نجيب محفوظ بين جدل الإبداع والمقاومة

تتوقف قيمة الأديب- كأديب -على قدرته الإبداعية، وليست على مواقفه أو آراءه السياسية، فمهمة الأدب الأساسية الإمتاع، ومهما ادعى البعض -وأنا منهم- أن الإمتاع وحده لا يكفي كي يكون الأدب عظيمًا، لكن يبقى شرط الإمتاع كافيًا كي يصير الأدب أدباً. لعلّ هذا ما دفع “لينين” إلى وصف “تولستوي” بالأديب الكبير رغم غلبة النزعة الإقطاعية “الرجعية” على الكثير من أفكاره.

هل كان نجيب محفوظ أديبًا مناضلًا؟

مع كثرة استخدام اقتباسات أدب “محفوظ” في المواقف السياسية المحتدمة، خاصة تلك المتعلقة بالاستبداد وتقييد الحريات، ساد تصور ل “محفوظ” بوصفه كاتبًا مناضلًا، طالما كانت له رؤىً تقدمية ومواقف سياسية مساندة لمبادىء الحرية وقيم العدالة الاجتماعية، عبّر عنها بكتاباته التي نقدت كل العصور، وكيف لا؟ وهو صاحب روايات: القاهرة الجديدة، الكرنك، يوم قتل الزعيم، الحب فوق هضبة الهرم، أولاد حارتنا، وغيرها من الروايات التي قدمت نقداً لاذعًا لنظم الحكم المتعاقبة على حكم مصر، والتي اشتركت جميعها في الطابع الاستبدادي وتقييد الحريات وإن اختلفت شعاراتها أو انحيازاتها الاجتماعية.

نعود للإجابة عن سؤالنا الأصلي “هل كان محفوظ أديبًا مناضلًا؟”، الإجابة بوجهة نظري “لا”، وهذا لا يعتبر انتقاصاً من قيمة الأدب الذي قدمه، بل توضيحًا للأمور واستجلاءُ للحقائق.

رهانات المكسب والخسارة

قبل إلقاء الضوء على نهج “نجيب محفوظ” في مواجهة السُّلطة وبالأصح في تعامله معها، أود أن أُفرق بين مفهومين أساسيَّيْن : الفن المقاوم، والفن الجاد؛ فحين نتحدث عن الفن المقاوم فإننا نتحدث عن التعبير الفني بوصفه سلاح، يقاوم به الفنان الموضوع المرفوض بالنسبة له، وليس فقط مجرد تصوير الفنان للمقاومة في عمله الفني؛فمقاومة الشيء تعني مواجهته بما يلزم، وقد يكون ما يلزم سلاحًا، أو كلماتٍ أو حتى اغنية تُلهب حماس الجماهير لتتفاعل مع قضاياها. أما ما اصطلح على تسميته بالفن الجاد فيقصد به التعبير الفني عن قضايا وأفكار يراها الفنان ذات أهمية لمجتمعه، وهنا نأتي لمعيار التفرقة بين المفهومين، وهو وجود قضية تستلزم فعل المقاومة، وبصورة أكثر وضوحًا فكل فن مقاوم هو فن جاد، وليس كل فن جاد هو فن مقاوم، فالقضايا الجادة قد لا ينتج عنها بالضرورة مواجهة ما مع السُّلطة، خاصة إذا ما لجأ الفنان إلى المراوغة أو حتى تقديم تنازلات كي ينجو بعمله الفني من مقصلة الرقابة وبطش السُّلطة.

المتتبع لحياة نجيب محفوظ ورحلته الأدبية يدرك أن الرجل أبعد ما يكون عن تلك الصورة المتَخَيلة له ككاتب مقاوم، بل الحقيقة تبدو عكس ذلك تماما، فقد جاءت بدايات “محفوظ” الروائية بالثلاثية التاريخية : “عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة” والتي قدم فيها نقداً مبطناً للأوضاع الإجتماعية في العصر الملكي ولكن في قالب تاريخي، جنَّبه الصدام مع النظام الملكي في ذلك الوقت، وهو ما أورده في حديث تلفزيوني له في حقبة الستينات حين سُئل عن تحوله من الاهتمام بالتاريخ إلى انشغاله بالواقع الإجتماعي المعاصر، فأجاب: “أنه لم يتخلى أبدا عن اهتمامه بقضايا مجتمعه المعاصره، وإنما قدمها في قالب تاريخي كي يتجنب الصدام مع الملكية وقتئذ”.

إعلان

وبانحدار سلطة النظام الملكي وتداعي سطوته على المجتمع قدّم “نجيب محفوظ” رواية “القاهرة الجديدة”، ورواية “بداية ونهاية”، التي قدم فيهما نقداً لاذعًا للأوضاع الاجتماعية في نهايات العهد الملكي، والمهتم بتلك المرحلة التاريخية يعلم جيداً أن الحقبة الملكية قد دخلت مرحلة الموت الإكلينيكي خاصة بعد نكبة فلسطين في عام 1948 ، ناهيك عن الأحداث الدراماتيكية لعقد الأربعينات التي بشرت بقرب نهاية هذا العهد البائس.

وفي بدايات الحقبة الناصرية في الخمسينيات اكتفى محفوظ بثلاثيته الرائعة “بين القصرين، قصر الشوق، السكرية” وبدرة تاج أعماله رواية “أولاد حارتنا” التي كانت تنشر في شكل سلسلة بجريدة الأهرام ولم يتم استكمال حلقاتها قبل أن تنشر لأول مرة كاملة في لبنان عام 1967.

وفي حقبة الستينات قدم “محفوظ” أعمالًا ذات بعد اجتماعي واضح، وهو ما كان يتماشى مع انحيازات النظام الناصري في ذلك الوقت، تناقش الأوضاع الإجتماعية الظالمة التي تطيح بأبطال رواياته التي مزقتهم ظروفهم القاسية وجعلتهم مذنبين بل ومجرمين في أعين المجتمع، نستطيع أن نتتبع تلك التيمة في روايتي “الطريق، واللص والكلاب” ، بالإضافة إلى روايته الرائعة “السمان والخريف” التي أدانت بشكل واضح الديموقراطية الشكلية التي اتسمت بها الحياة السياسية المصرية في كنف الملكية والاحتلال، عن طريق تناوله لشخصية “عيسى الدباغ”  الشاب الوفدي ذو التطلعات الطبقية التي أطاحت الثورة والعهد الثوري الجديد بآماله حين ثبتت عليه تهمة التربح من منصبه كمدير لمكتب الوزير “الوفدي”.

أريد هنا أن أتوقف قليلًا، فعلى الرغم من الأهمية الفنية بل والسياسية للرواية، إلا أنها تكشف عن الطابع البرجماتي للعقلية “المحفوظية” تلك العقلية التي استطاعت استثمار الأحداث التاريخية الكبرى في حينها وشكلت منها عالمًا إبداعيًا قائمًا بذاته، دون التعرض للاكتواء بنار السلطة، فليس هناك أدل على تلك “البرجماتية المحفوظية” -التي لابد أن أعترف لها بالعبقرية- في عبارة بطل الرواية “عيسى الدباغ” حين قال محاورًا أحد أصدقائه الذي تمنى هزيمة الثورة عقب قرار تأميم القناة:

“الموت أهون من الرجوع إلى الوراء، ولئن نبقى بلا دور في بلد له دور، خير من أن يكون لنا دور في بلد لا دور له”.

أذكر هنا واقعة في لقاء الرئيس جمال عبد الناصر مع المثقفين والمفكرين المصريين وتحديداً في نوفمبر عام 1961 في أحد اجتماعات اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني، حين تطرق الحوار إلى مسألة الديمقراطية، وحينها وقف الكاتب خالد محمد خالد مدافعاً عن فكرة الديمقراطية  كما يراها، وحدث سجال بينه وبين “ناصر” الذي تحدث عن وجهة نظر الثورة في الديمقراطية التمثيلية وكيف أنها تظل حكراً على الأقلية المسيطرة اقتصاديًا بينما تظل الأغلبية من العمال والفلاحين لعبة في يد المال السياسي، نلاحظ هنا أن عبد الناصر تحدث بصراحة عن فلسلفة يوليو وعن قناعاته الشخصية، في وقت كانت تُحكم فيه نصف الكرة الأرضية بفلسفة الحزب الواحد، ويقبع نصف الكرة الأرضية الآخر تحت نير رأس المال الاحتكاري في إطار التحول من الاستعمار القديم إلى الاستعمار الجديد، الشاهد في هذا الموقف أننا بصدد وجهتي نظر حول مسألة الديمقراطية والتعددية السياسية ومستقبلهما في مصر، وصل الأمر إلى طلب ناصر من المؤيدين لوجهة نظر “خالد محمد خالد” أن يتفضلوا بالوقوف! ليرى الكاتب “خالد محمد خالد” نفسه واقفاً وحيداً في وجود نخبة من مفكري الوطن ومثقفيه.

