الانتحار والطب النفسي

اليوم نتحدَّث عن الحياة. لم أكتب منذ فترةٍ طويلة، وعدتُ فقط لأنّني شعرتُ حقًا أن لديّ ما أقوله، وأنّني ربما أساعد شخصًا ما.
انتحر صديقُ صديقي!. يومٌ مشمِسٌ وليلةٌ لطيفة، نسماتٌ باردة بعض الشيء، وغدًا إجازة، لكن صديق صديقي انتحر.

لماذا؟ لأشياء كثيرة؛ ربما لأن ّالحياةَ لا معنى لها على الإطلاق، وأن سعينا الدؤوب فقط لا طائل منه، وربما لأنّه كان يحتاج إلى المساعدة فلم يجدها، ولم يعرف حتّى كيف يطلبها أو ممّن، وربما –وهو على الأرجح التفسير المناسب- لأنّه أراد متنَفسًا فقط، أراد للألم أن يتوقّفَ بكلِّ بساطةٍ.

نحن -شعب مصر العظيم- لا نعترفُ أبدًا بالألم النفسي مهما كان سوؤه، أو أنّنا حقًا لا ننتظر الكثير من الطب النفسي، لدينا معه ذكرياتٍ سيئة، وواقع أكثر سوءًا. فجميعنا لدينا قريب أو حتى فرد من العائلة لديه مرض نفسي ما، ولا أظنُّ أنّ رحلةَ العلاجِ كانت مُشجِّعَة لأيٍّ منّا لخوض مثلها. الأمر أنّه قد خُذِلنا أكثر من مرةٍ من الطبِّ النفسي، وأنني أُدركُ تمامًا لِمَ يخشاه الناسُ ويفكّرون به كحَلٍّ أخير.

خَذَلنا الطبُّ النفسي كثيرًا، خَذَلنا حتى صِرنا نتمنّى الموت بل ونسعى للحصول عليه. هل هناك خذلان أكثر من أن تنتصر رغبتك في التخلُّص من الألم على رغبتك في الحياة نفسها؟

الصدمةُ والغضب، كان ذلك ما شعرت به عند سماع الخبر. الغضب لأنّ هناك نسخة ما من الواقع لم يعرفها ذلك الشاب، والأمَرّ من ذلك أنّه لم يكن ليعرفها غالبًا حتى لو عاش للستّين.
الغضب لأنّه كان بإمكان الأمور أن تكون أكثر بساطة وأقل سوداويّة، ولأنّه كان بإمكان العالم أن يكون مكانًا أفضلَ.

 

إعلان

كان بإمكان ذلك الشاب الذكي المرح كثير الاطّلاع أن يستمرَّ في التواجد، وكان بإمكان روحه المليئة بالفنون وعقله المليء بالأفكار الاستمرار في التأثير في عالمنا.

كان بإمكانه فقط الاستمرار في عمل أخطاء جديدة، واكتشاف العالم، وربما حتى جعله مكانًا أفضل، أو أسوأ، لا أدري.

بحرٌ من الاحتمالات لن نعرِفَ عنه أيّ شيء؛ فقط لأنّنا نمتلك نظامًا نفسيًا سيّئًا. ونسخةٌ كاملةٌ من الحياة لن يعرفها، ولم يكن لديه أيّ فرصةٍ لأن يعرفها.

هل أهين الطب النفسي؟ لا أظن، لكنّني بالتأكيد لا أحترم أيَّ شخصٍ لا يجيد مهنته أيًا كانت. هذا الشاب كان يستحق فرصةً، لقد كان حقًا يستحقّ طريقًا خارج الألم، كان يستحق عنايةً طبيةً أفضل، كان يستحقّ أن يعرِفَ أن لألمه نهاية.

نحن مرضى، وكلما اشتدَّ علينا الألم فكّرنا في إنهاء حياتنا نفسها؛ لأن الألم -أقولها وأعنيها- حقًا لا يُحتَمَل. وأنا أعلم ذلك؛ لأنّني كنت هناك، كنت في تلك البقعة، ربما أقل إيلامًا، ربما أقل تأثيرًا، لكنّني فكرت في الانتحار كثيرًا، حتى أنني كنت أخشى الإقدام عليه دون أن أعي بذلك. أحداثٌ مختلفة هي التي دفعتني لتجربة العلاج النفسي، عندما لم يعد لديّ أيّ خِيَارٍ آخر، لكنّني ممتنة للصدفة التي جعلتني أزورُ طبيبًا نفسيًا مؤهّلًا، وربما علينا التشديد على كلمة “مؤهّل”؛ لأن الطبيبَ النفسيّ قادرٌ على جعل حياتك جحيمًا إذا لم يكن مؤهَّلًا. ولديّ في ذلك خبرات من بعض الأصدقاء، لكن لا يتّسع المقال لذكرها الآن، ربما نوفّرها لمقالٍ آخر.

