السعادة الراسلية- قراءة في كتاب غزو السعادة لراسل

ليست مبالغة أن أقول إن السعادة هي مطلب كل البشر على اختلافهم، حتى هؤلاء التعساء باسم الحكمة والفهم العميق كانوا يتمنون لو أن العالم كان معهم أكثر لطفًا.

يتكلم الفلاسفة عن فلسفة السعادة، ويحاضر المدربون عن كيفية العيش بسعادة، ويخطب المتدينون عن سعادة الدنيا والآخرة. إن موضوع السعادة هو موضوع الإجماع بين بني البشر، ولكن عن أي مفهوم للسعادة نتحدث؟ لقد أدت محاولات البشر التي خلدها التاريخ إلى عدة مفاهيم لفهم السعادة، متباينة تباين مشارب البشر ونفسياتهم.

لقد رأى أحد الفلاسفة يومًا أن السعادة تتحقق عندما يعيش الإنسان في برميل، وقد كان يقصد أن يقلص الإنسان احتياجاته إلى الحد الأدنى بحيث يتوافر كل ما قد يريده في هذا البرميل. قد نميل للإعجاب بمثل هذا الرأي الجريء ولكن أكثرنا لن يحب أن يجربه حرفيًّا.

فيلسوف آخر رأى أن السعادة الحقيقية هي سعادة العقل، وثالثٌ قال بأن اللذة هي السعادة. كلها محاولات جديرة بالانتباه والتأمل لعلها تقرب إليك بعض المعاني التي كانت بعيدة عن ذهنك، لكن العبء الفلسفي أو التجريدي لها يجعلها مجافية للتطبيق في الحياة اليومية، وتحتاج لبعض العملية المنطلقة من الواقع المعاش.

السهل الممتنع

ما يجعلني معجبًا بعمل (راسل) في كتابه هذا (غزو السعادة)[i][ii] أنه قرر فيه أن يكف عن أن يكون فيلسوفًا، وتكلم عن تجربته الخاصة بالسعادة. قد يشابه كثيرٌ من القراء بين كتاب (راسل) وبين كثير من الغثاء الذي يخرج علينا تحت اسم التنمية البشرية (تلك التسمية الخاطئة المنتشرة في مجتمعاتنا، والتي تخلط ما بين التنمية البشرية التي تهتم بدراسة وتطوير الموارد البشرية من منظور اقتصادي، وبين تنمية الذات أو مساعدة الذات)، ولكن الفارق هنا أن كتاب (راسل) يحمل شيئًا من الرونق الفلسفي والرؤية الشمولية لفيلسوف ناهز الستين دون أن يصير كتابًا في الفلسفة.

إعلان

يقول (راسل) في مقدمة كتابه إنه “لا توجد فلسفة عميقة ولا معرفة واسعة في الصفحات التالية من الكتاب، وإنما بعض الإشارات المستوحاة مما آمل أن يكون إدراكًا سليمًا”. إن (راسل) في كتابه يتحدث عمّا يمكن أن نسميه (السعادة الأرضية)، إنها ليست سعادة الفيلسوف أو المفكر من برجه الخاص النائي البعيد، وإنما هي سعادة الرجل العادي بما تيسر له من أمور الحياة، حتى لو كان هذا الرجل فيلسوفًا.

لماذا تتطلب السعادة غزوًا؟

يرى (راسل) أن تحقيق السعادة ليست بالأمر الهيّن، ولذلك فهي تحتاج إلى ما يشبه الغزو لتحقيقها. “باستثناء بعض الحالات النادرة، فالسعادة ليست شيئًا كالثمرة الناضجة التي تسقط في فمك بفعل المصادفات السعيدة. ولهذا السبب أسميت هذا الكتاب غزو السعادة؛ ذلك أن في مثل هذا العالم المليء بالمشكلات مما يمكن تلافيه ولا يمكن تلافيه، والمرض، والأزمات النفسية والصراع والفقر وسوء النواياـ مثل ذلك العالم يحتاج فيه الإنسان حتى يكون سعيدًا إلى إيجاد طريقة للتغلب على المسببات المتعددة للتعاسة، والتي تهاجم كل إنسان.

ماذا بِيَد الفرد، وماذا ليس بيده؟

على الرغم من إقرار (راسل) بأن نمط الحياة المعاصرة في المجتمعات الحديثةـ والتي نحن منها رغم كل شيء- مسؤول بشكل كبير عن حالة من التعاسة العامة، إلا أنه يوضح أن مثل تلك المسائل على أهميتها ليست هي موضوع الكتاب، فالكتاب يهتم بالحلول التي في متناول الفرد أن يجربها.

“إن غرضي من الكتاب هو اقتراح علاج لتلك التعاسة اليومية العادية التي يعاني منها معظم الناس في البلاد المتحضرة، والتي مع عدم وجود سبب خارجي لها لا يطيقها الناس؛ لأنها تبدو لا مفر منها. وأنا أؤمن أن هذه التعاسة منشؤها إلى حد كبير الأخطاء المتعلقة بالنظرة إلى العالم، والأخلاق، والعادات الحياتية بما يحطم اللذة الطبيعية تجاه الأمور الممكنة والتي تعتمد عليها بشكل كبير سعادة الإنسان أو الحيوان. هذه الأمور تقع في مستطاع الفرد العادي، وما أنويه هو أن أقترح التغييرات التي يكون من خلالها في مقدور الفرد، ومع توفر مقومات معقولة  للحياة، أن يحقق سعادته.

الانهماك في الذات حجر عثرة

الانهماك في الذات self-absorption هو سلوك يصف الانغماس الكامل في الأفكار حول الذات إلى درجة تجاهل ما سواها. لعل ما يزعج الآخرين بخصوص مثل هذا الشخص هو أنانيته أو عدم مراعاته للآخرين، غير أن مثل هذا الشخص قد يعاني معاناة نفسية شديدة بفعل هذا السلوك، والذي يرتبط بعدة اضطرابات نفسية متنوعة، مثل الاكتئاب والقلق والنرجسية[iii]؛ لأن مثل هذا التركيز يبعث بأفكار وإحساساتٍ نفسية شديدة السلبية عندما يكون هناك ما يهدد الذات حتى لو كان أمرًا يحدث لكل الناس، ككلمة قاسية أو خسارة مالية متوقعة أو شعور بالذنب.

و(برتراند راسل) يبدأ حكايته من طفولته التعيسة التي- في نظره- ترجع تعاستها إلى شيء من هذا القبيل، فيقول “مثل الآخرين الذين تلقوا تربية بيوريتانية [iv] كان لديّ عادة التأمل في خطاياي وحماقاتي وعيوبي، ولقد بدوت لنفسي بلا شك شخصًا بائسًا. وتدريجيًّا تعلمت كيف أكون غير مبالٍ تجاه نقائصي، وتوجهت لتركيز انتباهي كليًّا على أمور خارجية: على العالم، وعلى فروع المعرفة المختلفة، وعلى الأشخاص الذين أشعر نحوهم بالحب. والأمور الخارجية لها أسباب ألمها الخاصة بها؛ فالعالم قد يكون غارقًا في الحروب، وتحقيق المعرفة قد يكون صعبًا، والأصدقاء قد نفقدهم بالموت، غير أن آلامًا من هذا النوع لا تدمر المزية الأساسية للحياة مثلما تفعل تلك الآلام الناشئة عن اشمئزاز الإنسان من نفسه.”

بالإضافة إلى الانهماك بالذات المؤدي إلى الشعور بالذنب، يناقش (راسل) نماذج أخرى من الانهماك بالذات، وماذا يمكن أن نفعل بشأنها مثل: النرجسية وجنون العظمة.

للتعاسة أكثر من وجه

للتعاسة مسببات كثيرة، يتناول (راسل) منها التعاسة باسم الفهم العميق، والمنافسة، والسأم والحسد والشعور بالإثم والتعب وهوس الاضطهاد، والخوف من الرأي العام. يتناول راسل كل مسبب منها في فصل منفرد. ولا يتسع المقال للإسهاب حول موضوع كل فصل، ولكن العِقد الذي تنتظم فيه كل هذه الموضوعات هو طريقة المعالجة الراسلية؛ إذ يعول دومًا لا على إنكار الجانب السلبي في مسبب التعاسة، ولكن على إظهار أنه ليس سببًا كافيًا ومبررًا لكي تفقد سعادتك من أجله.

فعلى سبيل المثال، في الفصل الخاص بالحسد يقول: “إن عادة التفكير على طريقة المقارنة هي عادة قاتلة. عندما يحدث أمر مبهج فيفترض أن نستمتع به إلى النهاية دون التوقف والتفكير في أن ذلك الأمر ليس مبهجًا بنفس القدر الذي قد يحدث لشخص آخر. يقول الشخص الحاسد: «إنه ليوم مشرق، وإنه الربيع، وها هي الطيور تغرد، وها هي الزهور في كامل تفتحها. هذا صحيح، ولكني أدرك أن الربيع في صقلية أجمل بألف مرة، والطيور في غابة هيليكون أكثر عذوبة، وزهرة في سهل شارون هي أجمل من كل الزهور في حديقتي». وبينما هو يفكر في ذلك، تختفي الشمس، ويصبح غناء الطيور زقزقة بلا معنى، وتبدو الزهور غير جديرة بلحظة اهتمام. وسوف يتعامل مع كل مباهج الحياة الأخرى بنفس الطريقة، فيقول لنفسه:

«صحيح، فإن حبيبتي جميلة وأنا أهيم بها وهي كذلك، ولكن لابد أن ملكة سبأ كانت أكثر سحرًا! آه لو أن لي حظًّا كحظ سليمان!» كل هذه المقارنات سخيفة وحمقاء، وسواء كانت ملكة سبأ أو جارتنا هي السبب في الاستياء، فذلك تافه أيضًا؛ فالشخص العاقل لا يتوقف عن الاستمتاع بما في يده لمجرد أن جاره لديه شيء آخر.”

السعادة ما تزال ممكنة

تحت عنوان (هل السعادة ما تزال ممكنة؟)، يبدأ (راسل) الجزء الثاني في كتابه، والذي هو عن أسباب السعادة. في مقارنة ساخرة بين آراء أصدقائه وكتاباتهم وبين ما يراه من حال البستاني، يميل (راسل) إلى أن يصدق البستاني. إن السعادة الإنسانية ما زالت مستطاعة على ألا نفرض لها شكلًا واحدًا، فإمكانات السعادة متعددة، وأمرها بسيط نسبيًّا، شريطة أن نتخلص من أي فكرة مسبقة تحجب عن أعيننا مثل تلك البساطة.

“يعتقد الكثيرون أن السعادة غير ممكنة بدون عقيدةٍ ما من نوع ديني، ويعتقد كثير من التعساء أن تعاستهم لها مصدر معقد وفكري رفيع. وأنا لا أعتقد بأن مثل هذه الأمور هي السبب الحقيقي سواء للسعادة أو التعاسة، بل إن تلك الأمور هي بمثابة الأعراض. وكقاعدة، فالإنسان التعيس سوف يتبنى اعتقادًا متشائمًا، والسعيد سوف يتبنى اعتقادًا متفائلًا. إن كلًّا منهما سوف يعزو تعاسته أو سعادته إلى معتقداته، بينما العكس في الحقيقة هو الصحيح. إن أمورًا معينة ضرورية لسعادة أكثر الناس لكنها أمور بسيطة: المأكل، والمسكن والصحة والحب والأسرة والعمل الناجح والاحترام من المجتمع، وبالنسبة لبعض الناس البنون. وعندما تغيب تلك الأمور، فإن الشخص الاستثنائي وحده هو من يستطيع أن يحقق سعادته.

إنسان (راسل) السعيد

“ليس في طبيعة أكثر البشر أن يكونوا سعداءَ في السجن، والانفعالات التي تسجننا في أنفسنا هي واحدة من أسوأ أنواع السجون”.. هذا ما يفعله الانهماك في الذات الذي يعود (راسل) ليتكلم عنه ليبلور فكرته عن الإنسان السعيد. فمثل هذا الانهماك يجعل الإنسان حبيس فكرة واحدة أو مجموعة أفكار تدور حول مركز هو فيه، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من تذكر قولٍ للرافعي استخدم فيه نفس التشبيه، وهو يقول واصفاً حالة شعورية يائسة تكاد تكون نفس ما تحدث عنه (راسل):

“..وأشد سجون الحياة فكرة خائبة يسجن الحي فيها نفسه، لا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها..”[v]. وإنسان (راسل) السعيد هو “الذي يحيا موضوعيًّا، ولديه انفعالات حرة واهتمامات واسعة، ويستطيع أن يحمي سعادته من خلال هذا الاهتمام والانفعال، واللذان بدورهما يجعلانه محلًّا لاهتمام وحب الآخرين.” فالإنسان السعيد إذن ليس مضطرًّا أن يختار بين أي يحب نفسه أو يحب العالم، فالعلاقة تبادلية؛ فأن تنفتح على العالم يعني بشكل ما أن يبادلك العالم بالمثل.

أرشح مثل هذا الكتاب لكل قارئ مهتم بأن يثري نظرته عن ذاته وعن العالم، فلربما يضيف إليه ويوفر عنه عناء بعض التخبط والاضطراب.

المصادر
[i] Russell, Bertrand. The Conquest of Happiness. London, George Allen and Unwin limited, 1932.
[ii] للكتاب ترجمة عربية بعنوان (غزو السعادة)، بواسطة سمير شيخاني عن دار الأمير، 1995.
[iii] https://www.psychologytoday.com/us/blog/evolution-the-self/201608/self-absorption-the-root-all-psychological-evil
[iv] مذهب بروتستانتي.
[v] وحي القلم.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد أبو الغيط

تدقيق لغوي: تسنيم محمد غالي

اترك تعليقا