وبالطبع كان من بين الوجود “نجيب محفوظ” الذي كتب بعد ذلك وتحديداً في السبعينات ينقد فيها الفكر الديكتاتوري لنظام يوليو، فخرجت رواية “الكرنك” التي صورت العهد الناصري بوصفه عهد من الضحايا والجلادين، والتي تحولت بعد ذلك لفيلم شهير في إطار الحملة الممنهجة لتشويه العهد الناصري، وزعيمه “ناصر” الذي تدخل في أزمة رواية “ثرثرة فوق النيل” التي قدمت نقداً مبطناً لبعض الفئات الاجتماعية التي استفادت بشكل أو بآخر من إجراءات يوليو. لا أتحدث هنا عزيزي القاريء عن عدم أحقية “محفوظ” في نقد العهد الناصري، وهو نقد له من الوجاهة ما له؛ إنما أتحدث عن عن برجماتية “محفوظ” وقدرته على المراوغة، تلك القدرة التي جنبته قرار الاعتقال في حملة اعتقالات سبتمبر “الساداتية” الشهيرة، التي طالت معظم مفكري مصر ومعارضيه ومن كل الإتجاهات، لموقفهم الرافض لاتفاقية “كامب ديفيد” وقرارات التطبيع مع العدو الصهيوني بالإضافة للسياسات الانفتاحية على الغرب التي قادها السادات إبان حكمه، بل على العكس من ذلك تمامًا فقد تورط نجيب محفوظ في عملية التطبيع مع الصهاينة؛ حينما استجاب لدعوة الرئيس السادات للاجتماع بوفد إسرائيلي يضم نخبة من مفكري الكيان الصهيوني تحديدًا في عام 1978، وهو الأمر الذي خرج محفوظ للاعتذار عنه في مجمل حواره لمجلة “المجلة” في نفس العام، بعد اندلاع حملة ضخمة لإدانة موقفه وفضيحة اجتماعه بالوفد الصهيوني، وتم إعادة نشر الحوار بجريدة “الأحرار” في يوليو عام 1985، حيث جاء على لسان “نجيب”:

” أنا بشر لم أدع معرفة العصمة من الخطأ، ربما أخطأت في موقفي، لكن مجنون من يدعي أنني خنت لأن ما فعلته كان من منطلق خوفي على بلدي”. 

وفي سياق متصل نشبت علاقة صداقة وثيقة بين “محفوظ” والكاتب الاسرائيلي المعروف “ساسون سوميخ” الذي قام بترجمة مؤلفات “محفوظ” إلى العبرية بموافقة منه، حيث عرفت عن “محفوظ” آراءه المؤيدة للاندماج الثقافي بين مصر وإسرائيل، يذكر أن “ساسون سوميخ” هو مؤسس قسم اللغة والآداب العربية في جامعة تل أبيب، وشغل رئاسة القسم لمدة 12 عام، كذلك شغل منصب رئيس المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة، وهو مخلب النمر الإسرائيلي لنشر التطبيع الثقافي في مصر، وهو الدور الذي أهّل “ساسون” للحصول على جائزة إسرائيل التي تعتبر أرفع جائزة تعطيها الدولة للأدباء والعلماء الذين قدموا خدمات جليلة لدولة إسرائيل.

ومع تزايد نفوذ التيارات الدينية في عقدي السبعينات والثمانينات على أثر الصفقة المبرمة بينهم وبين دولة “السادات-مبارك”، أتت تصريحات “محفوظ” مغازلة لخطاب تلك الجماعات المتطرفة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تخطاه إلى الحد الذي وقف فيه “محفوظ” ضد صدور رواية أولاد حارتنا عن دار “الهلال” في إطار مبادراتها لطبع الكتب والروايات الممنوعة في منتصف التسعينات، بل واشترط “محفوظ” موافقة الأزهر على صدور الرواية، وهو الأمر الذي اعتبره الكثير من المثقفين –وأنا منهم- عودة بحرية الرأي والتعبير إلى المربع الأول، فعوضاً عن تصدي “محفوظ” بصفته كاتبًا وفنانًا لسيف المؤسسات الدينية المسلط على حرية الفكر والإبداع، منح “محفوظ” المؤسسة الدينية مفاتيح الإجازة والمنح وفقاً لرؤيتهم الدينية “الخاصة” في ضربة مؤلمة للحركة الثقافية المقاومة.

وهكذا كانت حياة “محفوظ” خطوة “أدبية” للأمام وعشرة خطوات “على مستوى المواقف” إلى الخلف، ربما مكنته المراوغة وفن التنازلات من الإفلات من الصدام بالسلطة والعيش بمأمن منها، لكنها لم تسلمه من محاولة اغتيال على يد أحد عناصر الجماعات المتطرفة، وكذلك لم تسلمه من سهام النقد لمواقفه المتخاذلة، وعلى الرغم من كل شيء تبقى كتابات “محفوظ” شاهدة على عبقرية استثنائية وتمكن أدبي نادر قلما يجود الزمان بمثله. 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد حليم

تدقيق لغوي: سحر نوفل

اترك تعليقا