التمرّد في فلسفة ألبير كامو Albert Camus قيمة الـ (لا)!

إن التمرّد بالمعنى الاشتقاقي، يبدّل موقفه فجأةً. لقد كان يسير تحت سوط السيد، فإذا به يقف موقف المجابهة ويقابل بين ما هو مفضّل وغير مفضّل. صحيح أن كل قيمة لا تولّد الـتمرّد، ولكن كل حركة تـمرّد تستدعي ضمنيًا وجود قيمة. فهل نحن على الأقل بصدد وجود قيمة؟” [1] صـ 19

يُقدِم الفيلسوف ألبير كامو (Albert Camus 1913-1960) في كتابه (الإنسان المتمرّد ) على مناقشة القيمة المولودة من التمرّد، ويطوّر بذلك أيضًا فلسفته العبثية عن شكل التمرّد وماهيته، ليخوض في (تمــرّد الـ نحن) ومعالمها الوجودية والتاريخية. نتابع في هذا المقال رؤية كامو للإنسان المـتمرّد وبعضَ الآراء النقدية والتحليلية

قدَّم الفيلسوف الوجوديّ البير كامو (Albert Camus 1913-1960) في عمله (أسطورة سيزيف) أولى أشكال العبثية والتمرّد في فلسفته، وهي تمرّد الفرد ضد العبثية ليصنع معنى لوجوده، ويطوّر كامو من فلسفة العبث والتمرّد تلك لتظهر في كتابه (الإنسان المتمرّد) بشكلٍ أكثر اتساعًا، فينتقل كامو من الـ أنا متمـرّد/أثور إلى الـ نحن/نثور. ويتخذ في (الإنسان المتمرّد) خطوة تشغل معظمَ الكتاب، وهي تطوير مفهومه عن التمرّد التاريخي والميتافيزيقي مقابل مفهوم الثورة، وهذا من خلال تطبيق موضوعاته الفلسفية مباشرةً على السياسة في السنوات التي أعقبت تحرير فرنسا عام 1944 [1].

يقول كامو:

“لن نستشط غيضا هنا؟. فهدف الدراسة، ونكرر القول، هو قبول واقع الحال، ونعني الجريمة المنطقية، وأن نفحص مبرّراتها؛ إنني أبذل جهدي هذا في سبيل فهم زماني. لعلّنا نعتبر أن عصرا شرَّد أو استبعد أو قتل سبعين مليون نسمة خلال خمسين عامًا، يستدعي فقط وقبل كل شيء أن يحاكم” [2]. صـ 8

التمرّد وشرط الـ (لا)، ما الإنسان المتمرّد حسب فلسفة كامو؟

إنه الإنسان الذي يقول: لا. فالعبد الذي ألِف تلقي الأوامر طيلة حياته يرى فجأة أن الأمر الجديد الصادر إليه غير مقبول، وإن هذا الـ (لا) تؤكد وجود حد ضد سطوة الآخر. بالتالي إن حركة التمرّد تستند على وجود حد ضد تمادي اضطهاد الآخر، ولا بد للمتمرّد أن يكون مقترنًا بشعور ما أنه على حق في تمـرّده، بصورة ما ومجالٍ ما، ويبيّن بعناد أن هناك داخله شيءٌ ما يستحق أن يطالب به وأن يصونه من خلال هذا الـ (حد). أي من خلال هذه الـ (لا) [2]. صـ 18

إعلان

يجادل كامو بإسهاب لإظهار التمرّد في عصره أنه أكثر من مجرّد فعل فردي، أو احتجاج ثوري منفرد، بل يرى أن المتـمرّد يندفع من مصلحة عامة أهم من مصيره وأن هناك حقوقًا أهم منه كفرد، كما يسعى لتحقيق حدود جماعية من خلال تـمرّده؛ أن يتصرّف بـ “اسم قيمة معينة لا تزال غير محددة ولكنه يشعر أنها مشتركة بينه وبين جميع الناس”، وبذلك تكون الثورة الحقيقية من وجهة نظر كامو ليست فقط من أجل الذات بل أيضًا بدافع التضامن مع الآخرين والتعاطف معهم. وبالتالي إن الثورة لها (حدود) مشتركة تنطلق لكسرها أيضًا مثلما المتمرّد له (حد) يناهض سطوته [3].

إن فكرة التمرّد كما يطبقها كامو هي محاولة لتفسير تيار عصره والانفلات من كل الحدود المحيطة به، ويعرَّف التمـرّد في انفلات الحدود هذا بنزعة رفض المرء لما هو عليه، إذ يعرّف كامو التـمرّد: “الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرفض أن يكون ما هو عليه [2] صـ 16”. والمعنى موجود في كل تجربة إنسانية، ومن هذه التجارب الإنسانية هو الرفض، أي قول الـ (لا) تمرّدًا من الإنسان لما هو عليه سعيا منه لإضافة معنى على وجوده وحكما في الوجود. [5] صـ 111-112

التمرّد الميتافيزيقي، في نقد مقدمات تـمرّد كامو

يشرح أستاذ الفلسفة فؤاد زكريا التمرّد التاريخي الميتافيزيقي عند كامو بأنه ليس تمــرّد العبد على سيده، ولا تـمرّد الفقير على الغني، بل إن (التمرّد الميتافيزيقي) هو تمرّد الإنسان على وضعه وموقفه الإنساني ذاته، أي على أوضاع الإنسان وعلاقته بالكون، وهو نوع من الفردانية لكن على مستوى البشرية أجمع، وهذا النوع المعاصر من التمرّد الذي يشجّع على الثورة، إنه يشجّع أيضًا على الجريمة ومظاهر القسوة والتنكيل والقتل (الجريمة المنطقية حسبَ كامو؛ راجع الاقتباس في بداية المقال)، والتي بلغت قيمتها في الفاشية والنازية. وينتقد د.فؤاد زكريا تيار كامو هذا في مقالته (الثورة والتمرّد عند ألبير كامي)؛ أن ادعاء كامو بأن زمن تمـرّد الفرداني، أي العبد والسيد، قد انتهى وحل مكانه التمرّد الميتافيزيقي، هو مقدمة فلسفية خاطئة حسب رأيه، إذ أن تمـرّد الثورة يبدأ من تمـرّد العبد على سيده وهو الشكل الرئيسي للـتمرّد في كل العصور

كما يقول د.زكريا في نقد كامو، أن التمرّد التاريخي الميتافيزيقي الذي قدّمه كامو، أي تـمرّد الإنسان على وضعه ومركزه في الكون، هو مقدّمة فلسفية خاطئة أيضًا، فقد كانت دواعي هذا النوع من التمرّد منذ أقدم العصور قائمة على الدوام وليس من عصر كامو، ويعلّل ذلك بأن وضع الإنسان من الوجه الميتافيزيقية لم يتغيّر في شيء منذ ظهور أولى أشكال الوعي الإنساني، وإذا كان هذا التمـرّد قد ازدهر بصورة خاصة في عصر كامو فلا بد أن ذلك راجع لأسباب غير ميتافيزيقية، مستدلاً بأمثلة تاريخية، أي أسباب تتعلّق بطبيعة الحياة في القرنين الأخيرين على وجه التحديد [4] صـ 375-376

يجد كامو أن الإنسان الأوروبي عمل في مهمة تحقيق المِثَل المناهضة لعدم المساواة بين البشر وانحلال العدل في المجتمع، إلّا أن تحقيقها كلّفه إراقة الدماء، وبذلك استخدم البشر التجريدات والخطابات الفاضلة لتبرير أفعالهم؛ يجد كامو هذا محزنًا، ويقف موقف النقد والرفض له، ويقول أن على البشر التوقف عن إراقة الدماء تحت تبرير التمرّد، بل عليهم تكريس أنفسهم للحفاظ على كرامة البشرية في حدود الحفاظ على حياة الإنسان [6] صـ 19.

المراجع:

[1] https://plato.stanford.edu/entries/camus/
4.1
[2] كامو، ألبير. (1983). الإنسان المتمرّد. ترجمة: رضا، نهاد. (ط.3). بيروت-باريس: منشورات عويدات. صـ 8، 16، 18
[3] https://iep.utm.edu/camus/#SSH5cii
Revolt
[4] زكريا، فؤاد. (2017). آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة. (ط.1). مؤسسة هنداوي سي آي سي. صـ 375-376
[5] مكاوي، عبد الغفار. (1964). ألبير كامي.. محاولة لدراسة فكره الفلسفيّ. (ط.1). مصر: دار المعارف صـ 111-112

إعلان

اترك تعليقا