في مديح الفلسفة التشاؤمية: كيف يكون التشاؤم المفعم بالأمل سبيلاً للعيش الحكيم؟ (مترجم)

“نحنُ أمام خيارَيْن لا ثالثَ لهما: إمَّا أن نركُنَ للتشاؤم والاستكانة، ونتطيَّرَ من مُقبِلِ الأيَّام، أو أن نتجمَّلَ بالتَّفاؤل، ساعِين بذلك إلى اقتناص الفرص السَّانحة، الموجودة لا مَحالة، أملاً بتصييرِ المعمورة مُستقرَّاً أكثر مأهوليَّة للعيش”. هكذا تكلَّم (نعوم تشومسكي-Noam Chomsky) .

أضحَتْ مفردةُ “التشاؤم” مُثخنةً برجعِ الصَّدى السَّلبيّ، خاصَّةً في زمانٍ -كزمانِنا هذا- موسومٍ بشيوعِ الجزعِ والقلقِ المحمومَيْن إزاءَ الحالِ التي أصبح عليها كوكب الأرض، وكذا حِيالَ مستقبلِ نوعِنا البشريّ. يطرحُ نعوم تشومسكي موضوع التَّفاؤلِ والتشاؤم في مؤلَّفِهِ المُعنوَنِ بِـ (التَّفاؤل مُقابلَ اليأس-Optimism over Despair)، بوصفِهِ مسألةً ذات مسارِبَ متشعِّبة: فإمَّا أن يحدونا التَّفاؤل بشأنِ إمكانات المستقبل، أو أن نؤولَ إلى التشاؤم، مُذعنين بذلك للاستسلام والقنوط. وعلى نحوٍ مماثلٍ ومتزامن، يُطلقُ (ستيڤن بينكر- Steven Pinker) في كتابِـهِ (التَّنوير الآن- Enlightenment Now) نداءً مُلِحَّاً نحو ضرورةِ الإيمانِ بجدوى المُضيّ قُدماً في مسيرِ مُقارعةِ ما وصفَهُ بِـ “موجةِ التشاؤم المُستطِيرة”، ومجابهةِ الارتكاسةِ الثَّقافيَّة كذلك الأمر.

وعلى سبيل مُقاربة القضيَّة من منظورٍ مُغاير، تشنُّ مارلين روبنسون هجوماً لاذعاً على ما اصطلحت عليه بِظاهرةِ التشاؤم الثَّقافيّ “الدَّارِجة باطِّراد”، والتي من شأنها أن “تعودَ بعواقِبَ وخيمةٍ تختصُّ بوأدِ المطامح، وزجرِ الإمكانيَّات، أو حتَّى إزكاء حالةٍ من الهلع القاتم، وإشاعةِ مُناخٍ من السَّرنمةِ الجمعيَّة، يلوذُ الأفرادُ فيها بحلولٍ كارثيَّة، مُستوحاةٍ من أوهامِ الموتِ المُحدق بهم”. حتَّى الجنينُ الذي لم ينبلج من ظُلمةِ رحمِ أُمِّهِ بعد في روايةِ (قشرة الجوز- Nutshell) لِـ (إيان مكِّيوان- Ian McEwan)، يرمي بحكمةِ رجُلٍ فطين إلى أن التشاؤم لا يعدو أن يكونَ هشاشةً فكريّة، وامتناعاً عن ملاحظة أنَّ الأمور لم تكن لتنحوَ منحىً أفضل مما هي عليه في المجتمع الغربيّ المعاصر، إذ يقول: “ما أهونَ التشاؤم!” إنَّها لفكرةٌ سديدةٌ عامَّةً أن تتبنَّى موقفَ الرَّيبيَّة الوسطيَّة على أقلِّ تقدير حيالَ التَّصريحاتِ الكاسحة آنفةِ الذِّكر، بتعبيرٍ آخر، تيكَ التَّنديدات الصَّارمة إزاء ما يبدو بصورةٍ جليَّةٍ وبيِّنةٍ بِدعةً واسعة النِّطاق؛ حريٌّ بنا، والحالُ هذه، أن نعتصم بالشَّكّ في حالِ شُحِّ الدلائل الدَّامغة التي تبتُّ بوجودِ ظاهرةٍ يُفترضُ أن نكونَ على دِرايةٍ تامَّةٍ بها، أعني التَّشاؤم. نافلةُ القول، من ذا الذي يسِمُ ذاته بالتشاؤم عن سابقِ قناعةٍ في حاضرِ أيَّامنا؟ تُراها أين تكونُ تلك الحشودُ المُتَّشحة بدِثارِ الشُّؤم؟ ومنذُ متى كان التّشاؤم “صيحةً رائِجة”؟ ومن القائلُ أنَّ التَّشاؤمَ هو عينُهُ التَّصديقُ بالانحطاط، أو أنَّه ينطوي على الإذعانِ لبراثنِ القنوط واليأس؟ في الحقيقة، أن تُلفِيَ أحداً يدَّعي التشاؤم، فذلكَ أعتى صعوبةً من مُلاقاةِ امرئٍ يُشهِرُ باعتناقِهِ التَّفاؤل، أكانَ ذلكَ في ميادينِ السِّياسة، أم الفلسفة، أم العِلم، أم حتَّى في نطاقِ الحياةِ اليوميَّة، وبالكادِ تكون النَّماذجُ المعدودة التي نقبضُ عليها صريحةً بصورةٍ صِرفة. وعلى هذا، نلاحظُ أنَّ الفيلسوف المشهود له بنزعته التّشاؤميَّة (چون غراي- John Gray) يُبدي تحفُّظاً إزاءِ مصطلحِ “التشاؤم”، إذ يقولُ في برنامج (أقراص جزيرة الصَّحراء- Desert Island Discs) الذي تعرضه قناة الـ BBC:

“أنا متشائمٌ ملؤه الأمل”. إنَّ توصيفَهُ الذَّاتي المُتهاوِد، والمشير إلى الحيطةِ والتَّذبذبِ بين المُتضادَّات، يشي بالوجَسِ الذي يعترينا حِيالَ التَّشاؤم، لكأنَّه تهمةٌ علينا نفيها. بيد أنَّ المعاني التي نُحمِّلُها لِلتَّشاؤم، هي في غالبِ الأحايين بعيدة كُلّ البُعد عمَّا ينطوي عليه التَّشاؤم بالفعل، إذ تتراوحُ – تلك المعاني- ما بين الهواجس والتَّحيُّزات والمخاوف بشأن شيوع الظُّلم. في واقع الحال، لم يكن التَّشاؤم -أو لِنَقُلْ الفلسفة التَّشاؤمية- يوماً يسيراً وذا شعبيَّةٍ وقِبلةً للأنظار. وبالمقابل، لا نُجانب الحقيقة إن ارتأينا أنَّ الرُّؤية التَّشاؤمية للحياة جِدُّ عميقة وغنيَّة وشائقة، بخلافِ الانطباع المشوَّه والسَّطحيّ المتعارف عليه بشأنها. إنَّ هـذا الانطباع المغلوط لا يضلِّلُ حقيقة التَّشاؤم وحسْب، بل يُلحِقُ ذات الضّرّ بالعقيدةِ المُضادَّة: التَّفاؤل. علامَ ينطوي كُـلٌّ من التَّفاؤل والتَّشاؤم، إذاً؟ تذهبُ الرُّؤية النَّمطيَّة حِيالَ هذين المُصطلَحين إلى أنَّهما يشيران إلى توقُّعاتنا المُسبقة إزاء المستقبل، فالمُتفائل يرنو إلى بارقةِ النُّور في آخر النَّفق، على عكس المُتشائم.

عِلاوةً على أنَّ في التَّعريف آنف الذِّكر تبخيسٌ لجوهر التَّشاؤم، شأنه في ذلك شأن التَّفاؤل، فإنَّ الخطلَ الجسيم الذي يعتري مثل هذا التَّقديم يتمثَّلُ في إلحاق تُهمة الفشل بالتَّشاؤم. لو كان التَّشاؤم أو التفاؤل شُرفةً نطلُّ منها على آفاق المستقبل، من البديهيّ حينئذٍ، أن تكون كفَّةُ التَّفاؤل راجحةً، بالاستنادِ إلى مُبرِّراتٍ معنويَّة وأخلاقية. ولا ملامَ على من يحمل مثل تلك النَّظرة الاختزاليَّة، فالحدسُ لدى كثيرين يودي بهم إلى الاعتقاد بأنَّ خاتمةَ التَّشاؤم الاستكانة والخنوع، أي الاستسلام. وهذا يعود بنا القهقرى إلى مُعضلة المأزق المُفتعل (إمَّا-أو) التي جاءَ بها تشومسكي، فأنتَ إمَّا متفائل أو متشائم، وبالتَّالي على شفا حفرة من اليأس. إن لم يكن هنالكَ بدٌّ من ذينك الخَيارين، فتشومسكي حينئذٍ مُحِقّ، إذ إنَّ القيم الأخلاقيَّة ذاتها تقف على طرفي نقيض من التَّشاؤميَّة. بئسَ المذاهبِ التَّشاؤميَّة، إن كانت ستودي بنا إلى درك القنوط، أو التَّخلِّي عن أشقَّائنا في الإنسانيَّة.

إعلان

استفضنا في البديهيَّات والاعتقادات السَّائدة إزاء التشاؤم، والآن حان وقت تناولِ الحقائق. هل يعتقد المتشائمون حقَّاً أنَّ رؤيتهم هـذه تُجبرهم على الخنوع ورفع رايات الهزيمة؟ حقيقة الأمر، ما يحدث لدى السَّواد الأعظم من النَّاس هو النَّقيض تماماً. لقد أفردَ (جوشوا دينستاج-Joshua Foa Dienstag) مؤلَّفاً كاملاً لإثبات أنَّ التَّشاؤميَّةَ إرثٌ أصيلٌ في الفكر السِّياسيّ، وأنَّها من موجِباتِ الانخراطِ السِّياسيّ النَّافذِ والفعَّال. كيف عسانا أن نبيِّنَ حقيقةً مفادها أنَّ واحداً من أرباب التَّشاؤميَّة، الذي هو (آلبير كامو- Albert Camus) ، كان من أشدِّ الفلاسفة المُنخرطين في الميدان السِّياسيّ بشراسة على امتداد الفكر الغربيّ؟ تكمنُ المشكلة، إذاً، في الأحكام المغلوطة للحسّ المشترك حِيال التَّشاؤم، والتي ضربت بسِهامها كنهَهُ العميق. والحالُ أنَّه إذا ما نحَّيْنا الاعتقاد بأنَّ هـذي النَّزعة تعني استشراف السُّوء جانباً، فإنَّ التشاؤمية في معظم الحالات لا شأن لها بالمستقبل البتَّة؛ بل هي فلسفةُ عيشٍ تحث على مواجهة الجوانب المظلمة من الحياة العينَ بالعين، والتَّسليمِ بأنَّ الشَّرَّ والألم والمكابدة مصائرُ منحتمة لا فكاكَ للإنسان -ولا حتَّى للحيوان- منها.

وفيما يختصُّ بالنَّظرة السَّائدة التي ترى التَّشاؤمَ تقديراً للبلاء قبل وقوعه، فإنَّ الفلاسفةَ التَّشاؤميِّين يدحضون ما سبق بالتَّوكيد على أنَّ المتشائمَ الحقّ لا ينتظرُ الأسوأ، وإنَّما لا ينتظرُ شيئاً على الإطلاق. تسعى التَّشاؤميَّة إلى كبح جماحِ ارتقابات البشر لِما تخبِّئه لهم الحياة. وهكـذا، فهي ليست تصديقاً محسوماً بالانحدارِ والانحطاط، بل على العكس، إنَّها رفضٌ لجعلِ الارتقاء مُعطىً ثابتاً وأكيداً. أمَّا تعليق التَّشاؤميِّين على البعضِ الذي يراوغُ بالقول: “لسْنا بمتشائمين ولا متفائلين؛ نحن واقعيُّون”، هو أنَّ هذا التَّصريحَ إقرارٌ بتشاؤميَّتهم من حيثُ لا يدرون، إذ إنَّهم يُبقون الحُكمَ مُعلَّقاً فيما يتعلُّق بما سيحدث، وما لن يحدث. وعليه، فإنَّ تلمُّسَ غياهب المستقبل لا يعدو أن يكون محض فرعٍ ثانويّ، اشتُقَّ من الأصل الموغِلِ في الصَّلابة والمتانة للفلسفةِ التَّشاؤميَّة، بمعناها المُجدِي والحيويّ؛ إنَّها مُحاولةٌ لتكريسِ تعاطٍ بديلٍ مع واقعِ الحياةِ الإنسانيَّة، أكثر عقلانيَّة و شفافيَّة. هـذا هو لُباب تلك الفلسفة ومفهومها الأصيل، بعيداً عن الصُّورة النَّمطيَّة المُغالية التي اعتدنا عليها.

سنخلصُ، إذا ما قلَّبنا صحائف التَّاريخ، إلى أنَّ مُصطلَحي التَّفاؤل والتشاؤم أبصرَا النُّور في بواكير القرن الثَّامن عشر، وتحديداً، في غمرةِ احتدام الجدالات الفلسفيَّة حول معضلة الشر؛ خُلاصة تلك المُعضلة، أنْ كيف لإلهٍ عالمٍ بالغيب، وعظيمِ المقدرة، وكُلِّيِّ الخير أن يسمحَ بطغيان الشُّرور وسطوة المعاناة على هذا الوجود؟ وممَّا يسترعي الاهتمام أنَّ كلَّاً من المفهومَين أسبغَ على نقيضه دلالاتٍ تحقيريَّة، مُذ شرعت بتداولهما الألسن؛ حيث صِيغَ كلٌّ منهما لدحضِ فلسفةِ الآخر، ولمَّا تزلْ هذي الطَّبيعة الازدرائية لصيقة بهما. (حتَّى تاريخنا هذا، قد يُنبَزُ شخصٌ ما بالتَّفاؤل، أو يُعابُ لكونه متشائماً، في بعض السِّياقات).

كان اليسوعيُّون أوَّل من نحتَ لفظةَ “التَّفاؤل” للهزءِ من نظام (ليبنيز- Leibniz) الذي اعتقد أنَّنا “نعيشُ في أفضلِ العوالمِ الممكنة”، ولِلمفارقة، فإنَّ اليسوعيِّين أنفسهم اصتكُّوا تعبيرَ “التَّشاؤميَّة” كمُسمَّىً لوجهة النَّظر المناوئة للتَّفاؤليَّة الفلسفيَّة. بيد أنَّ هذا التَّعبير لم يلقَ الانتشار الذي بلغ الآفاق إلَّا عُقبَ نشرِ (ڤولتير- Voltaire) لروايتِه الشَّهيرة (كانديد- Candide)، ليصعدَ بذلكَ نجمُ التَّشاؤميَّة بالتَّزامن مع شيوعِ تلك الرِّواية.

يتعيَّنُ علينا طرحُ مجموعةٍ من التَّساؤلاتِ الوجوديَّة، إذا ما أردنا وضع كِلا المُصطلحَين تحت مبضعِ التَّشريحِ الفلسفيّ، من مثل: هل تُضاهي خيرات الوجود شروره؟ هل الحياة جديرة بالعيش؟ هل كان من الأفضل للنَّاس -بعضهم أو جلُّهم أو أيٌّ منهم- لو بقوا في حضن العدم، ولم يُقذف بهم إلى لجَّة الوجود؟ جادلَ أنصار الفلسفة التَّفاؤليَّة، وعلى رأسهم (لايبنتز، وآلكسندر بوب- Alexander Pope، الذي يفوقه حماسةً في حمله لواء هذي الرُّؤية) بأنَّ الخير أسُّ الوجود، وبالتَّالي، فلِمنظومة الخلق الإلهي مسوِّغات موجِبة، كما أنَّ الشُّرور الحادثة لا تدحض الخير الأصيل، ولا تطعن بوجود الإله.

وبالمُقابل، ذهب أقطابُ الفلسفة التَّشاؤميَّة، نذكرُ منهم (ڤولتير، وديڤيد هيوم David Hume)، إلى أنَّ تعاطي أصحاب التَّفاؤليَّة الفلسفيَّة مع القدْر المَهول للبؤس الإنسانيّ كان خجولاً وسطحيَّاً، إذ إنَّهم لم يغضُّوا الطَّرف عن أنَّ الشَّرورَ والقبائحَ في هذا العالم تفوقُ الخيرات كمَّاً وحسْب، لا بل وتُضارعها نوعاً،فثِقلُ الشَّرّ الذي يرزحُ تحته الوجود يُضارع زِنَةَ الخير. لو وضعنا ما مقداره ساعة كاملة ملؤها الكَبد والمعاناة في كفَّة، والكلام هُنا للفيلسوف (پيير باييل- Pierre Bayle)، مُقابل خمسة أو ستَّة أيَّامٍ من الدِّعة والرَّاحة والهناء، لَرجحَتْ كفَّةُ السَّاعة. بالمحصِّلة، وبالنَّظر إلى الأرجحيَّة المُريعة للشَّقاء الإنسانيّ، وإلى المآلات الكارثيَّة التي يمكن أن يبلغها، فما الوجود إلَّا رهان خاسر، ما كان له أن يُعقد. فاللَّاوجود، وفقاً لأشكس التَّشاؤميِّين، خيرٌ من وجودٍ ينوءُ بتمظهراتٍ للمعاناة، يندى لها جبين الإنسانيَّة، مُلمِّحين إلى التَّداعياتِ والانطباعاتِ السَّلبيَّة التي قد تُدمغ بالخالق. أيَّاً يكُنْ، باختصار، ذلك هو الفارِقُ النَّظريّ بينَ الفلسفتَيْن: التَّفاؤليَّة، والتَّشاؤميَّة. ولكن، بعيداً عن الشِّقّ النَّظريّ، ثمَّة باعثٌ أخلاقيّ عميق يوجِّه دفَّتَي كُلٍّ من المذهبَيْن.

إنَّ مأخذ التَّشاؤميِّين اللَّاذع على النَّسق التَّفاؤليّ (الذَّاهب إلى أنَّ الأصل في الأشياء هو الخير، أمَّا الشُّرور والمعاناة، فهي طارئة ومُتضمَّنة في الخير الكُلِّيّ)، يتجلَّى في تجاهلِ الأخير القصديّ لحقيقةِ البؤس الإنسانيّ، والأنكى من ذلك، في محاولة بُناتِهِ تسويغَ الشَّقاء الوجوديّ. فعلى سبيلِ المثال: يُحاجِجُ الفلاسفةُ التَّفاؤليُّون أنَّنا مُبتَلُون بالعناء لأنَّنا أبناء الخطيئة، أو لأنَّ الألم يصقل النُّفوس ويهذِّبها، أو لأنَّنا جنَيْنا المُقاساةَ على ذواتِنا بمحضِ إرادتنا، إذ فينا من الشَّكيمة ما يكفي لكي نتعالى على كُرُوبنا.

إنَّ الواعز الأخلاقيّ للتَّشاؤميِّين يستنكر مثل هذا الخطاب المُزدري للتَّجربة الإنسانيَّة، والمُجرَّدِ من روحِ التَّعاطف الوجدانيّ مع أشقَّائنا في المعاناة، والذي من شأنه أن يجعل عذابات الآخرين أشدَّ مضاضة. فلا أقسى من أن يُلقى على مسامعِ الأشقياء في الحياة الدُّنيا أنَّ شقاءَهم هذا بلا طائل، وأنَّه من صنع أيديهم، الأمر الذي يحمِّلهم وزر الذَّنب، ويزيد طين مُكابداتهم بِلَّة، وفقاً لِفلاسفةِ التشاؤم. أمَّا المُستند الأخلاقيّ الذي يُقارِعُ النَّازعون إلى التَّفاؤل التَّشاؤميِّين به، فيتلخَّصُ في أنَّ الأخيرِين ينظرون إلى المعاناة الإنسانيّة بعين المُغالاة، وبالتَّالي، فإنَّ إطنابهم الفكريّ واستغراقهم التَّأمُّليّ بشأن البؤس الوجوديّ، يؤدِّي إلى إذكاء جذوة هذي الحقيقة. فالتَّشاؤميُّون، إذاً، مُتَّهمون بجحود الخالق، وبالهشاشة الأخلاقيَّة، فوق ذلك. ومن هنا، وبالاتِّكاء على التَّحفُّظات الأخلاقيَّة المذكورة أعلاه، تتشكَّلُ معالمُ النَّظرة التي تدمغ التَّشاؤميَّة بالقنوط والابتذال: ليست التَّشاؤميَّة سوى انعدام للإرادة. باعتقادي، لقد أسهم الحامِل الأخلاقيّ لكلتا الفلسفتَيْن في إرساء حضورهما المتين، ولولاه لكانتا محض اعتباراتٍ تجريديَّة.

بِعبارةٍ أُخرى، عمِلَ البُعد الأخلاقيّ الذي تتَّكئ عليه كلٌّ من الرُّؤيتين -التَّفاؤليَّة والتَّشاؤميَّة- على توطيد انخراطهما وانشغالهما بالتَّجربة الإنسانيَّة في إطار قوالبَ عدَّة، فتجسَّدتا إثرَ ذلك حقَّ تجسيد من خلالِ مُساءلتهما المعاناة الإنسانيَّة بأناةٍ ورِفق، وأيضاً عبر حثيث سعيهما لإيجاد خطابٍ عزائيّ و تعاطفيّ يطالُ شساعة التَّجرُبـةِ الإنسانيَّة بِإنصاف. كما يُضفي المُنطلق الأخلاقيّ على كِلا النَّهجَيْن اتِّساقاً منطقيَّاً، وبالتَّالي، تتحدَّدُ ملامحُهما بدقَّة من خلال النِّدِّيَّة الأخلاقيَّة القائمة بينهما. وعليه، لم يكُ الطَّرح الفلسفيّ المُجرَّد حول ما إذا كُنَّا نعيشُ في أفضل العوالم الممكنة، محور الصِّراع الذي احتدم بين ڤولتير و(روسُّو- Rousseau) ، عُقبَ الزِّلزالِ الذي أحال مدينة لِشبونة أثراً بعد عين، بل تجسَّد جوهر الخلاف في لزوم أن يكونَ المقالُ من جنس المقام، فيعرفُ المُفكِّرُ متى يشاركُ النَّاسَ مُصابهم، ومتى يبحثُ معهم عن كوَّةِ ضوءٍ وسط الظَّلام الدَّامس.

ولأجلِ ذلك، ذيَّلَ ڤولتير، المعهود بنفَسِهِ التَّشاؤميّ السَّاخر، قصيدته الشَّهيرة الموسومة بِـ (واقعة لِشبونة– Poem on the Lisbon Disaster) ، بِلفظةِ “الأمل – espérance”. حقَّاً، ممَّا يؤسف عليه أنَّ كلتا الفلسفتين فشلتَا على مرِّ التَّاريخ وحتَّى يومِنا هذا في الاعترافِ بالرَّافعة الأخلاقيَّة لكلٍّ منهما، فلم تأخذ أيٌّ منهما الأُخرى على محمل الجِدّ. وبالمُحصِّلة، ما انفكَّ الشِّقاقُ بينهما مستمرَّاً، حتَّى عندما يُتداولُ المُصطلحان “التَّفاؤل” و “التشاؤم” بعقلانيَّة، وعليه، تكوَّنت ترسيماتٌ وانطباعاتٌ ذهنيَّة مشوَّهة وساخرة حِيال كُلٍّ من التَّيَّارين، وبصورةٍ أكثر حِدِّيَّة حِيال التَّشاؤميَّة.

ومع هذا، ثمَّة شخص يحمل وزر الصِّيت الحالك الذي طالَ التَّشاؤميَّة، كيف لا؟ وهو الفيلسوف الذي كان اسمُهُ والتشاؤم وجهين لعملة واحدة؛ نتحدَّثُ عن واسطة عقد التَّشاؤميَّة: (آرثر شوبنهاور- Arthur Schopenhauer). والسَّبب في ذلك، هو أنَّ شوبنهاور، النَّاظر إلى الحياة على أنَّها، في صميمها، موشومةٌ بالمُكابدة، وأنَّ المعاناة غايةُ الدُّنيا ومُنتهاها، يودي بنا إلى ذات القناعة التي ينكبُّ مُتشائمو زماننا الرَّاهن على تأصيلها: دعُونا من توكيد إرادة الحياة، و لْنرنُو، بدلاً من ذلك، صوب التَّسليم. لن نظفر بِـ “الخلاص”، وفقاً لشوبنهاور، ما لم نُعرِضْ عن الوجود، وبذلك، ننعتق من رسنِ الملذَّات وقيد الآلام. لِنتوقَّفْ عن اللَّهاث خلف السَّعادة، باعتبارها ضالَّتنا المنشودة، ولْنتسامى فوق رغائبنا، وذواتنا، وبالأخصّ، فوق إرادتنا، كيما يتسنَّى لنا الارتقاء فوق العالم. ترسِّخُ فكرةُ “الاستكانة”، التي تتوشَّى بها التَّأمُّلات الزُّهديَّة القاتمة، المفهومَ الحدسيّ للتشاؤم، بوصفه فلسفةً للإذعان والخنوع، وموقفاً يائساً تجاه الحياة. كما تثير ذاتُ الفكرة سؤالين يصبَّان في صميم السُّمعة الرَّديئة التي تطال الفكر التَّشاؤميّ: أوَّلاً، ألا تسهم تلك القتامة الفلسفيَّة في اجتراح مسوِّغات متماسكة للجنوح نحو الانتحار؟ ثانياً، ألا تحثُّنا على النَّظر إلى أيِّ مُعطىً بعين اللَّامبالاة، بما في ذلك معاناة أخينا الإنسان؟ لم يهزَّ هذان السُّؤالان شِباكَ شوبنهاور فقط، وإنَّما صوَّبا نيرانهما نحو حصن التشاؤميّة برُمَّتِه. ومع هذا، فقد كان الفيلسوف الألمانيّ في طليعة المتصدِّين لِذينِكَ النَّقضَيْن، مُنتهجاً، لأجل هذا، سُبُلاً خليقةً بإقناعنا. بِدايةً، لم يحوِ النَّسق الفلسفيّ لشوبنهاور أيَّ حضٍّ على الانتحار، بدليلِ أنَّ شوبنهاور نفسه لا يرى في الانتحار حلَّاً لمُعضلة الوجود. إنَّ استبطان حقيقة التشاؤم يهدينا إلى جادَّةِ الاستنارةِ الفلسفيَّة والرَّوحانيَّة، فينقشع أمامنا، إثر ذلك، غبار الوهم الذي يغلِّف معرفتنا وهويَّاتنا الفرديَّة التي تنأى بنا عن الآخرين. إنَّ مُبتغى التَّشاؤميَّة هو تعليل النُّفوس بالعزاء والسُّلوان، فلا معاناة الحياة الدُّنيا عارِضة، ولا استثنائيَّة، بل هي ديدن وجودنا في غمرة هذا العالم وصميمه. وعليه، فالتَّسليم الحقيقيّ، بمنظور شوبنهاور، إن هو إلَّا مُحاولةٌ لتحصيل الخلاص، مروراً بهزيمة ذواتنا، ولا تمامَ لذلك، ما لم نعترفْ بالحالِ التي مُنِيَ بها الإنسان على هذي الأرض، دون الحاجة إلى إزهاق أرواحنا. (يبقى الغموض مُكتنِفاً “الخلاص” الذي رمى إليه شوبنهاور، بالرُّغم ممَّا سبق ذكره). ثمَّةَ مغالطةٌ أُخرى يردِّدُها خصوم الفلسفة التَّشاؤميَّة، مفادها أنَّ أنصارَ التَّشاؤميَّة هم أنصارٌ للانتحار بالضَّرورة، بينما الحال ليست كذلك، فحتَّى آلبير كامو، ذلك التَّشاؤميّ الذي شغلَهُ الانتحار إلى حدِّ اعتباره أهمَّ تساؤلٍ فلسفيٍّ على الإطلاق، لم يحضَّ عليه. لا، بل على العكس من ذلك، لقد انكبَّ فلاسفة التشاؤم الأقحاح على تقديم الحجَّةِ تلوَ الحجَّة بهدفِ دحضِ الانتحار، ولكن، على شاكلةٍ مغايرة للخطابات التي ترفض هذا الفعل من منطلق أخلاقيّ، أو شرعيّ، أو دينيّ. حيثُ تولي المُحاججة التَّشاؤميَّة المناوِءة للانتحار عناية فائقة الحساسيَّة بسيرورةِ التَّجربة التي تفضي بالبعض إلى هذا الخَيار، بكلِّ ما تنوء به من تعقيدٍ وعمقٍ مأساويَّيْن. بِمعنى، يغوصُ الفلاسفة التَّشاؤميُّون بتأمُّلاتهم في معترك التَّجربة التي تؤدِّي إلى الانتحار، فلا يكتفون بمُقاربتها من الخارج. وبالتَّالي، تشتملُ طروحاتهم على إدراكٍ رفيعٍ بأنَّ تجربة الانتحار تخفي في مطاويها الظَّلامَ التي يغشى الوجود في كثيرٍ من أركانه، وهولَ المعاناة الإنسانيَّة. كذلك الأمر، ليسَ الانتحارُ -من وجهة نظرهم- محض فعلٍ يستوجب الدَّعم أو الشَّجب، وإنَّما تجربةٌ ينبغي أن تؤخذَ بمحمل الجدِّيَّة. فيما يختصُّ بالسُّؤال الثَّاني، لم يبخَسْ شوبنهاور بالأخلاقيَّات، وإنَّما جعل من جدليَّتِهِ أُسَّاً ورافِعاً لها، بدليلِ أنَّه لم ينبرِ فيلسوفٌ للذَّود عن الزَّخم الأخلاقيّ لإحساسَيْ التَّعاطف والحُنُوّ، بقَدْرِ ما فعل شوبنهاور. لقد انبنَتْ فكرته الرَّئيسة وفق الآتي: ستعِي البشريَّةُ أنَّها، في صميمها، محضُ نسيجٍ موحَّدٍ ومترابط، يؤلِّفُ بين خيوطه المحبوكة واقعٌ أهوَل وأقوى من الهويَّاتِ الفرديَّة للأنام، إن هم تعالَوا فوق إرادة الحياة القابعة بِدواخلهم، كفُرادى، واعتنقُوا التَّسليم مذهباً؛ وبهذا، سيشقُّ عليَّ شقاؤكَ، وستتألَّمُ لِألمِي. إنَّ إقرارنا بحتميَّة البؤس الوجوديّ، سيفتِّحُ مداركنا على اجتراحِ كُلِّ السُّبلِ الممكنة قصد تخفيفِ المعاناة عن الكائنات المُعذَّبة في الأرض، أكانوا بشراً أم حيوانات. سيعزُّ عليك، إثرَ ذلك، أن تدير أُذناً صمَّاء لتأوُّهاتِ الآخرِين، بحُجَّةِ أنَّكَ لسْتَ الذي يُعاني. يخبرُنا شوبنهاور، في هذا الصَّدد، أنَّ الفردانيَّة والهويَّة محض مقولتَيْن واهيتيْن و وهميَّتَيْن، وبالتَّالي، إذا اشتكى إنسانٌ أوحَد، وجبَ أن تتداعى له سائر الإنسانيَّة بالعطف والرَّأفة. وبينما تكوِّرُنا النَّزعة التَّفاؤليَّة حول مصالحنا ورغباتنا الشَّخصيَّة، وقد تصل بنا إلى حافَّةِ تبلُّدِ الحسّ تجاه ما يقاسيه الآخرون، فإنَّ التَّشاؤميَّة تهذِّبُ وتصقل ملَكةَ التَّقمُّص الوجدانيّ بدواخلنا، فُنحاكي بصدقٍ مشاعر الآخرين ومُكابداتهم. إذاً، ليست التَّشاؤميَّة إجلالاً للمعاناة فحسْب، بل هي فلسفةٌ جِدُّ رحيمة. يقولُ شوبنهاور: “إنَّ القلبَ الخيِّرَ يصبغُ كُلَّ الموجوداتِ بصبغتِهِ الطَّيِّبة”. لا عجبَ في أن لا تستمرئ السَّواد الأعظم من فلسفة شوبنهاور التَّشاؤميَّة، وبالأخصّ، الجانب المتعلِّق بأخلاقيَّات الاستكانة، والتَّخلِّي عن التَّمسُّكِ بحبائل السَّعادة، إذ على الرُّغم من أنَّ شوبنهاور جعل من “التَّسليم” عنواناً عريضاً لأدبيَّات التَّشاؤميَّة، إلَّا إنَّها توحي بالقنوط أكثر من التَّسليم. وعلى النَّقيض من ذلك، ثمَّة الكثير ممَّا يمكن أن يقال بشأن الأدبيَّات التَّفاؤليَّة التي تدعونا للنَّظر إلى النِّصف الملآن من الكأس، وتحذِّرنا من التَّحديق المطوَّل في ما اصطلح عليه شوبنهاور بِـ “الجانب المُريع للحياة” مخافةَ أن نفقد الأمل، وتتَّشح أفئدتنا بالسَّواد، وكذلك، خشيةَ أن تخبو جذوة الخير واللُّطف والبهجة في نفوسنا. توصينا الأخلاقيَّات التَّفاؤليَّة بالاستبشار، حتَّى في أحلكِ الأوقات، الأمر الذي لم يأذن به شوبنهاور، ومع هذا، تجدُ طائفةً من التَّشاؤميِّين تعمل بهذه الوصيَّة. إنَّ الرُّؤية التَّفاؤليَّة آنفة الذِّكر هي بالضَّبط ما انتهى إليه تشومسكي، مرجِّحاً كفَّة التَّفاؤل على حساب كفَّةِ اليأس. ولكن السُّؤال الذي يطرحُ نفسه في هذا المقام، هو ما إذا كانَ تشومسكي مُنتصراً للتَّفاؤل، أم للأمل. ومن ثمَّ، هل يقف الأمل على طرفي نقيضٍ من التشاؤم؟ ألا يمكنُ أن نُحصِّلَ حالةً من التشاؤمية النَّابضة بالأمل،  تماماً كما يقترح جون غراي (الأمر الذي يبدو لكثيرين وكأنَّه نوعٌ من الطِّباقِ اللَّفظيّ والسُّلوكيّ)؟ وهل بِمقدورِ هذي الرُّؤية، أي: التشاؤمية المُفعمة بالأمل، أن تفي بذات الأغراض التي اجترحَ تشومسكي رؤيته التَّفاؤليَّة لأجلها، أو حتَّى أن تؤدِّيها بصورةٍ أمثل؟ أي نعم، بمقدورها، لا بل وينبغي لها ذلك. صحيحٌ أنَّ جعلَ التشاؤمية والقدريَّة المُذعِنة وجهان لِعُملةٍ واحدة مُغالطةٌ فادحة، إلَّا أنَّ التوجُّسَ الحاصِلَ إزاء هذا الاختزال وجيهٌ ومشروع. ولطالما جاهر تشومسكي بهذا القلق بملءِ فِيْهِ، مُشيراً إلى أنَّه إذا تمكَّنت القناعة القائلة بمآل الأمور إلى الحضيض من قلوبنا، سوف تخرُّ قِوانا، ولن نُحرِّكَ ساكناً. كما ذكرْتُ آنفاً، ليسَ هذا مقصدَ التَّشاؤميَّة، ومن يفهمْها حقَّ الفهم، يعي ذلك جيِّداً. لا يمكن إغفال البُعد الأخلاقيّ للفلسفة التشاؤمية، حتَّى في أكثر فروعها تطرُّفاً، والذي ينحو منحى التَّسليم والاستعفاء (مدرسة شوبنهاور)؛ إذ يكفينا من الأخير أنَّه جعل من إدراك شموليَّة المعاناة الإنسانيَّة حافزاً للالتزام الأخلاقيّ بتقليص تلك المعاناة، قدر المُستطاع. وإن دلَّ ما سبق على شيء، فهو يدلِّلُ على الدَّفق الأخلاقيّ العارم الذي تجيش به هذي الفلسفة. لا تردعُنا التشاؤمية عن الانغماس بالنَّشاطات الأخلاقيَّة والسِّياسيَّة، بل على العكس، تحثُّنا على ذلك. الأهمُّ ممَّا سبق، إنَّ الارتياب الذي عبَّر عنه تشومسكي بخصوص النَّزعة الجبريَّة الخانعة التي تنطوي الفلسفة التَّشاؤميَّة عليها، هو سيفٌ ذو نصلَيْن، حيث يضرب النَّصل الثَّاني الفلسفة التَّفاؤليَّة، لكأنَّها رميةٌ من غيرِ رامٍ. فمثلما أنَّ التَّشاؤمَ يثبِّطُ من عزيمتنا، كما يُقال، فكذلك التَّفاؤل المفرط الذي يجعلنا على قناعةٍ حتميَّةٍ بوجود الضَّوء في آخر النَّفق، وبأنَّ الأمور ستنحو باتَّجاه الأفضل، مهما فعلنا، سينتهي بنا إلى التَّقاعس والتَّواكل. فمثلاً، علامَ التَّخوُّف بشأن التَّغيُّر المُناخيّ، ما دامت هذي المشكلة المعقَّدة ستؤول إلى الحلّ من تلقاء نفسها في نهاية المطاف، وطالما أنَّ ركبَ التَّقدُّم سيواصل مسيرَهُ؟ كيف لهذه النَّظرة أن تكون أكثر جدوى تحفيزيَّة من نظيرتها التي تأخذ الخطر النَّاجم عن تلك الكارثة على محمل الجدّ، و ترى في القلق موقفاً عقلانيَّاً ذا وجاهة؟ واقعُ الحال هو أنَّ في كلتا النَّقيضتَيْن المذكورتَيْن أعلاه إجحافاً بحقِّ النَّزعتين، التَّشاؤميَّة والتَّفاؤليَّة، على حدٍّ سواء.

نُعاود القول بأنَّ المُحرِّك الأخلاقيّ يُشكِّلُ صُلبَ هاتين الفلسفتين: فكلتاهما ذاتُ توجُّهٍ واحدٍ، يتمثُّلِ في جعلِ المعاناة الإنسانيَّة ذات جدوى، و كذلك في تزويد النَّاسِ بالأمل، وتعليل النُّفوس المعذَّبة بالمواساة والسُّلوان، أو على الأقلّ، محاولة الارتقاء بحال الإنسان ما أمكن ذلك. يكمن وجه الاختلاف بين النَّسقين في المرجعيَّة الأخلاقيَّة المُفضَّلة لِكُلٍّ منهما. لنأتِ على ذكر موضوع التَّغيُّر المُناخيّ مُجدَّداً، حيثُ يعتقد التَّفاؤليُّون أنَّ البشريَّة ستتحفَّز للتَّصدِّي للمشكلة، إذا ما استلهمت من محطَّاتها النَّاجحة، من مثلِ التِّقنيَّات المُتجدِّدة، و الإمكانات البشريَّة الجبَّارة والمؤهَّلة للتَّغيير والإبداع، بعيداً عن التَّمعُّن الطَّويل بمُسبِّبات المشكلة، لأنَّ من شأن ذلك أن يصيبنا بالإحباط. بينما في المقلب الآخر، يرى التَّشاؤميُّون أنَّه من موجبات الموضوعيَّة والإنصاف الإضاءة على الويلات والشُّرور (والكوارث المُحدِقة المُحتمَلة، كذلك الأمر)، حيثُ أنَّ الوعي بالوقائع المُزرية للعالَم هو بالضَّبط ما سيحملنا على الانبراءِ لمحاولة إيجاد فارق نوعيّ في مجريات الأمور. يتمحورُ الشِّقاق إذن حول أيٍّ من الرُّؤيتين تشكِّلُ حجرة عثرة في سيرورة الإنسانيَّة: التَّأكيد المُفرط على أهليَّتِنا وبراعتِنا، أم على تقصيرِنا ومواطنِ عجزنا؟ لطالما نجمَ التَّوتُّر الحاصل بين الرُّؤيتين، التَّفاؤليَّة والتَّشاؤميَّة، وعلى امتداد العصور، عن المُقتضيات المُتضاربة لتوجُّههما المزدوج: نحو الأمل والعزاء في آنٍ معاً. فمن ناحية، حريٌّ بنا أن نفِيَ المعاناة الإنسانيَّة حقَّها، من خلال تناول جسامتِها بإنصاف، وفي حالٍ كهذه، لا بُدَّ من تبنِّي أدبيَّات العزاء والمواساة، كما يرى التَّشاؤميُّون. ومن ناحية أُخرى، فإنَّ اجتراحَ منظورٍ من شأنه أن يفغر الباب واسعاً أمام إمكاناتٍ ورؤىً مستقبليَّة مشرقة، لَمسؤوليَّةٌ ينبغي الاضطِّلاع بها، ولن نقدرَ على ذلك ما لم نعتصم بحبل الأمل، وفقاً للتَّفاؤليِّين. إلى يومنا هذا، ما فتىءَ هذا التَّوتُّر يضطَّرم ويحتدم مِراراً وتكراراً، أكان في الأدب، أم في تاريخ الفلسفة. سآتي، في هذا السِّياق، على ذكر مُقتبسَيْن اثنين، أحدهما ينضح بالرُّوح التَّفاؤليَّة، بينما يجيش الآخر بالزَّخم التَّشاؤميّ. يقعُ المُقتبس الأوَّل في خواتيم رواية (تولستوي– Tolstoy) (الحرب و السِّلم- War and Peace) ، حيث يستحضرُ (پيير- Pierre) ماضيه الذي ينوء بالنَّوازل والمشاقّ، لا بِقصدِ استحقار واستنكار ما قاسى، وإنَّما بهدفِ تضمين تلك المحطَّات الأليمة في سرديَّةٍ جامِعة ملؤها الأمل والمعنى: “يُقال إنَّ المعاناة من فواجع الأقدار.” ردَّدَ پيير. وأردفَ مُعقِّباً: “ولكِنْ، لو بادرني أحدهم، في توِّنا هذا، بالسُّؤال فيما لو كانت تحدوني الرَّغبة في أن يعود بي الزَّمن إلى الحال التي كنْتُ عليها قبل وقوعي بالأسر، أو أن أتجرَّع ذات الكأس المُرِّ خلف القضبان الموصدة، لأجبْتُ في الحال: حُبَّاً باللَّه، أعيدوني إلى غياهب المُعتقَل كَرَّةً أُخرى، و لِيكُنْ لحمُ الخيلِ قوتاً لي. نخالُ أنَّه ما إن تجرِ الرِّياحُ بما لم تشتههِ سفنُنا، ستتوقَّفُ عجلةُ الحياة بنا، مُتناسين أنَّ وراءَ كُلِّ محنةٍ، ثمَّة مِنحة. فالسَّعادة ممكنة، ما دامت الحياة، وأبواب الفرص مُشرَّعة أمامنا، ما بقيت الحياة تدبُّ في أوصالنا”. لا يُساوِرُني شكٌّ في أنَّ ما قيلَ على لسانِ بطلِ رائعةِ تولستوي، يموج بالحصافةِ والحكمة، لكنَّ ذلك لا يمنع من لزوم مُعاينة هذا القول بحيطةٍ وحذرٍ بالغَيْن، إذ لا يصحُّ حملُهُ على العموميَّة. إنَّ اجتراحَ “الخِيرةِ والبداياتِ الجديدة” من لظى العناءِ والمأساة، لهو صنيعٌ جليلٌ، حقَّاً. فلا أروعَ من الاعتبار من دروس الحياة، التي من شأنها أن تصقل شخوصنا، وتسمو بذواتنا. وفي معرضِ الحديثِ عن قيمةِ الحياة، ففي إمكانيَّةِ إحالةِ الصِّعابِ إلى جسرِ عبورٍ نحو وجهاتٍ أفضل، ما يجعلنا نؤمن أنَّ على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة. حقٌّ على من حُبِيَ هذا الاستحقاق أن يكون ممتنَّاً، ولكن، قد تكون بعضُ الخُطوبِ والعقباتِ جسيمة إلى حدٍّ تُضارِعُ به إرادتنا. إذ ليسَ كلُّ ما لا يفتكُ بنا، يجعلنا أقوى، ولا تودي بنا كلُّ الطُّرق المُعبَّدة بالشَّقاء والوصب إلى انفراجاتٍ تُنسينا ما قاسيناه، وكذلك الحال، لا تُنضِجُنا جميعُ التَّجاربِ التي نمرُّ بها. فثمَّة تجربة تهشِّمُنا، بينما تضيق بنا سبلُ الحياة إبَّان اكتوائنا بنيرانِ تجربةٍ أُخرى، وهنالك تجاربُ كثيرة تحول بيننا وبين مواصلة مسير الحياة نحو محطَّاتٍ جديدة، فتجعلنا “غرباءَ عن أنفسنا”، وفق تعبير (هيلاري مانتيل- Hilary Mantel): “التَّغيُّر طوعُ أيدينا جميعاً. في أيِّ لحظةٍ من الزَّمن، يمكن لأحدنا أن يتغيَّر باتَّجاه الأفضل؛ أُومِنُ بذلك. لكن، هنالك حقيقةٌ لا مفرَّ منها، مفادها أنَّنا قد نغدو غرباء عن أنفسنا، في غفلةٍ من الزَّمن، نتيجةَ سقَمٍ قد يصيبنا، أو حادثةٍ قد نتعرَّضُ لها، أو بليَّةٍ قد تنزل بنا، أو حتَّى نتيجة نزوةٍ هرمونيَّة”. اقتبسْتُ الكلمات أعلاه من مذكَّرات الكاتبة البريطانيَّة هيلاري مانتيل، والموسومة بِـ (التَّخلِّي عن الشَّبح- Giving up the Ghost)، وهو ذا المقطعُ الثَّاني الذي أردْتُّ الاستشهاد به، والذي يُناقضُ تفاؤل تولستوي المُضمَر، حيثُ يواجه بطل روايته -بيير- الدُّجى بفتيلٍ من نور، على العكسِ من مانتيل. يتقاطع تشاؤمي الخاصّ، إن جازت تسميته بذلك، مع هذه الجزئيَّة بالتَّحديد، حيث أشاطر مانتيل رأيها، لا بل أُضاهيها فيما ترمي إليه، أعني أنَّ طريق السَّعادة موصَدٌ بالفعل بوجه طائفةٍ من النَّاس، وأنَّ بعض التَّجارب تسلبنا ذواتنا، وتجفِّف منابع الفرح بدواخلنا، وتسدُّ علينا مطالع النُّور والخير. إنَّ التَّسليم بهذه الحقيقة لا يعني البتَّة فقدان الأمل، أو هجران أولئك الذين نالت منهم يد القدر، بما في ذلك أنفسنا نحن، بل يعني وجوب الاعتراف بأنَّ الخسارة شطر من شطور الحياة، وللبعض نصيب منها لكونه على قيد الحياة. تكمن الطَّامَّة الكبرى إذن في إسباغ الأوصاف المُطنبة بتفاؤلها على كلٍّ من واقع الإنسان ومقدرته على التَّخطِّي والازدهار مجدَّداً، كأن يُقال بأنَّ النُّهوضَ محض اختيار، وبأنَّه ملكُ يمين الإنسان، ففي ذلك تجنٍّ وتعسُّفٌ فادحان. جديرٌ بالذِّكر أنَّ الأخلاقيَّات والأدبيَّات التَّفاؤليَّة قد لمع نجمها في العصر الحديث، حينما جُعِلَتْ مرجعاً لما يُعرف بِـ “الحلم الأمريكيّ”، وعليه، باتَ حِلَّاً للأمريكيِّين، وحقَّاً عليهم، كذلك الأمر، أن يحقِّقوا ما يصبُون إليه، إن هم أرادوا ذلك؛ تذكَّرْ أنَّ “سعادتَكَ مسؤوليَّتُكَ وحدك”، وشيئاً فشيئاً، انتشرت روح التَّفاؤل في الثَّقافة الشَّعبيَّة، كانتشار النَّار في الهشيم، لا بل وصل زخمُها إلى العديد من التَّيَّارات الرَّوحانيَّة الجديدة، التي ذهب بعضها إلى حدِّ جعل نوائب الدَّهر، ومسرَّاته، وعِلَلِه، جزاءً لِما كسبت أيدينا، وبالتَّالي، تنبع مصائبُ الإنسانِ من نفسِهِ، ولا شأن للقدَرِ في ذلك، على عكسِ ما كان يُعتقَدُ في زمانٍ خلا. إذاً، ففي دستورِ تلك “الفلسفات”، لن يصيبنا شيءٌ، ما لم نجذبه إلينا. من المُفارقة بمكان أنَّ هذه الأفكار تتناسب بكلِّ أريحيَّةٍ مع القوالب الافتراضيَّة لمواقع وتطبيقات التَّواصل الاجتماعيّ، نذكر منها تطبيق الفيس بوك، حيث يُفترَضُ بنا (أو لِنقُلْ: ينبغي علينا) أن نظهر على هذه المنصَّات، والسَّعادة تنهال من قسَماتِ وجوهنا، فلا يرى الآخرون سِوى جانبنا المشرق، بصرفِ النَّظر إن كان هذا الجانب حقيقيَّاً، أو كان ممكناً بِالنِّسبة لنا. وهكذا، قد يمضي بنا الحال لِأن نُرغَم على التَّفاؤل، في حالِ أُسيءَ فهمُ مقصدِه، فيصير تفاؤلاً بالإكراه. أي نعم، قد تغدو الفكرة القائلة بأنَّ السَّعادة طوعُ بنانِنا مَعيناً يستقي منه البعض الأمل، لكنَّ هذا لا يُحيلُها بأيِّ حالٍ من الأحوال إلى دعوةٍ عامَّةٍ للأمل. فما إن تكتسِبْ هذه الفكرة سطوة الإلزام، حتَّى يطفو جانبها المُوحِش، فتُمسي نيراً يُثقِلُ كاهل الإرادة. وليس من قبيل المُصادفة أنَّ يحتجَّ الرَّعيل الأوَّل من فلاسفة التَّشاؤم بحدَّة على ذات الفكرة؛ قد يشحذ هممَنا بالأمل القولُ بأنَّنا مسؤولون عن مُعاناتنا، شأنها شأن سعادتنا، لكن أبداً لن يُعزِّينا ذلك، أو يسلو عنَّا. منذُ أشهُرٍ قليلة، وبينما أنا متواجدةٌ على أحد الشَّواطىء الاسكتلنديَّة، مررْتُ بمقعدٍ عُلِّقَتْ به بالوناتٌ سوداء اللَّون. كان المقعدُ فاغراً، إحياءً لذكرى فتىً فارق الحياة قبل سنةٍ من ذاك اليوم، وقد افترشت سطحه الأزاهير، وحفنةٌ من الأوراق المُضمَّخة بأسماءِ مئاتِ الأفراد، مُرفقةً بأعمارهم: أحدهم يبلغ من العُمْرِ خمسة عشر ربيعاً، وآخرُ يكبرُهُ بِسَنة، ومنهم من كان في الواحدة والعشرين من عُمُرِه، بينما أُتبِعَ اسمٌ ما باثنتَيْن وثلاثين سنة. وأمَّا الصَّفحة الأولى، فقد رُوِّسَتْ بملاحظةٍ سُطِّرَتْ بخطِّ اليد، حوَتْ عدَّةَ أخطاءٍ إملائيَّة تُلامِسُ شغافَ القلب؛ فحوى هذه الملاحظة أنَّ الأسماء المُدوَّنة تعودُ لأشخاصٍ قضَوا نحبهم انتحاراً، وعليه، يوصينا كاتبُها بالآتي: “لِتَكُنْ لطيفاً مع الآخرين. ولتغمُرْ أحبَّاءكَ بِدثارِ عنايتِك. لا ضيرَ إن لم تكُنْ بخير”. تزخر تلك الملاحظة بأخلاقيَّات الفلسفة التشاؤمية في أقوى وأصفى وأنقى تجلٍّ لها، حيثُ تشكِّلُ العبارة الأخيرة لوحدِها عِمادَ هذي الفلسفة: “لا ضيرَ إن لم تكُنْ بخير”. إنَّ في وصلِ المعاناةِ بإرادتنا ما من شأنه أن يزيد من وطأتها، فتصير معاناةً مَشُوبة بجلد الذَّات والإحساس بالذَّنب.

لا أروعَ من أن تعيشَ حياةً ملؤها الدَّهشة والمعنى والبهجة، فتلكَ نِعَمٌ تستوجِبُ الامتنان حقَّاً. ولكِنْ، لا ينبغي أن تعمي السَّعادة أبصارنا وبصائرنا عن إدراك هشاشة الحياة، والفرح، بل وحتَّى الخير، وحذارِ من أن يُنسينا رغدُ العيش أمرَ من لم ينلْ قسطه الوافي من الحظّ، والرَّفاهة، والحُبّ؛ أولئك المعذَّبون في الأرض، الذين يعيشون بين ظهرانينا، ويسيرون بجانبنا. للظُّلم حصَّةٌ في هذي الحياة، وعليه، فإن إدراك هذه الحقيقة يجب أن يكون حاضراً في أدبيَّاتنا وتعامُلاتنا وتجربتنا الإنسانيَّة المشتركة؛ تلك هي رسالة الفلسفة التَّشاؤميَّة، التي لا تُجيزُ لنا إطلاقاً أن نغضَّ الطَّرْفَ عن الوجه “الرَّهيب” والمُعتِم للحياة. ومن هُنا، تبزغُ أهمِّيَّة الرَّحمة، بوصفِها درَّة التَّاج في المنظومة الأخلاقيَّة للتَّشاؤم، التي لا ترومُ التَّصادم والتَّناكف مع نظيرتها التَّفاؤليَّة، بل التَّعاضد والتَّكاتف معها، باعتبارها صِنواً وشريكاً لا محيدَ عنه. نستلهم في هذا المقام ممَّا خطَّه شوبنهاور ذات مرَّةٍ، قائلاً بأنَّه لا ينبغي أن نلقي على بعضنا التَّحايا، مُستعينين بألقابٍ من قَبِيل “سيِّدي” أو “سيِّدتي”، وإنَّما علينا أن نستعيض عنها بالأوصاف التَّالية: “زميلي في المُعاناة” و “شريكي في البؤس”. خِتاماً، بينما يُؤثِرُ تشومسكي التَّفاؤل على القنوط، أرى أنَّهُ من الأجدى لنا أن نُؤثِرَ الأمل على التَّفاؤل. إن يكُنِ التَّفاؤل إصراً ثقيلاً تنوء به الإرادة، واستهانةً بواقعِ الخراب الجسيم الذي يلحق بالعالم وبأنفسنا، أليسَ من الأنجى الاستزادة من المَعين الأخلاقيّ للفلسفة التَّشاؤميَّة؟ وهَبْ أنَّ الاستغراق في التَّشاؤم قد يجعلنا على شفا حفرةٍ من الخنوع والاستسلام، ألَنْ يعيننا التَّجمُّل بالأمل على ردمِ هذي الحفرة؟ أوَليسَ بإمكاننا جني الثِّمار اليانعة من كلتا الشَّجرتين، التَّفاؤليَّة والتَّشاؤميَّة، ما دامتا تبسُقان صوب سماءٍ واحدة؟ ما المانع إذن من أن نتلمَّس طريق المستقبل، مُهتَدِين بمنارةٍ فلسفيَّة، نواتها: التشاؤم المُفعم بالأمل؟

مصدر الترجمة

إعلان

مصدر مصدر الترجمة
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أسماء رضوان

ترجمة: زينب شاهين

اترك تعليقا