آلام يهوذا: لأن الأدَب لا يَكفّ عن خَلْق الصُّور الجديدة

“يهوذا” هو أحدُ تلك الشَّخصيَّات التي لا نعرفها إلا من خلال قصة واحدة، لا يوجدُ عنها إلا انطباع واحد.

ذِكْر يهوذا يستدعي التشاؤم، لأنَّه لا يرتبطُ إلا بالخيانة، وأيُّ خيانة؟ خيانة دِينيَّة عظمى. لكن هل يمكنُ أن تحملَ القصَّة أكثر ممَّا سمعنا؟ جوانب أخرى؟ أو كلمات مختلفة وشَخصيَّات أكثر عُمْقًا؟

هنا يأتي الأدبُ ليلعبَ دورَ تعدد الأكوان، لنجلسَ ونسمع قصصًا مختلفة عمَّا تعودنا عليه، لنرى يهوذا الإنسان لا كأيقونةٍ، هو إنسانٌ ذو عائلةٍ لا مجرَّد اسم، كشقيٍّ يُفكِّر ويندم ويتحيَّر في الإجابات.

غلاف رواية “آلام يهوذا”

 

“آلام يهوذا” للكاتب: ماجد وهيب، هي رواية حديثة الصدور، تبدو جريئة من خلال العُنْوَان فما زلنا لا نتقبَّل القصص الموازية عن المُقدَّسات والأحداث الدِّينيَّة. ربَّما نجدُ هذا الصراع يتجدَّد مع كل إعلانٍ عن مسلسلٍ أو فيلمٍ يتضمَّن شَخصيَّات دِينيَّة، مثل مسلسل “يوسف” الذي مُنِعَ من العرض وأثار ضجةً كبيرةً، وتبعها العديد من الأعمال الأخرى، وكالأفلام التاريخيَّة التي يقف أمامها المشاهدون ليعترضوا على الدقة التاريخيَّة، فهم يُعامِلون القصص الدِّينيَّة بأنها ثابتةٌ كالتاريخ لا يجب تغيُّر عوامل شَخصيَّة، وربما هو ما يعود إلى كَوْنها شَخصيَّات مقدَّسة  لا تراها العين بل يتخيَّلها العقل كما يريد بأفضل طريقةٍ ممكنة، لذا مجرَّد تخيُّل الشَّخصيَّة الدِّينيَّة كإنسانٍ عاديٍّ –مجرَّد عادي- كافٍ لإثارة السَّخَط، لأنه ليس هذا ما ترينا إياه عقولنا. واختلاف يهوذا عن أي شَخصيَّةٍ دِينيَّة أخرى، أنه ليس شَخصيَّة محبوبة من الأصل، ولكن مع ذلك هو جزء من قصة معروفة، لكن هل القصص المعروفة لا تتحمَّل الامتدادات؟

تبدأ القصة مع ولادة يهوذا وقيام معجزة تُحذِّر والديه من حمله قتل الأطفال، فيهربان بالرضيع بعيدًا عن الأهوال، ومنذ ذلك اليوم يملأ يهوذا يقينًا أن نجاته لغرضٍ وأن وجوده ليكون بطلًا لقصة، لكن هذه المرَّة ليس البطل الجيد بل البطل الشرير. الغريب أننا لا نرى الشَرّ، فقد انتهت حقبة الأبيض والأسود، ويهوذا طفلٌ عاديٌّ يحمل أفْكَارًا وتناقدات ومشاعر.

إعلان

“الخلاص هو أن يكون العَالَم بلا أحزانٍ أو متاعب، ألَّا ينام إنسان باكيًا، أو مهمومًا وخائفًا. ألَّا يكون هناك فقرٌ وجوعٌ وأمراضٌ وحُرُوب. أن ينتهي الشَرّ تمامًا، وأن يكون لكل شيءٍ هنا على الأرض معنى. أن يكون العَالَم جنةً، الناس فيها جميعهم سعداء، جميعهم بلا استثناء، ومتساوون، حتى هؤلاء الرومان الذين يحتلون بلادنا. أنا لا أحبهم لكني أريد أن أحبهم، وهذا لن يحدث إلا إذا امتلكت قلبًا جديدًا لا يعرف الكُره، وأنا أريد لكل الناس أن يمتلكوا قلوبًا كهذا القلب. أنا أُحِبّ الناس جميعهم، أو هكذا أظن، إلا الرومان لأنهم يحتلون بلادي، لكني أشفق عليهم رغم ذلك، على التعساء منهم بالأخص، لأن حتى أشَدّ الناس إجرامًا يستحقون الشفقة، لأنهم في النهاية بشر”.

طوال الوقت يتفاعل يهوذا مع الأحداث السياسيَّة، يُجرِّب شُعُور الحُبّ والتعلُّق، يُفكِّر في الدِّين وفي المخلص وتتكاثر أسئلته، يا لها من حياةٍ بسيطةٍ لإنسانٍ ظننا أنه قد وُلِدَ خائنًا، وهي بالفعل رؤية وُجِدَت من قبل في عَالَم الأدب.

في رواية يهوذا الأسخريوطيّ للكاتب الروسيّ ليونيد اندرييف، قُدِّمَ يهوذا كرجلٍ كذابٍ ونصَّابٍ لا يدخل مكانًا إلا وقد افترى على شخصٍ أو زرع الشقاق والبغضاء، لقد مثَّله الكاتب كشَرٍّ يمشي علي قدمين منذ زمنٍ.. بعيدًا عن رواية اندرييف التي تُركِّز على فترة معرفة يهوذا بالمسيح، فهنا القصة أكثر عُمْقًا وتناولًا لنفس يهوذا من كل النواحي.

ذات القصة، ولكنها قصةٌ أخرى

أكثر ما لفت انتباهي إلى الرواية، أن الأحداث هي ذاتها في القصة الدِّينيَّة بلا اختلافٍ، لكن في الوقت ذاته إننا نقرأ قصة مختلفة تمامًا، فبعض الأحداث تتغيَّر بتغيُّر جملة أو ظرف واحد أو ربما تعبير وجه، وهنا نري أفْكَار يهوذا عن الحوادث التي نعرفها مسبقًا، فنحن نعلم أن التلاميذ تبعوا المسيح لكن ماذا كانوا يعملون في أيامهم وأين أُسَرهم، أو حادثة إحياء لعازر من الموت إنها معجزةٌ مبهرةٌ بلا شَكٍّ، لكن ربما لأحد المُعَاصرين رأي آخر مختلف.

هذا الاختلاف يجعلنا نُفكِّر في الكثير، وهذا بلا اختلاق قصة جديدة، لا نحتاج عَالَمًا جديدًا فنتازيا أو أفْكَارًا لرواياتٍ وعَلاقاتٍ لم نعرفها من قبل، كان المطلوب فقط هو قصة نعرفها، والغريب في قصة يهوذا أنها ربما تكون القصة التي يعرفها العَالَم أجمع، ومع ذلك يمكنك قراءتها بإندهاشٍ.

يهوذا والمسيح وما حولهما

أحد مميزات الرواية، أنها لم ترسم يهوذا فقط، بل هو وما حوله. في العمل نري القُرى ومواطنيها وأعمالهم، مما يعطينا صورة عن تحركاتهم وأفكارهم.

في الرواية كذلك ذُكِرَت التقلُّبات السياسيَّة، والفِرَق المُعَارِضة بين مستخدمٍ للسلاح وسلميٍّ، والحوارات الدائرة بين الفرقتين، وهو جزءٌ لا يهتم به الكثيرون في هذه الفترة التاريخيَّة إذا ما كتبوا عنها، فالتركز الأكبر على الشَّخصيَّات كَوْنها فارقة ومؤثِّرة في التاريخ، لكن يجب ألا ننسى أن تلك الشَّخصيَّات ابنة بيئتها وأن بعض أفعالهم نتيجة تأثُّر بما حولهم.

كما وضَّحت الروايات أشكال العَلاقات الاجتماعيَّة بين الناس والروابط العائليَّة أيضًا في وصف عَلاقة يهوذا بعائلة والدته أو عَلاقات والد يهوذا مع الجيران، وكذلك أشكال أعمالهم وتحركاتهم، فنحن نعلم أنهم كانوا حرفيين أو صيادين أو رُعَاة، لكن ماذا بعد؟ كيف يقضي هؤلاء الحرفيون أوقاتهم تحت غزوٍ وأوضاعٍ مُقَلْقَلَة؟

“لو أنني نظرت إلى الموجود لا الناقص، إلى خير العَالَم وليس شره، ما كنت سأجلس الآن هكذا أُفكِّر بأي طريقةٍ أُنهي حياتي، لكني رغم ذلك أقول أيضًا إنني معذورٌ إذا رأيت الشَرّ غالبًا، إذا فكَّرت في الناقص أكثر من الموجود، وانتبهت للسيئ أكثر من الحسن، وتذمَّرت أكثر مما رضيت، معذور لأن عيني عين إنسانٍ وقلبي وعقلي وكل حواسي هي لإنسانٍ، والإنسان هكذا يفعل لأنه ضعيفٌ وجاهلٌ”.

ختامًا، فرواية آلام يهوذا بجانب كَوْنها مُمتِعَةً ذات لغةٍ جذَّابةٍ، فهي أيضًا مهمة على مستوى وجود هذه النوعيَّة من الروايات في قالبٍ تاريخيٍّ دينيٍّ أكثر على السَّاحة الأدبيَّة.

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا