لعب دور الضحية: السقوط الحرّ في حقل الألغام

لعبُ دور الضّحية قد يبدو أمرًا فاتنًا، واستثمارًا مضمونًا لكسب التعاطف. الحقيقة أن الأقوياء يكملون حياتهم كناجين وليس كضحايا، ولا يجعلون من أي ظلمٍ وقع عليهم أداةً لتحقيق المكاسب، وليسوا شحاذيّ دموعٍ على ناصية المواقف. عقليةُ الضحية تعكس خللًا نفسيًّا وفكريًّا سنقوم بتسليط الضوء عليه.

عقلية الضحية:

ستوقعك الحياة أحيانًا على أشخاص لا يجيدون إلا الشكوى والتباكي، كلّ من في محيطهم يمقتهم ويقيم على شرفهم الدسائس والمؤامرات. مظلوميتهم واسعة المدى وكأن الكون بتضاريسه تحالف ضدهم.

عقليةُ الضّحية هي حالةٌ دائمةٌ من استشعار الظلم، ولعب دور الضّحية لسلوكيات الآخرين والظروف المحيطة. نمطٌ فكريُّ يرتكز على ترسيخ الإحساس الذاتي بالاضطهاد، وما ينتج عن ذلك من إخلاء المسؤولية وعدم الرغبة بإيجاد الحلول، لأن الهاجس الأكبر لمدّعي الظلم هو تحصيل اعترافٍ علني بأنهم على صواب.

الواقعون في غرام لعبِ دور الضّحية يعتقدون أنّ حظهم الأسوأ، ويؤمنون بالحسد وسوء العين أكثر من سواهم. يتابعون الحوادث العادية بالعدسة المكبرة، يجترون المعاناة كأنها توكيدات صباحيّة تيقظ وجدانهم.

لماذا يبدو لعب دور الضحية جذاباً؟

لعب دور الضحية يعكس خللاً في المنطق

جرعاتٌ كبيرة من ادّعاء النبل والترفّع في عقولهم، أفكارهم تبارك لهم معتقدات الطيبة والخذلان. حالةٌ من عشق الألم تخلق هُويةً وهميةً، يصاحبها رضًا تام عن النفس وسخط حارقٌ على الآخرين. الحلول السهلة دومًا خاطئة، وأيهما أسهل أن تنهض بعرقك وكدّك لتلملم خسارتك؟ أو تلوم الجميع وتخلي الثقل عن أكتافك؟

إعلان

من يلعبُ دور الضّحية يقدم لضميره إبرة مخدر، يعتقد أنه سيء الحظّ والأحداث غير البهيجة تجيدُ اقتناصه. يتحدث عن معاناته بصخب وثقة كأنه حالة متفردة، يؤمن أنه الاستثناء بينما الجميع يتراشقُ رياحين السعادة.

اختلالٌ في المنطق ورفض لسنن الحياة من مطبّات وحوداث، والحقيقة أن الجميع معرّض لما يتعرّضون له، لكن ردود أفعالهم المبالغ فيها وما يتبعها من النواحِ والغضب، تجعل الأضواء مسلّطةٌ على مصائبهم وحدَهم.

لعب دور الضحية وعلاقته بالنضج:

الإنسان ليس شجرةً تقدّر أعوامها بحلقاتها، وخبراته تقاسُ بعداد التجارب لا بعداد الأيام. النضج السلوكي لا يرتبط بسنٍّ مُعيّن، والحكمة ستبقى دومًا رهينة المنطق، أينما وجدها خطفها واقتنصها.

مراحل النضج للإنسان الطبيعي:

يمرّ النضج السلوكيّ بثلاث مراحل، وتكون بدايته مع مرحلة “الاعتماد على الآخرين” منذ ولادته مروراً بالطفولة المبكّرة. يمارس الطفلُ في هذه المرحلة حريّته في البكاء، ويحملُ طلباتهُ الجسديّة والعاطفيّة لمحيطه.

ينتقل الطفل بدعمِ أسرته ومجتمعه تدريجيًّا إلى “مرحلة الاعتماد على الذات”، يقدّر حدود كينونته ويقوم بواجباته، يتحمّلُ نتائج أفعاله وعواقب قرارته.

يزداد نضجًا باكتساب المعارف، وتنفرد قامته بالنهوض بعد كلّ سقوط. وفي حال الاستمرار في مسيرة النضج يصل إلى “مرحلة الاعتماد المتبادل”، التي تتحوّل فيها المسؤوليات والواجبات إلى صيغة جمع المتكلم، فتصبح “مسؤولياتنا” و”واجباتنا”. الاعتماد المتبادل هي مرحلة الدخول بعلاقات ناضجة وناجحة، لذلك لا تتوقع ممن لم يبلغ هذه المرحلة من النضج الدخول بعلاقات سليمة.

تأثير لعب دور الضحية على مراحل النضج:

الشخص الذي يمارس عقلية الضحية، لا يمرّ بسلسلة النضج السابقة، ولا يرتقي سلالم الخبرات الحياتية. يحدث الخلل لديه في المنطقة الرمادية بين الاعتماد على الآخرين والاعتماد على الذات، ويبقى عالقًا وتائهًا في هذه المنطقة.

طفلٌ كبيرٌ غير ناضج يشحنُ حنجرته بالصراخ، ويضرب بقدميّه الأرض معترضًا ومطالبًا بالمزيد. مازال مسجونًا في أفكار الطفولة المبكرة، ويشعرُ بجسده الكبير متناثرًا حوله فضفاضًا لا يناسبه. يعيدُ الصرخة الأولى في كل فرصه باحثًا عن الاهتمام.

“الاعتماد على الآخرين ضعف، الاعتماد على النفس قوة، والاعتماد المتبادل هو قمة القوة”

الكاتب الأميركي ستيفن كوفي

علامات مميّزة للضحايا الافتراضيين:

لعب دور الضحية يرافقه سمات مشتركة، هذه السمات تعكس استراتجيات فكرية وسلوكيات اجتماعية منها:

الأعذار مسبقة الصّنع:

براعة الضحايا الافتراضيين في لوم الآخرين تأتي يدًا بيد مع براعتهم في خلق الأعذار لأنفسهم، ينجحون دائمًا في التنصّل من أي مسؤولية، ويظهرون حسن نية غير مسبوق في ذواتهم.

أعذار متنوعة مادية وجسمية وسلوكية، لا يربط بينها إلا كونها تعزّز شعوره بالاضطهاد. والغريب في الموضوع أنه لايقبل أعذار الآخرين، حتى وإن كانت أقوى برهانًا من ذرائعه.

إعطاء قيمة إيجابية للمعاناة:

طبائعُ الحياة واضحة يدركها الإنسان بالمنطق والتفكر، لن تكون جنةً أبدًا، وليست على قساوتها شيئًا أمام الجحيم المطلق. فإذا كنت تبحثُ في حياتك الدنيوية عن الهناء والرخاء والسلام المطلق، فأنت تضيعُ طاقتك في المكان الخاطئ، بل وعليك مراجعة معتقداتك والرّقي بمستوى وعيك.

تخيل أنك كسرت ذراعك وعشت ألم انفلاق العظم وتجبيره، وحتى بعد شفائك وعند كل استيقاظ كنت تستعيد وجع الكسر. في الحقيقة سيبدو الأمر وكأنك كسرت ذراعك في كلّ يومٍ من أيام حياتك. لأن الأفكار تُترجَم مباشرةً إلى مشاعرَ وأحاسيس. هكذا يتعامل من يلعب دور الضّحية مع أخطاء الآخرين.

لذلك تجدهم لا يغفرون ولا يسامحون، ولن يمانعوا تذكيرك بخطئٍ عفوي ارتكبته منذ سنواتٍ في حقهم. يعيدون كلّ يوم ذات الأحداث السلبية وكأنها حدثت لتوها، ويعود الشعور المؤلم لغمرهم وكأن الجرح طازجٌ، يعانون من مناعة نفسية ضعيفة تكررُ لهم ذات الأمراض.

العجز المكتسب وضعف الثقة بالنفس:

لعب دور الضحية يرافقه نظرة دونية للذات، والشّخصية التي تقبل بهذا الدور تعاني من الشعور بالنقص وعدم الاكتمال. الاعتراف بالخطأ شجاعة ناجمة عن التصالح مع النفس.

الفضيلةُ هي المرحلة الموجودة في الوسط بين رذيلتين، فالمبالغة بجلد ذات وتكسير أجنحة النفس رذيلة كالتنصّل من المسؤولية والفرار منها. والغريب أن كلا الحالتين من تأنيب و تنصل تعودان إلى سبب واحد وهو “ضعف الإيمان الذاتي”.

لعب دور الضحية يعود على صاحبه بالعجز المكتسب، وهو حالة غير أصيلة من عدم القدرة على الإنجاز، نمط من الشلل الأدائي النابع من عقلية ضارة.

التنوير في مواجهة طبائع الاضطهاد:

لا تبحث عن قرشك الضائع في الشارع المجاور لأن النور يغمره، إذا أردت حقًا إيجاده فالتزم بالمنطق، وتعامل وفق منطق السبب والنتيجة. إن التخلص من عقلية الضحية يبدأ في شارع ذاتك المظلم، فلا تتوقع حلولاً من الخارج. توقف عن طرح الأسئلة التي تبدأ ب”لماذا”والنحيب فوقها، انهض وتحرك فلا شفاء إلا بالأفعال والتنور الذاتي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نادية برادعي

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا