البقاء دومًا للأقوى: خُطُوَات تقوية المناعة النفسية

تقوية المناعة النفسية لم تَعُد نشاطًا كماليًّا نُطرِّزُ به أوقات فراغنا، العَالَم لا يتوقف لمسح دَمْعَة مكلوم، ولا يُثبِّت كَتِفًا ليسند رأس مهزوم، البقاء لم يَعُد مرتبطًا بالنفوذ فحسب، البقاء للأقوى نفسيًّا.

لا نجاة دون تقوية المناعة النفسية :

تقوية المناعة النفسية درع يحمينا من الأمراض

لا أحد يختار حزنه، ولا يُرحِّب بكسر قلبه، السُّقُوط لحظة والنهوض إرادة. الاستسلام هو الحَلّ الأسهل دومًا، ولكن غالبًا ما تكون الحُلُول السَّهْلة غير صائبة.

 إذًا، لماذا ينهار البعض عند فقد عزيز أو فشل مشروع؟ لماذا يحمل البعض قلبه مكسورًا ويرفض ضَمْده؟ كيف نتجنَّب رصاصات الحوادث وهي تنهال على رُؤُوسنا؟

المناعة النفسية ليس مجرَّد درعٍ واقٍ يَردّ عنا الصدمات، بل آليَّة محكمة، تُمكِّن الإنسان من تحليل المُعَاناة واستيعابها، بعد ذلك تقبلها بأسلوبٍ عقلانيٍّ.

الضَّرْبَة التي لا تقتلك تحتاج إلى أرضيَّةٍ من المناعة النفسية حتى تُقَويك، والماء لا ينحت من كل الصَّخْر ذات الشَّكْل.

إعلان

لذلك تتباين ردود أفعال الأشخاص على الأحداث، فيسقط من غِرْبَال التجارِب كلُّ من لم يبذل جهده في تَقْوِيَة المناعة النَّفسيَّة.

مفهوم المناعة النفسية:

المَنَاعَة النَّفسيَّة تعتمد على تشفير واختزان خُطَط دِفَاعيَّة تحمي من المشاعر السلبيَّة المُتطرِفة، وتجعل الواقع المُوَاجَه أكثر قابلية للتَّعَايُش والتجاوز.

فإذا كان نمط حياة الفرد يشحنه بخبراتٍ قاسيةٍ نتيجة مُمَارساته اليومية، فتتراكم الأذية في أعماقه وتنهشه حتى يتآكل كُليًّا، ثُمّّ يصدأ قلبه وكأنه قطعة خُرْدَةٍ باليةٍ.

ينتقل تحت هذا الثِّقْل المُترَاكم إلى مستوى المرض النَّفسيّ، ما لم يؤمِّن لنفسه عادات تعمل على تَقْوِيَة المَنَاعَة النَّفسيَّة.

المَنَاعَة الجسديَّة مرآة المناعة النفسية:

الجسم البشريّ لا يلعب دور الشَّرِيك الصَّامِت، بل يُرسِل إشاراتٍ تُنبِهَك إلى تحميله ما لا يطيق، يطلقُ صَفَّارات الإنْذَار على هيئة أعراضٍ مَرَضيَّة.

القُرْحَة المَعِدية تَحدُث بسبب ما يأكلنا وليس ما نأكله، آلام القولون العَصَبيّ تنصاع لتردُّد قلقنا مهما أخمدناها بالأدوية، خناجر الشقيقة وأنواع التحسُّس المختلفة ليس إلا ترجمةً جسديَّة لضعف المَنَاعَة النَّفسيَّة.

تُعْرَف هذه الأعراض السابقة باسم “الأعراض النَّفسجسميَّة“، فهي نفسيَّة المنشأ وجسديَّة التظاهُر، تتكرَّر وترتبط مع الهَشَاشَة النَّفسيَّة وضعف التعاطي مع المُتغيِّرات المُحيطَة.

هل شاهدت يومًا عن قُرْبٍ إنسانًا يَذْبُل؟ كما الزَّهْرَة تمامًا، يصبح جافًا وباهتًا، ينحني ظهره ويفقدُ بريق الحياة. لا ألم يفوقُ انطفاء إنسان كان ذات يومٍ على وهجٍ!

يقول الكاتب الطبيب أحمد خالد توفيق في إحدى رواياته: “حالة إيدز نَفْسيَّة ﻻ شَكّ فيها. العِلْم لم يصف الإيدز النَّفسىّ لكني أعرف يقينًا أنه موجودٌ؛ الأُم التى تموت بعد وفاة ابنها بشهرٍ، الفتاة التى تفقد حبيبها فتَضْمُر وتموت خلال أسابيع، رئيس التحرِّير الذى عَنَّفه (السادات) أمام الجميع فعاد لداره ومات، موظف (تشيكوف) الذى عَطَسَ فى وجه موظفٍ كبيرٍ لم يَقْبل اعتذاره فعاد لداره وتُوُفي خلال يومين”.

خُطُوات أساسيَّة في تقوية المناعة النفسية:

بناء نظام مَنَاعَيّ نَفسيّ ليس أمرًا سهلًا، وتحكمه عوامل بيئيَّة ووراثيَّة. فهناك شُعُوب تتمتَّع في وجدانها الجَمْعيّ بالأمان النَّفسيّ، وتترجمه قُدرةً على النهوض وإعادة الإعْمَار.