في مرحلةٍ ما، أخبرتُ الطبيبَ: عندما أتيتُ إلى هنا، أتيت بمشكلةٍ واحدة؛ وهي أنني لا أستطيع التوقف عن البكاء. كان أمرًا مزعجًا، وكنت أبكي في أوقاتٍ غير مناسبة، لكن كان هناك دائمًا شيء لم أخبرك به، ربما لأنّني لم أظنّه مهمًّا لهذه الدرجة، وربما لأنني ظننته أقوى من العلاج، لا أدري تحديدًا. كنت أفكّرُ في الانتحار، لم أكن أرغب بذلك، وبالتالي لم أكن أبدًا لأخطّطَ له. لكنّني كنت دائمًا أرصدُ أفكارًا انتحاريةً بداخلي، أشبه بوساوسٍ منها لرغبات، وكأن شخصًا ما بداخل عقلي يأمرني بإنهاء حياتي الآن فورًا. سينتهي كل ذلك الآن، هيّا نغلق الكتابَ الآن، دعينا ننتهي من هذا الفيلم في هذه اللحظة بالتحديد. لم أخبرك أبدًا بهذا، وصِدقًا لا أعرف السبب، ربما لم أظنه شيئًا هامًا؛ لأنني أتعامل معه منذ فترة طويلة. لكن مع استمرار العلاج، توقفَتْ تلك الأفكار عن أن تكون بتلك الحدة، وتوقفتُ عن الاعتقاد أن الانتحار هو النهاية الطبيعية للحياة، توقفتُ عن اعتباره الحل الأوحد للألم، لا أدري لماذا، لكنّني فقط توقّفت.

عقَّب الطبيبُ قائلًا: كنتِ تريدين إنهاء حياتك لأنّكِ كنت تريدين إنهاء الألم، ومع استمرار العلاج، بدأ عقلك بإدراك أن هناك طريق آخر لإيقاف الألم، طريقًا لا يتضمن إنهاء حياتك.

عندما يعرف المحيطون بك أنّك تخضع للعلاج، يقولون أشياء مثل: أنت لا تحتاج للعلاج، تبدو عاقلًا لي، أو تحدّث مع القريبين منك أكثر، أو أسوأ من ذلك يتّهمون مَن حولك بالتقصير في حقّك وهو أمر أراه غريبًا جدًا.

أنت لن تعالج السرطان بالاعتناء بالمريض أكثر، فمهما كانت درجة حبك له عليه أن يخضع للعلاج الطبّي المتعارَف عليه.

أخبرتني صديقتي ذات مرّة أن أختها كثيرة الكذب. أختها فتاة ثورية تعيش في منطقةٍ نائية، تقتلها العادات والتقاليد قتلًا في بيت عائلة يكرهها غالبًا، أو لِنقُل يكره تمرّدها تحديدًا.

اقترحت إحدى الصديقات عليها أن تتقبلها وتتقرب منها وتقدم إليها الدعم النفسي المطلوب. تهاجمُ صديقتي نوباتُ تشنّجاتٍ عنيفة إثر آلام نفسية عميقة لم تُعالَج كما ينبغي، وبشكلٍ ما، لا يزال البعض يظن أنّ مسؤوليها هي أن تعالج مرض أختها النفسي فقط بالمزيد من الدعم والحب.

بالتأكيد أخبرتُها بأنّ أختها تحتاج إلى مساعدةٍ طبية، وأن ذلك هو أملها الوحيد، وأن الدعم النفسي ليس سحرًا، ولا يشفي الأمراض، على غير الشائع عنه. لكن صديقتنا الأخرى اعترضت قائلةً أنّه لا يمكن لكل إنسان لديه مشكلة أن يذهب للطبيب النفسي في تلك اللحظة. لم أستطِع منع نفسي من الضحك؛لأنّه في الحقيقة، قالت الفتاة ذلك دون أن تقصد غالبًا شيئًا بديهيًا جدًا.

كل إنسان لديه مشكلة صحية من أيِّ نوعٍ عليه أن يذهب إلى الطبيب، وتلك هي الحالة المثالية.

أحيانًا يكون هناك تشابه كبير في الأمراض أو تكرارها، كالإنفلونزا مثلًا؛ لذلك لا تجد الكثيرون يذهبون للطبيب عندها. ولكن بعض تلك الحالات النادر منها يُوجِب التوجُّه إلى الطبيب، وربما يدفعون حياتهم ثمنًا لأنهم لم يفعلوا ذلك في الوقت المناسب.

هل نلومهم؟

هل نلوم شخصًا أفقد نفسه حياته بيديه لأنه لم يذهب للطبيب؟

هل نلوم المنتحر؟

عندما كنت أصغر، تشاركنا معًا فرصةً رائعةً للكتابة، كنا نقوم بنشر القصص معًا ومقارنتها ونقدها، نقد أسلوب الكتابة، والفواصل، وطريقة الإلقاء، وجودة اللغة.

كان الأمرُ رائعًا، رائعًا بحقّ، حتى استيقظنا على خبر انتحار إحدانا.

كارثة!

حكيتُ لصديقتي مؤخّرًا أخبِرُها بأن الفتاةَ قد انتحرت لأنها كانت على خلاف مع شخصٍ تحبه وانفصلت عنه. كانت مراهقة صغيرة، لا تعرف أيّ شيءٍ عن الحياة، وقرَّرتْ أنه من الأفضل للعالم أن يتوقف الآن.

عقّبت صديقتي على الأمر بأنّه في مثل هذه المواقف تشعر بأنّك تريد لومَ الفتاة نفسها. عزيزتي لم يكن الأمر يستدعي الانتحار، عودي إلى هنا وسوف نتحدّث، سوف نريك أن الألمَ يختفي بعد وقت، وأنّه ربما هناك شيء ما تريدين حقًا تجربته هنا.

لكنّ الأوانَ قد فات، لقد اختفت، ولم يعد لها وجود. لا يمكنك أن تلومها؛ لأنّها ليست هنا، ولم يعد وعيها يعرف أي طريقٍ للتواصل معنا. لقد انتهى دورها في هذا العالم، حتى أنك لن تستطيعَ إقناعها بأنّه لم ينتهِ بعد، على الأقل في مخيّلتك.

أفهمُ أن العالمَ يدورُ بهذا الشكل، وأنّنا جميعًا تحت رحمة كون قاسٍ له قوانين صارمة لا يخرقها أحد، لكنّني لا زلتُ عاجزة عن فهم طبيعة البشر أنفسهم، والتي تفوق قسوتهم قسوة الكون نفسه.

الكون صامت، فقط صامت. يعطيك مصيبتك ثم يتركك لإدراكها بهدوءٍ، بدون ضوضاء، بدون أصوات غير مرغوب فيها، وبدون آراء لم يطلبها أحد. بعكس البشر، تمُرّ بمصيبتك وسط ضوضائهم وتدخُّلهم وتطفُّلهم الدائم وأفكارهم الموتِّرة والغبية أحيانًا، وعليك أن تحسنَ التصرف، وأن تكون شجاعًا، ولكن ليس كثيرًا؛ كي لا نصفُك بالتهوّر.

في النهاية، سيصف البعضُ تصرُّف ذلك الشاب بالشجاعة، وسيصفه البعض الآخر بالتهوُّر، وربما اتّهمه آخرون بأشياء أخرى. لكنّني أشعر في قرارة نفسي أن ذلك الشاب لم يكن يعرف فقط، لم يعرف أن نسختَه من العالم أتت بكثيرٍ من الألم، ولم يعرفْ أن هناك طرق ما لتقليل ذلك الألم.

ربما تكون فكرتنا عن الطب النفسي سيّئة؛ وذلك لأنّنا لا نسمع عنه سوى قصص الانتحار ومستشفى الأمراض العقلية.

الناجون لا يحكون أي شيء؛ ربما لأنّه لا تزال وصمة عار في مجتمعنا أن تعترف بأنّك تخضع للعلاج النفسي، لكن لو فكّرنا قليلًا، أليس العار هو أن نترك أحبّاءنا ضحيةً للاكتئاب والأفكار الانتحارية والوساوس والقلق؟

أليس العار حقًا أن نعرف في قرارة أنفسنا أن هذا الشخص يحتاج إلى المساعدة، ولكنّنا فقط نخبره بأنّ كل ما يحتاجه هو أن يكون قويًا؟ أليس العار أن ينتحر شاب في مقتبل العمر، فقط لأنّ آلامه لا تُحتَمَل وجراحه لا تُشفَى؟

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: إيمان دياب

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا