع ترامب جيشًا ويشِنُّ حربًا كي يقتل الملك ويستحوذ على السُّلْطة! قصة أخرى تتحدَّث عن انتقال روح فلاديمير بوتين إلى عَالَمٍ آخر في جسد مؤسِّس ديانة ما يخوض حربًا ضِدّ ممالك هذا العَالَم! وهناك قصة تبدو عادية بعض الشيء تتحدَّث عن الحرب العالميَّة وصراع روسيا واليابان، ولكن هذه المرَّة تتدخَّل عناصر الثقافة الروسيَّة، وتبني الأقزام الدبابات بينما تؤخِّر السَّاحرة العجوز بابا ياجا الجيش هي والثعبان المسحور.

هذه القصص بعيدًا عن مستوى كتابتها الأدبيَّة لا تخضع لأيّ قيودٍ حول الأفكار، لقد استخدموا شخصيَّة حقيقيَّة وحدثًا حقيقيًّا وبعض الأساطير الخاصة في دمجها في قصةٍ مليئة بكل شيءٍ.

قصص ركن الهواة جعلتني أقتنع أن لا حدود للأدب، فيمكن إكمال أي شيءٍ واستخدام أي شيءٍ بحُرِّيَّة، فماذا عن عَالَمنا العربيّ؟

للأسف لا أصادف الكثير من الأعمال العربيَّة المُنْفَتِحَة للتجريب، بعض الأعمال تستخدم الشَّخصيَّات كما ذكرت أو إشارة إلى عَالَم رواية مثلًا. ربَّما هو الخوف من المقارنة بكاتبٍ آخر، ربما هو تجنُّب الالتصاق بما فعله كاتبٌ آخر.

إعلان

غير أنَّه مؤخَّرًا ظهرت مجموعة قصصيَّة حديثة ذات فكرةٍ مثيرة للاهتمام: “ملخص ما سبق”، مجموعة قصصيَّة صدرت للكاتب “علي قطب”. فكرة المجموعة غريبة، إلَّا أنَّه قبل قراءة القصص عليك قراءة هامش “ملخص ما سبق أو الجزء الأوَّل من القصة”، وهنا تكتشف أنَّها قصص مألوفة بدرجةٍ كبيرة، فهي في الأصل قصص لأدباء مصريين مشهورين، مثل قصة “العذراء والشعر الأبيض” لإحسان عبد القدوس، أو “البوسطجي” ليحيي حقي، أو “سارق الفرح” لخيري شلبي.

 

غلاف كتاب “ملخَّص ما سبق” لـ “علي قطب”/ دار العين للنشر

 

إنَّ الفكرة جريئة بالطبع، فكل كاتبٍ منهم لديه أسلوب فريد ولغة مميَّزة، كما أنَّنا لا نتحدَّث هنا عن استخدام عنصر، بل إكمال القصة برمتها بكل شخصيَّاتها وأحداثها من نقطة البداية.

الغريب أنَّ نهاية بعض القصص مغلقة أو ربَّما مرضية للقرَّاء، وقد يعتقد البعض أنَّها لا تحتاج إلى جزءٍ ثانٍ، إلَّا أنَّه جزء من التحدي، ومهارة الكاتب قد تتجلَّى في خَلْق صراعٍ أو نقطة تحوُّل من مشهدٍ هادئ وعاديّ تمامًا، وهو ما حَدَثَ في القصص ذات النهاية المغلقة.

استكمال الفلسفة

كما ذكرت في البداية، فالأدب مساحة واسعة للغاية، وما جَذَبَ نظري في قصتين بالتحديد من المجموعة أنهما لا تكملان الأحداث بالضبط، بل تكملان فلسفة الكاتب الأصليّ. فلم يكتفِ الكاتب بتوقُّع أفعال الشَّخصيَّة مثل قصة “العذراء والشعر الأبيض” مثلًا أو توقُّع رد فعل المجتمع.. إلخ.

في قصة “طريد الفردوس” لتوفيق الحكيم، فإنَّ النهاية مغلقة تقريبًا، صديقان في البار يحكي أحدهما قصة الشَّيخ عليش الذي يُطْرَد من مملكة السماء ليعود إلى الأرض فلا مكان له في الجنة أو النار، عليش يجرِّب حياة العربدة وحياة الصلاح ويقرِّر كيف يكمل حياته… وهكذا تنتهي القصة. ربما نظن أنَّه لا يوجد ما يُقَال بعد قصة الحكيم لكن الحقيقة أنَّه قد تَرَكَ الكثير من التساؤلات والتخيُّلات عن فكرة الحياد بلا جنة أو حجيم ،وهو ما استغلَّه علي قطب في إكمال القصة وسمَّاها “الأعراف”.

إذا طُرِدَ شخصٌ ما من الفردوس، فإذًا يمكن أن يكون هناك الكثير من المطرودين أيضًا، وتلك فرصة رائعة لتخيُّل قصة أخرى عن فلسفة الحياد ولِمَ لا يكون هذا الشَّخص مُذْنِبًا وفي الوقت نفسه صائبًا؟

لو دَخَلَ الجنة دون فَهْم سيكون مثل دابة، ولهذا هو لم يدخل النار أيضًا، المغزى من معجزته الفَهْم، الفَهْم المُطْلق للحياة، وإذا فَهِمَ ارتاح وعَرَف فائدة وجوده في هذه الحياة، أما أن تعيش كجمادٍ غير مفيدٍ فطريقة فاشلة لدخول الجنة.

ملخص ما سبق لـ علي قطب

والقصة الثانية التي أرى أنَّها أكملت الفلسفة بشكلٍ أكبر، هي قصة “أسفل الحُبّ”، وهي المكمِّلة لقصة نجيب محفوظ الشَّهيرة “الحُبّ فوق هضبة الهرم”.

في القصة الأصلية هناك شاب يشعر بالظلم من الحياة الاجتماعيَّة ولا ينقطع عن التَّفكير في النساء، يخطب إحدى الفتيات ومع كلَّ المحاولات لإتمام الزيجة وإيجاد شقة يقنعها أنَّ هضبة الهرم ربما قد تكون البقعة التي تحتوي رغباتهما. تنتهي القصة بهما فوق هضبة الهرم.

في “أسفل الحُبّ” نرى استمرارًا لفلسفة نجيب محفوظ المتمثِّلة في تفكير البطل الذي يحاول لكنَّها ليست محاولة حقيقية، بل مجرَّد حلول شكليَّة كي يحلَّ مشكلة كبته ورغبته في النساء مع استكمال نفس الفكرة عن الظروف الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي لا تتحسَّن للبطلين.

 

أعلم أن الظروف الاستثنائيَّة ليست باستثنائيَّة، بل هي ظروف دائمة، واقعة، مُقيمة، نضحك على أنفسنا بقول “استنثنائيَّة”، نرجو زوالها ولا تزول.

ملخص ما سبق لـ علي قطب

مُخَاطَرة أم موهبة

إنَّ باقي القصص على نفس المستوى من محاولة مواكبة القصة الأصليَّة من الناحية اللُّغويَّة والسَّرديَّة، يُمكن للبعض اعتبار هذه الفكرة سيئة، فلِمَ قد يحاول كاتب تقليد أسلوب آخر؟

ربما ينبع ذلك من فكرتنا عن الإبْدَاع وأنَّ الإبِدَاع دائمًا هو التفرُّد أو محاولة خَلْق الجديد أو كتابة قصة غريبة لم يسبق لها مثيل. لكني أرى أنَّ المُحَاكاة تتطلَّب براعة شديدة وتركيز كبير لتحليل الألفاظ والبنية السَّرديَّة وإقامة نصٍ آخر يشبهه. وفي النهاية هي تجربةٌ مثيرة للاهتمام تفتح آفاق وأسئلة عديدة عن القصص والكتَّاب وعن مساحات الأدب التي لا تنتهي.

تدقيق لغوي: أمل فاخر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا