هل يمكن أن يكون للملل فوائد؟

لم يُعطَ الملل -برأيي- كعنصر أساسي في السلوك البشري سوى اهتماماً ضئيلاً مما يستحق، وإني لأعتقد أنه من القوى المُحركة العظيمة في الحقبة التاريخية كلها وشأنُه في وقتنا الحاضر أكثر من أيِّ عصر مضى.

برتراند راسل

عندما نتناول موضوع الملل، دائماً ما نتكلَّم عنه بالطريقة الكئيبة السوداوية المعروفة عنه، فالملل في أذهاننا مرتبطٌ بالمشاعر السلبية. لكن ماذا لو كان للملل فوائد وحاولنا أن ننظر إليه من زاوية أخرى؟ ما حكمنا عليه؟

ما الملل؟

إنَّ تصوُّرَنَا عن الملل مغايرٌ للتصوُّر العلمي له لكنه قريبٌ منه. فوفقاً للجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA)؛ فهي تصفه بأنه حالةٌ من الإرهاق الناتج عن عدم التعامل مع مُحفِّزات البيئة. وعموماً فهو يُعدُّ أحدَ أقل الظروف المرغوبة بالحياة اليومية وغالباً ما يُحدِّده الأفرادُ على أنه سببٌ للشعور بالاكتئاب[1]. هناك أيضاً تعريفٌ شائع للملل وهو التجربة المزعجة مُتمثِّلاً بالرغبة في الانخراط في نشاطٍ مُرضٍ، ولكن عدم القدرة على ذلك[2]. يُمكننا أيضاً أن نصف الملل بأنه الإثارة التي لم تُلبَّى حسب تعبير الطبيب النفسي “نيل بيرتون”. ففي مقاله في موقع “سيكولوجي توداي” يرى أن الملل هو نوع من الإثارة المُستفزَّة الناشئة إما عن أسباب داخلية كنقص الخيال والدوافع والتركيز وإما عن أسباب خارجية كالحافز أو الافتقار إلى السيطرة العقلية، الأمر الذي يُفسِّر شيوعه لدى الأطفال والمراهقين عكس البالغين، فأنت حينما تريد فعل شيء مُحفِّز وتجد نفسَك غير قادر على الإتيان بهذا الشيء ثم تشعر بالإحباط بسبب وعيك بـ “عدم مقدرتك”.

نحن البشر نُعذَّب بسبب المـلل، ما يفعله الملل وهو ما نلاحظه أنه يفتح أمامنا الأفكار والمشاعر غير المريحة والتي عادة ما نمنعها بالنشاط أو عكس تلك المشاعر السلبية إلى مشاعر مريحة. فالـملل هو ثالوث من الحالة والتجربة والإثارة منسوجة في النفس البشرية.

الملل والرأسمالية الغربية

زُر منتزه أو مطعم أو أيَّ مكان وظيفته الأساسية هي الترفيه، ستلاحظ كثيراً أنَّ الإنسان يُمسك الهاتف ويتصفَّح شيئاً ما. فوفقاً لمسح جديد؛ يشعر 74% من الأمريكيين بالملل عند ترك الهواتف في المنزل، و71% يفحصون هواتفهم في خلال أول عشر دقائق من الاستيقاظ، ويعدُّ 47% من الأمريكيين مدمنين على الهاتف، بل إن 67% من الرجال و25% من النساء يفضلون إحداث صدمات كهربية صغيرة بدلاً من الجلوس بمفردهم مدة 15 دقيقة.

مع سطوة الرأسمالية على جميع مجريات حياتنا؛ أصبح من المستحيل أن تجد وقتاً مملاً في يومك، فأنت ترس ضمن آلة إنتاج دائمة. إذ إنَّ أوقات الراحة لم تعد مُملَّة كما كان شائعاً، فهناك وسائل التواصل والفيديوهات القصيرة والأفلام والألعاب التي لا حصر لها وكلما صعدنا في المستوى الاجتماعي صار السعي إلى الإثارة أشد قوة والرغبة في قتل الملل أشد. بل إنَّ الخطاب التكنولوجي الحالي دائماً ما يكون من ضمن أهدافه القضاء على المـلل. لذلك وفَّرت أدوات الترفيه بجميع أنواعها لتخاطب جميع الأعمار. إلا أنه وللمفارقة ازدادت الأمور سوءاً، فمع شيوع أدوات الترفيه أصبحنا منفصلين عن واقعنا وأصبحنا في حالة دائمة من الحاجة إلى التحفيز وارتفاع الأدرينالين للهروب من المـلل، والحياة المليئة بالإثارة هي حياة منهكة وتعسة وتحتاج باستمرار إلى المزيد من الإثارة، فإذا لم ينجح الترفيه والإثارة نلجأ إلى النوم، وفي ذلك يقول برتراند راسل:

إعلان

“إننا أقل خوفاً مما كان عليه أسلافنا، لكننا أشد خشية من الملل”.

إذاً ما الذي نفتقده عندما نملأ كلَّ لحظة من حياتنا بالترفيه؟ وهذا السؤال سيقودنا إلى طرح سؤالٍ آخر، ألا وهو ما فوائد الملل التي كانت الرأسمالية تحاول القضاء عليه؟

فوائد الملل:

  • الملل والتأمل:

يقول ريتشارد واطسون [3]: “إن لم تفعل شيئاً، فأنت تخترع طريقة جديدة لفعل شيء معين”.

دعنا ننظر إلى الملل نظرةً تأمُّلية، تنظر إلى القمر أو تراقب أنفاسَك أو تتمشَّى. في البداية سيكون الأمر مؤذياً، مع انفصالك عن الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي ستشعر كأنها أعراض انسحاب، لكن إذا مارست الملـل ستدرك قيمةً جليلةً، وهي عدم التمسُّك والتحكم بالملهيات والالتفاف إلى النفس وحاجتها إلى التأمل وحاجة الدماغ إلى الراحة والاسترخاء.

  • الملل والصحة العقلية:

في عصر التواصل الاجتماعي والمعلومات التي لا حدَّ لها، نكون مُشتتين دائماً وتمتلئ الأدمغة بالمعلومات، وهو ما يفقدنا قيمة الاهتمام بالمعلومات فتصبح في حالة سائلة. وحينما نكون مشتتين نكون أقل انتباهاً وأكثر ضجراً وتوتراً [4]. فالانتباه الذي خلقه فينا الله محدود ويجب أن يُصرف في أنشطة محددة. لذللك أخذ قسط من الراحة والـملل فيه راحة كبيرة لانتباهنا وتخفيفٌ للضغط، وبذلك نُصبح أقلَّ توتراً وأكثر تحكماً بانفعالاتنا، فالملل هنا يكون تدريباً على التركيز وضبط النفس.

  • الملل بوصفه حافزاً للتغيير:

سبق وقلنا أنه عندما وفَّرت الرأسمالية جميعَ وسائل الترفيه؛ فإن الإنسان على الرغم من ذلك أصبح يشعر بالملل أيضاً. إذ يعدُّ الملل هنا إشارةً أنَّ الوضع الراهن ليس كما ينبغي. وعندما تطلق لعقلك العنان للتفكير وأنت في حالة ملل، يخرج لك بأفكار أفضل وطموحات أعلى والبحث عن فرص أكبر[5].

  • الملل والإبداع:

أُجبر الناس في إحدى الدراسات على إجراء بعض الأنشطة المملة كقراءة التقارير مثلاً. كانت النتيجة هي أنَّ الملل شجَّع عقولَهم على الشرود وأدت إلى طرائق إبداعية جديدة، فهناك رابطٌ عجيبٌ بين الملل والأفكار الإبداعية. إذ يجعل المللُ عقولَنا أقل تشتُّتاً، وبذلك أكثر انفتاحاً، وأيضاً يحثُّنا على البحث عن تجارب جديدة ومختلفة [6]. فالملـل يُثير مشاعر الفضول والرغبة. عندما نشعر بالمـلل نبدأ بالتساؤل عن الأشياء والفضول هو نقطة البداية للإبداع. ينطبق الشيء نفسه على الرغبة، فإذا امتلكنا كل شيء؛ ما الدافع للإنجاز والإبداع؟ يجب أن نفتقد الأشياء حتى تكون لدينا رغبة الحصول عليها.

  • الملل والمشاعر:

يُمكننا أن نصف المشاعر أنها حالة الفرد النفسية الحالية التي تعكس تقدُّمه نحو هدف ما [7]. فمثلاً تُشير السعادة إلى تحقيق الهدف المنشود، والغضب دليل على فشل تحقيق الهدف، والحزن قريب من الغضب ويضاف إليه عدم وجود أي أمل للرجوع إلى الهدف، والقلق شعورٌ ناتجٌ عن وجود تهديد يمنع تحقيق الهدف. أما العلاقة بين الملل وتحقيق الهدف فعلاقة مركبة. فمثلاً في حالة الحزن ومع ضياع الهدف نبحث نحن البشر عن البدائل وإيجاد أهدافٍ جديدة. وما بين الهدف والهدف الآخر تكون هناك فترة نسأل أنفسنا ما الهدف المقبل؟ ومتى سيأتي؟ وكيف سيتحقق؟ تلك الفترة تكون مُملَّة لكنها مُهمَّة للتفكير عميقاً في أهدافنا المقبلة. الخروج من هدف أو تجربة يتبعه ملل هو كعملية استشفاء بعد مباراة عنيفة والدخول إلى هدف قبله ملل هو كعملية إحماء للمباراة القادمة.

  • لا سعادة أبدية:

إن تجاربنا مرتبطة بمدى عاطفتنا تجاهها، فعواطفنا تتلاشى بمرور الوقت وبمجرد الخروج من التجربة وهنا يحدث الملل. فالملل إشارة إلى أن عواطفنا أصبحت أقلَّ حدة. فتجربة الزواج مرتبطة بعاطفة السعادة، وفي بداية الزواج تكون هناك فترة سعادة غامرة ومع مرور الوقت تكون عاطفة السعادة أقل حدة ويتسرب الملل إلى العلاقة وينشغل الزوجان بأهداف أخرى. فالملل إشارة سيئة لكن يمكن فهمه أنه يجب فعل شيء ما بخصوص تلك العلاقة.

يسمح الملـل بفكِّ الارتباط بين عاطفة تجربة ما وتجربة أخرى، فنستطيع الدخول إلى تجربة تالية دون تأثير من التجربة السابقة. وهذا من ضمن التفسيرات في أننا لا نرى شخصاً سعيداً دائماً، بل الفطرة البشرية مجبولة على تجربة العواطف والملل جزء من تلك الفطرة.

قد يعجبك أيضًا

في رفقة الملل

  • التفكير العميق:

حالياً لا نستطيع الهدوء لبرهة من الوقت لعمل شيء واحد والتركيز على مَهمَّة واحدة. فمصطلح المَهام المتعددة أصبح مهيمناً؛ وبذلك دائماً نكون مشتَّتين. وهناك مصطلح الاهتمام الجزئي المستمر (CPA) الذي يُفيد في فهمنا لطبيعة مواقع التواصل الاجتماعي؛ إذ أصبحنا مدمنين عليها ومدمنين على البحث عن أحدث المعلومات حتى صار من المستحيل التعامل معها، لذلك أصبح اهتمامنا مجزأً بكلِّ شيء.. هناك حقيقة تحاول التكنولوجيا طمسَها وهي أن انتباهنا محدود ولا يمكن أن نكون في حالة انتباه مدة 24 ساعة، فالانتباه المستمرُّ مُجهد للعقل والبدن. وقديماً لم يكن أمام الإنسان إلا الاستسلام للملل وبذلك يكون متفرغاً ليتأمَّل في الطبيعة ويُفكر عميقاً.

  • الملل والإثارة:

في العصر الحالي أصبح الترفيه واللذة هما المبدآن السائدان وأصبح الإنسان منغمساً في تلك المبادئ حدَّ الإنهاك. مثل المدمن على الكوكايين، فكثرة الإثارة لا تضرُّ الصحة وحسب، بل تضعف لَذَّة تذوق جميع أنواع الإثارة الأخرى. يجعلنا المللُ نُدرك قيمة الإثارة، وبذلك نستطيع تناول قدر من الإثارة الصحي الكافي للإنسان فتحمل قدراً معيناً من الملل من مقومات الحياة السعيدة [8].

  • الملل والرتابة:

هناك نوع من الملل طرحه راسل وسماه الملل المثمر، فجزء كبير من حياتنا مليء بالمَهام العادية. ولكننا نُحاول بشكل أو بآخر إضافة الإثارة عليها وفي النهاية يغلبنا الملل، بدلاً من محاولة دَرء مشاعر الملل بمزيد من النشاط، وعلينا أن نتفهم تلك الرتابة في حياتنا و نتقبلها بوصفها جزءاً أساسياً من يومنا وتوفير مساحة صغيرة له. تُمكِّن درجةٌ معينةٌ من الرتابة الإنسانَ من فعل أشياء عظيمة. ومن يفتش في سيرة العظماء يُدرك أنَّ سبب تميزهم أنهم كانوا مملين! [9]

  • الملل وأحلام اليقظة:

حينما كنا صغاراً ونشعر بالملل، نحضر ورقة رسم، وحينها نبدأ بإخراج الإبداع الذي داخلنا، لكن لم نعد كالماضي، الآباء الآن لا يسمحون لأطفالهم بقضاء وقت الفراغ. حسب مكتب الإحصاء الوطني بالمملكة المتحدة؛ فإنَّ حجم وقت الفراغ المخصص لأطفال المدارس (بعد قضاء اليوم الدراسي وعمل الواجبات المنزلية والنوم والأكل) قد انخفض من 45% إلى 25%. لقد أصبح الأطفال منظمين، وهذا يعكس ما هو معروف عن الطفولة.

تتحدَّث الطبيبة النفسية “ديان بارث” [10] عن مديرة مدرسة تُدعى راشيل (اسم مستعار) كانت تلك المدرسة ذات شهرة كبيرة بسبب الطرائق الغريبة التي وضعتها المديرة راشيل؛ إذ تجمع الطلاب حسب التشابه في القدرات والمواهب وليس حسب الأعمار، وكان الطلاب في حالة انشغال دائمة ويتجمعون في دائرة ويتناقشون في مشروع ما وكانت نقطة الانشغال الدائم هي نقطة التسويق الرئيسية لتلك المدرسة. وفي يوم أتى والد طالب وكان الأب ممثلاً مشهوراً واندهش مما رآه في تلك المدرسة وقال: “إنه لأمر يقلقني أن أرى كل هؤلاء الأطفال مشغولين جداً بالتركيز على واجباتهم المدرسية”، حينها اندهشت المديرة راشيل وتابع الممثل قائلاً: “عندما كنت طفلًا، كنت أشعر بالملـل في المدرسة، قضيت كل وقتي في أحلام اليقظة، وأحلام اليقظة تلك هي المكان الذي حصلت فيه على الإلهام لمعظم الأعمال التي قمت بها في حياتي”.

ويعلن المحلل النفسي آدم فيليبس أنَّ الملل جزء لا يتجزأ من عملية نمو الطفل لأنه يجعل الطفل يعيش أحلام اليقظة حيث الخيال والإبداع الحقيقي.

 في النهاية..

ما أحاول قوله حينما يداهمك الملل، أكبر خطأ تفعله هو محاولة التخلص منه؛ افهمه أولاً وكن لنفسك كفلاً منه. وليس إنسانياً أن تكون دائماً في حالة تأهب وانتباه دائمين، فهناك تبادل منفعة بين الانتباه والإنجاز والمـلل.


هوامش:

1- APA Dictionary of Psychology

2 –

3 -ريتشارد واطسون، كتاب عقول المستقبل، ترجمة عبد الحميد دابوه، المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2016، ص: 188

4 –

5 –

6 –

7 –

8 – برتراند راسل، كتاب الفوز بالسعادة، ترجمة سمير عبدة، دار مكتبة الحياة ببيروت، الطبعة الأولى 1980، ص:57

9 –

10-

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أسامة الدسوقي

تدقيق لغوي: شروق ديركي

اترك تعليقا