وبالمقابل هناك شُعُوب هَشَّة تُخْفِي ندوبها النَّفسيَّة بعنايةٍ، وتولول هَلعًا عند أي تغيُّرٍ في الظروف.

عملية اقتلاع أشواك الهَشَاشَة تتأرجح بين أفعالٍ تُؤدَّى ومفاهيمٍ تُزْرَع، تحتاجُ صبرًا وديمومة وأبعد ما تكون عن الآنية، كما لو أن تقوية المناعة النفسية عَضَلَةٌ وعليك تدريبها كل يومٍ. وهناك عِدَّة خُطُوات تفيد في تعزيز هذه الصحة النَّفسيَّة.

الرِّضَا والقَنَاعة وإتْقَان ثقافة الامْتِنَان:

دائمًا ما يعيقنا التَّفْكِير في المفقود عن تقدير الموجود، ونأبى أن نُدْرِك قيمة الأشياء حتى نفقدها، نُمَارِس الغرق في السَّلبيَّة حتى أصبح تنفُّسنا للفَرَج عسيرًا.

ينصح خبراء عِلْم النَّفس عادة بأن تبدأ يومًا بقائمة الامْتِنَان، تكتب بالورقة والقلم عَشْر نِعَمٍ منحها الله لك. أبدأ صباحاتك بالتقدير والحمد، سيغمرك الشُّعُور بالسَّلام ويمنحك طاقة الاستمرار.

مهما خسرت سيبقى ما تملكه أكثر، وكلما ركَّزْت على الإيجابيَّات كانت قُدْرَتك على التعاطي مع السَّلبيَّات أكثر فاعلية، وتَصَدت مَنَاعتك النَّفسيَّة لكل المُمرِضات.

الابْتِعَاد عن مواقع التَّوَاصُل الاجتماعيّ:

لا شيء يحدث اليوم لم يحدث قبلًا، الأعاصير تَهبُّ منذ بدء الخليقة، كذلك الأطفال يسقطون في الآبار، والقتل ما زال عند البعض وسيلة تفاهُم، فقط لم نكن ندري بكل هذه الأخبار مجتمعة. كانت أحداثنا المأساويَّّة محدودة بحَيِّزٍ جغرافيٍّ.

العقل البشريّ لا يَمُرّ على أي مدخل دون أن يترجمه شعوريًّا، لو نسينا الحدث لن ننسى الهَشَاشَة التي اكتسبناها. من هنّا وُلِدَ مصطلح “اكتئاب مواقع التَّوَاصُل الاجتماعيّ”، وكان تقنين استخدامها مُفيدًا في تقوية المناعة النفسية، والتحرُّر من قيود الانْحِيازات الفِكْريَّة.

قانون الفِعْل ورَدّ الفِعْل:

من الحكمة أن تَدَّخِر طاقتك النَّفسيَّة للمصائب الحقيقيَّة، فليس كل مطبٍ يستحق قلقك وتوترك، يعمل البعض على إساءة استخدام القلق، ويحدث أحيانًا أن نَدْهَش من ردود أفعال من حولنا على مواقفٍ صغيرةٍ وعفويَّةٍ، وغالبًا ما تعود جُذُور هذه المُبَالغة إلى بيئةٍ لم تعمل على تقوية المناعة النفسية لأبنائها.

السؤال المُنْصِف في هذه الحالة: ما مُدَّة تأثير الحَدَث الحقيقيَّة على حياتي، دقائق أو ساعات؟ التأثيرات المؤقَّتة لا تستحق الهَلَع وغالبًا لا تكون موجودة إلا في عقلك.

سؤالٌ آخر قد يكون مفيدًا: ما الذي أستطيع فعله لتغيير ما حدث؟ الأفعال دومًا أعلى صوتًا وأكثر فَعَاليَّة، ما دام هناك ما يمكنني فعله لأتحرَّك.

رَسْم حُدُود شَخْصِيَّة واضحة:

“كنا بخيرٍ لولا الآخرون”: ليست مجرَّد عبارة عادية، هذه العبارة وُجِدَت منقوشة على حَائِطٍ مصحة قديمة. على عكس السَّائِد لا أحد يؤذينا دون أن نسمح له، نحن نعطي الآخرين ترخيص مرور إلى مشاعرنا، ونتناسى إغلاق دائرة المؤثِّرات مدفوعين بأعرافٍ اجتماعيَّة.

عندما نسْتَثْمِر في غير أنفسنا، ولا نَرْسِم حُدُودًا واضحة لتعاملنا مع الآخرين، نُقدِّم التَّنَازُلات حتى تصبح حياتنا سلسلة منها. إن تحصين أنفسنا ضِدّ الشخصيات السامة أمرٌ ضروريٌّ، يُنْتِج عنه إدراك أن مُركَّبات نقص الآخرين ليست مسؤوليتنا. عندها نفهم سبب السُّلُوك وإن لم نعذره، وهذا الفهم يسهمُ في تَقْوِيَة المَنَاعَة النَّفسيَّة وتَعْزِيزها.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نادية برادعي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا