اكتئاب ما بعد المونديال: ظاهرة تستحق التَّوقُّف

اكتئاب ما بعد المونديال يبدو الاسم كمزحةٍ، أو ظاهرة شديدة التكلُّف لا تستحق التَّوقُّف، لكن أنا هنا أخُطُّ هذه الكلمات لأخبرك أن الشُّعُور السَّلبيّ في داخلك طبيعيّ، ولنجد معًا طريقة صحيَّة للعودة إلى حياتنا بعد انتهاء كأس العالم.

كأس العَالَم ليست توكا تاكا:

السِّحْر يبدأ مُبكِّرًا جدًا، قبل صافرة البداية وتَراكُض اللاعبين. إثارة الجَدَل والحماسة تنطلق مع أغاني المونديال وتصريحات اللاعبين، السياسة التي تطلُ برأسها لتُعدِّل توجُّهات المُشجِّعين.

يرافقك الشُّعُور بأن الكُرَة الأرضيَّة تعيشُ مناخًا واحدًا، وأخيرًا هناك حدث عالميّ حقيقيّ مُشْبَع بالشَّغف والحماسة. كروت صفراء كثيرة للمُسخِّفين، وكروت حمراء حاسمة لغير المُكْترِثين. نُجهِّز أعلامنا ونستعد لاستعادة “الوقت بدل الضائع” من أُمْسيَّاتنا.

الإعلانات تُطَارِدنا في الشَّوارع والتلفاز وفي كل مكانٍ، الجميع يريده أن يركب موجة هذه المسابقة ويرتفع. ترقُّب وتحضر وتوقُّع مع أسماءٍ تسقط وأخرى تترك أثرها للتاريخ.

نظريات حول اكتئاب ما بعد المونديال:

كالأُرجُوحَة التي تدفعها بقوَّة فتعود بالاتجاه الآخر بذات القوَّة، لا بُدّ لكل هذا الحماس والاستمتاع من التراجُع. وكما قال “نيوتن” فيما مضى: “لكل فعل ردّ فعل يساويه في الشِّدَّة ويُعَاكِسه في الاتجاه”.

إعلان

الدوبامين السَّاحر وتعويذة الاختفاء:

الدوبامين هو ناقل عصبيّ موجود في الدِّمَاغ، يعمل على تحفيز الإحْسَاس بالمُتْعَة. هذا التَّفعيل المستمر للدوبامين وخلال ما يُقَارِب الشَّهر، يربط اكتئاب ما بعد المونديال بانخفاض مستويات هذا الناقل المُتلاعِب.

الحقيقة أن لا شيء يعبثُ بالإنسان أكثر من دِمَاغه، هناك نمط من السَّعَادة يُسمَّى “سَعَادة الوضع المُستَمِر”. وحتى لو كان هذا الوضع فِعليًا لا يَمسُّ حياتك بشكلٍ حقيقيٍّ.

عندما تبدأ علامات تراجُع الوضع المستمر، تتباعَد الأيام بين المُبَاريَات وتعود المُنتَخَبَات الخَاسِرَة إلى بُلْدَانها. تتقلَّص التحليلات والتوقُّعات، وينخفض معها الدوبامين كرَّدة فعلٍ على الخلل بسَعَادة الوضع المستمر.

انخفاض الدوبامين يتركُ شعورًا حقيقيًّا بالألم، سَاحِرٌ عظيمٌ هو؛ يرفع مزاجك بعصاه ويسقطك بنزوله، يُلقي عليك تعويذة الاختفاء ويُعَايِشك الإحْبَاط برؤيَةٍ دِمَاغيَّة.

اكتئاب ما بعد المونديال إضاءات نفسيَّة:

كلما حَمِي كأس العَالَم رُفِعَت حرارة الجماهير معنويًّا، يتسلَّل بعد انخفاضها اكتئاب ما بعد المونديال، بتشجيعٍ وتصفيق من هبوطاتٍ نفسيَّة وتراكُمَات شُعُوريَّة، وفي جولةٍ سريعةٍ سنتدحرج فوق أهم المطبَّات النَّفسيَّة.

الشُعُور بأنك جزءٌ من ظاهرةٍ عَالَمية:

الإنسان المُتْعَب المُتآكِل كقطعة حديدٍ تحت صَدَأ الواقع، يترفَّع بمشاكله عن راتبه المَبْتُور وجُهْده المَهْدور ليحمل هَمّ تصدُّر مجموعة، أو يتنازع مع أقرانه حول الحَكَم المتواطئ. قد تبدو له إصابة ذلك المُهَاجِم أهَمّ من ارتفاع ضغطه واختناق أنفاسه، يرقص ويشجِّع مع الجماهير وهو في بيته وتحت نصل ظروفه.

حديثٌ يوميُّ يمكن تبادله مع الجميع، من البقَّال إلى سائق الحافلة. نظريات تكتيكيَّة وشتائم للمُدرِبين واللاعبين، ستجدُ دومًا آذانًا تسقطُ فيها. لذلك يتابعُ كأس العَالَم الجميع حتى غير المُهتمِين بكُرَة القَدَم، إنها مُتْعَةٌ أن تكونُ جزءًا من الجماعة.

اكتئاب ما بعد المونديال هو عودتك القسريَّة للواقع، للحديث مع كل فردٍ بلُغَته ومفرداته اليوميَّة. هو الرجوع إلى قوقعتك وصمتك، إلى كونك وحيد ومستفرد بين الآخرين.

تفريغ المشاعر المُتراكِمَة واكتئاب ما بعد المونديال:

اغضب … اصرخ… اقفز … اقذف أجسامًا نحو الشَّاشة!

استغل الفرصة، لا تُضيِّعها، من سيسمح لك بهذا التنفيس في حياتك اليوميَّة؟

اسكب آلاف الشتائم واللعنات على رأس مُدَافِعٍ أو حارس مرمى، لا يحمل ألوان بلدك حتى. ثُمَّ ضع ساقًا على ساقٍ وانفخ أنفاسك بارتياحٍ، إنها الشتائم التي كتمتها في قلبك وأنت تُحَاوِر رئيسك بالعمل، واللَّعنات التي منعك الهيكل الاجتماعيّ من نفخها فوق رأس جيرانك. نحن نُعطيك الإذْن مرَّة كل أربع سنواتٍ، لتخرج رأسك من النافذة وتصرخ، ولن يتهمك أحدٌ بالجنون.

التَّطهير النَّفسيّ بأسمى وأدق صوره، حيث تخرج المشاعر المُتراكِمَة بسلاسةٍ دون أن تؤذي أحدًا، ودون أن يترتب عنها نتائج أو دفع ثمن. بعدها يبدأ العدَّاد بالانْحِسَار وتعود إلى كَبْتك وقِنَاعك الاجتماعيّ، وتنغمس في الكتمان بانتظار المونديال القادم وعِدّ الأيام.

كسر الروتين بروتينٍ حيويٍّ جديد:

الحياة اليوميَّة بروتينها المتكرر تدفع الإنسان لتقديس أي تجديد، لذلك يبدو أي كسرٍ لنمطية هذه الأيام حدثًا جذَّابًا. فالمواعيد التي انْتَظَمَت وَفْق جداول المباريات، والمهام التي يجب أن تُنْجَز قبل صافرة البداية، ستترك نوعًا من الفراغ المُستفِزّ.

التجمُّعات الأُسريَّة المتحلقة حول الشَّاشة قد لا تحدث من جديدٍ، هناك أعذارٌ ستُطْرَح والتزامات ستظهر على السَّطح، فيُتَرجِم العقل شَوْقه للصُّحْبَة كشَوْقٍ لكأس العَالَم.

الأمر يشبهُ كثيرًا “اكتئاب ما بعد العطلة“، حيث تبدو العودة للحياة العادية قاتلة وثقيلة، وكأنها صخرةٌ من التبلُّد لا نملكُ له انزياحًا. مشاعر سلبيَّة ستجعلنا غير قادرين على معرفة من أين سنبدأ رحلة الإياب.

اكتئاب ما بعد المونديال وأكثر الشَّخصيَّات المُسْتهدَفة:

قد يعتقد البعض أن أكثر الشَّخصيَّات عُرْضةً للإصابة باكتئاب ما بعد كأس العَالَم هم عُشَّاق كُرَة القَدَم، ولكن هذا التصوُّر بمجمله خاطئ ويفتقر إلى المنطق.

جماهير كُرَة القَدَم لا يتوقفون عن الجري بأنظارهم وراءها، يجدون بديلًا _وإن كان أقل بريقًا_ في الدوريات المحليَّة والعالميَّة، ويعلمون بتمرسٍ كيف يُوجِّهون تركيزهم نحو البطولات الأخرى.

اكتئاب ما بعد المونديال يصيبُ الأناس غير الواعيين بقيمة حياتهم اليوميَّة، الذين يملكون وقتًا كثيرًا والقليل من ذهب، ينخطرون بقسوة بأي مهرب يتيحُ لهم شَغْل جداولهم.

الفراغ عدو الإنسان الأكبر وخصمه الأشرس، يدفعه إلى التعلُّق بكل ما قد يشغل وقته، وما أجملها من تسعين دقيقة تلك التي تخلقُ لنا معركةً فيها النصر أو الهزيمة!

التشافي من الاكتئاب التالي لكأس العالم:

الأمرُ بسيطٌ جدًا، لا تسمح لنفسك بالإصابة به أساسًا، لا تكن هَشًا شديد الاحتياج والتعلُّق. دع لنفسك حُرِّيَّة الاستمتاع كل فترةٍ، وارفع سويتك النَّفسيَّة وعَوّدها على التأقلُم مع المُتغيِرَات، مع خلق روتين إيجابيّ يُغْني الروح والجسد.

الصِّحَّة النَّفسيَّة تحمينا من تضخيم المشاعر المؤذية، وتقوية المناعة النفسية درعٌ يتيحُ لنا النهوض والثبات. من الطبيعي أن يَمُرّ على الإنسان دائرة مختلفة من الأحاسيس، لكن فَنّ التجاوز فنٌ مكتسب وليس مجرَّد مهارة نجدها فنستخدمها.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نادية برادعي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا