لمسات سحرية

سألتُ مجموعةً (تفوق المئة سَيِّدة) من جهات الاتِّصَال المحفوظة لديّ، عن طريقة التَّواصُل الأقرب بالنسبة لهنّ، وطلبت منهنّ الاختيار بين طريقتين للتَّعبيرِ عن المَشَاعِر:

الأولى: التَّواصُل الحيّ وَجْهًا لوَجْهٍ، أو برسائلٍ صوتيَّة.

والثَّانية: الكِتَابة.

هل سيكون هناك اختلاف في الكلمات والعبارات المنتقاة (في الموقف الواحد) تبعًا لطريقة التَّواصُل؟ مع ذكر السَبَب؟

وأرسلتُ ذلك الاستفسار عبر “الواتس آب” برسالتين، إحداهنّ مكتوبة، والأخرى صوتيَّة!

إعلان

لم تكن الرُّدود حاسمة لصالح إحدى الطَّريقَتين، وذلك تبعًا لاختلاف أنماط شخصيَّات صاحباتها، فلكلّ موقف مقتضياته، ولكلّ مُرْسَل إليه منزلة تُحدِّدها طبيعة العَلاقة بينهما. وبعد تجاوز كل ذلك، كانت أغلبيَّة الرُّدود صوتيَّة، أكدّتْ مرسلتها أن اللّقاء الحقيقي أو المكالمة الصوتيّة لها تأثير أكثر عُمْقًا وصدقًا في نقل المَشَاعِر وحُسْن التَّواصُل. كما أنّها تحمل اهتمامًا خاصًا من (المُرْسِل) يتفاعل معه (المُرْسَل إليه) بمثله. واتَّفق الجميع على أن حِدَّة الصَّوت ونغمته ونبرته أقدر على إيصال المَشَاعِر الحقيقيَّة من كلِّ الوجوه التَّعبيريَّة.

ولا يمكنني التَّنبُّؤ بنتيجة استبيان كهذا في عَالَم الرِّجال!

يقول الصَّحفيّ الأمريكيّ دوج لارسون (1926-2017):

“المَنْفَعَة عندما يكون لديك هَاتِف واحد، والرَّفاهيَّة عندما يكون لديك هَاتِفان، والتَّرف عندما يكون لديك ثلاثة! والجنَّة عندما لا يكون لديك أي منها”.

الاتِّصال الحَيّ

إنّ الكَلِمات المُجرَّدة صَمَّاء بَكْمَاء وعَمْيَاء.. والمَشَاعِر لا يمكنها الاكْتِفَاء بالسُّطُور، بل تَتَغلغل بينها، وتذوب إلى ما وراء الصُّور المُتخيَّلة بين السُّطُور.

أما مصدر تلك الخَيَالات والصُّور، فهو كل ما يتغذَّى عليه السَّمع والبصر والفؤاد..

وليس ذلك فحسب، وإنما تُمَارِس الحالة الشُّعُوريَّة الآنية دورًا كبيرًا في دعم الأفْكَار باتجاهٍ دون آخر..

إنّ صَمْت العيون النَّاظِرَة أقدر على سرعة الفهم وصحة الفهم من عشرات بل ومئات الكَلِمَات المَسْطُورة..

ويليه مباشرة حرارة الأصْوَات.

ونحن في زمانٍ عَزَّ فيه اللقاء.. وتَوَافرت فيه المُحَادثات عن بُعْدٍ، فغلب سوء الأفهام على معظم الكلام!

مُحَادثة قصيرة جدًا

سألتها سؤالًا.. فكتبتْ لي على الواتس آب:

  • لا أعرف.

فقط هذه الكلمة!

دون أي وجهٍ مُعبِّرٍ أو إشارةٍ أو علامةٍ تدل على حالتها النَّفسيَّة..

تُرى ما الذي تعنيه بكلمة لا أعرف؟!

لقد وضعتني كلمتها اليتيمة في حيرةٍ من أمري، فهل كانت تقصدها حقًا؟

أم أنّها أرادت اختصار المُحَادثة ولَجْم كلماتي عن التدفُّق، مُحَاوِلة كشف نواياها؟!

وبدوري خفتُ أن أردّ أو لا أردّ؛ فإذا قرَّرتُ عدم متابعة الحديث فلربما ظنَّت أني لا أهتمّ لأمرها، أو أني تضايقتُ من ردها البارد.

وإذا واتتني الشَّجَاعة وبدأتُ بالكتابة، فماذا سأكتب؟

هل أقتحم تحفظّها الواضح وأسألها الإيضَاح؟

أم أتجاهل معاني كلمتها المُريبَة، وأكمل الحديث في موضوعٍ آخر وكأنّ شيئًا لم يكن.

كان لسان حالي يقول: يا إلهي، أعِنّي على ردٍّ مُحَايدٍ لا يترك في نفسها مجالًا للشَكِّ، أو توهُّم الغلبة. عليَّ أن أكون حذرة إلى أبعد الحدود، فكلّ حروفي ووجوهي التَّعبيريَّة ستَنمّ عمّا يجول في خاطري..

شعرتُ بالارتياح لأننا نتحادث على “الواتس آب” وليس وجهًا لوجه. وحمدت الله تعالى على وجود فرصة أمامي لدراسة كلماتي، وانتقاء تعبيراتي بدِقَةٍ تامة.

وحتى لو تأخرتُ في الرَّد، فلا أزال أملك أعذارًا كثيرة لذلك.

من الطبيعيّ أن أكون مشغولة بأمرٍ آخر، أو أني لم أقرأ رسالتها بعد، أو أن الاتصال بالإنترنت ضعيفٌ لديّ، ولكن.. هي معركتي التي يجب أن أنتصر فيها انتصارًا ساحقًا، وأن أبدو فيها مالكةً لزمام أمري، وأن تكون إجابتي قوية دون فظاظة، لطيفة دون ضعف، متعاطفة دون تكلُّف، ودودة دون تبعات أو مسؤولية.

وفوق كلّ ذلك عليها أن توحي بالفهم والتقدير مع شيءٍ من الحيادية المأمونة العواقب.

وبعد تفكير طويل استغرق ثوانٍ عديدة، استجمعتُ شجاعتي وطاقتي وأرسلتُ لها: وجهًا مُغمَض العينين متبسمًا ببراءة.

أصبحت الكُرة الآن في ملعبها، وهي ستتوقَّف هناك لفترةٍ على الأغلب، وهذا ما كان!

لطالما اعتقدتُ أنه لا يمكن نقل المَشَاعِر الحاليَّة عبر رسائلٍ أو صورٍ مُسْبَقة الصُّنع، لذلك اعتدت أن أكتبَ عبارات التَّهنئة بنفسي، وأرفقها باسم الشَّخص المعنيَّ بها كي تكون حقيقيَّة.

ما لَم نكن نَعْلَم

علَّمتنا تلك اللمسات السحرية أن نقول ونصمت..

ونهتم ونتجاهل..

ونجرح ونُدَاوي..

وأنّ فعل اللّقاء الطبيعيّ البسيط بين شخصين أو أكثر، والذي كان ينتهي بتحية الوداع، يعود ليُستَكمل من خلال كلمات أو صور أو تعبيرات افتراضيَّة مُسْبَقة الصُّنْع، تشرح وتوثِّق ما كان من نظرات العيون وحرارة الصَّوت وكل لُغات الجسد.

علَّمتنا أن نقول كلمات لم نكن لنفكر فيها من قبل.

قد تنتابنا أحيانًا عدوى اللَّمس، فنستجيب لأي حرفٍ أو تنبيهٍ صوتيٍّ أو مرئيٍّ.

ويحدث مرَّات أن نصمت في حَرَم الجمال واستفزاز القُبح على حَدِّ سواء.

وفي كلتا الحالتين قد يحرِّكنا العَجْز عن التَّعبير أو العناد أو حتى نوبة مزاجيَّة حمقاء.

يحدث أن نكون تحت تأثير التشويش الذي تخضع له عقولنا وحواسنا بسبب تعدُّد مصادر التنبيهات بين العَالَم الواقعيّ والافتراضيّ، فنثرثر ونثرثر بلا وعيٍ!

تدفعنا إلى ذلك لذَّة عجيبة تُفقدنا الإحساس بمرور الوقت.

لقد علَّمتنا تلك اللَّمسات لزوم الأدب أو التطرُّف فيه أحيانًا، كما منحتنا الجرأة على قلة الأدب كثيرًا..

ورأينا الحياة تُعَاش على الأرض لكنها تُترجَم من خلال الشَّاشات إلى لُغةٍ واحدة..

تضم كل حروف لُغَات العَالَم.

اعترافٌ صغير: كنت سابقًا أتجنَّب استعمال الـ”emojis” لأنّ الجميع يستعمل التَّعبيرات نفسها بلا أيّ خصوصيَّةٍ..

لكنّي غيَّرت رأيي بعد فترةٍ قصيرة؛ فالكلمات المكتوبة وحدها جافَّة، وقد توحي لمتلقِّيها بعكس ما نشعر به عند إرسالها.

overdose

إنّ لكل دواءٍ جُرعة محدَّدة المقدار والوقت، يصبح ضعيف التأثير أو ضارًا بأقل منها أو بتجاوزها. وقد أغرقتنا وسائل التَّواصُل بمشاعر التعاطف مع أحوال الآخرين، وفي كل مكان، حتى صرنا نمُرّ بأصابعنا على البركان والسَّيل والإعْصَار والحَرْب دون أن يمسّها أو يمسّنا منها أي سوءٍ!

اِحفظ.. اُمحُ!

وبما يشبه السِّحْر، لكن بلا نفث في العُقَد أو تعويذات غريبة، بلَمسة واحدة ينتهي كل شيءٍ وكأنه لم يكن، ولَمسة أخرى تحفظ ما نشاء لتحوله إلى ذكرياتٍ للمستقبل..

وهي عمياء في الحالتين؛ لا تميِّز بين لَمسة إراديَّة أو غير إراديَّة.

كيف جعلتنا تلك الأجهزة الصغيرة أذكياء أغبياء في الوقت نفسه؟!

وقد حدث أن عجزتُ مرَّة عن إيصال معلومة بسيطة إلى إحدى طالباتي، بينما فاجأتني بدورها بسرعة استجابتها وقدرتها على التعامل مع هاتفها المحمول بكل ما فيه من تطبيقاتٍ (والتي تفوق قدراتي بكثير).

تقول عَالِمَة الوبائيَّات والكاتبة الأمريكيَّة ديفرا ديفيس (1946):

“يمكنك فعل شيء جذري حقًّا، وهو إيقاف تشغيل هاتفك واستعادة حياتك الخاصَّة”.

أطْوَارٌ غَرِيبة

أعجز أحيانًا أمام تلك الأيقونات المضيئة عن فهم نفسي، فأجدُني أتجاهل مهمًّا وأكرِّر النَّظر إلى ما هو أقل أهميَّة منه!

وتُغْرِيني حركة البحث والاكتشاف وتَدَفُق المعلومات اللا نهائيّ، وقد تُوقفني وتُجمِّد أفْكِاري أمام صورة أو مشهد عابر وقعتُ عليه خطأ أو بمحض الصُّدْفَة.

ماذا بَعْد؟!

هل حوَّلَنَا عَالَم الإنترنت من مخلوقاتٍ اجتماعيَّة، يُشكِّل التَّواصُل مع الآخرين جزءاً محوريًا في حياتها، إلى مخلوقاتٍ تَسْبَح في محيطٍ عميقٍ من الاتصالات، فلا تعود منه بما يَروي ظمأها بل يزيدها عطشًا؟!

وهل نُنْكِر أنها تَغَلغَلَت في تفاصيل حياتنا وسجنتنا بين أكوام الحُرِّيَّات والأفْكَار؟

تقول الكاتبة والإذاعيَّة الأمريكيَّة أريانا هافينفتون (أثينا-1950):

“يتحقَّق مُسْتَخدِم الهَاتِف الذَّكيّ العاديّ من أجهزته كل ست دقائقٍ ونصف”.

إن كنتَ تُحِبّني فابتعد عنّي كثيرًا!

أجد السَّعادة كل السعادة، والرِّضا كل الرِّضا في تَحَدٍّ قدرة نفسي بالابتعاد عنها، والانْشِغَال بما خططت له على مُفَكِّرتي ولو لساعاتٍ قليلةٍ.

وتطير بي دهشة وانبهارًا كلما عدت إليها، لتأخذني إلى عَوَالِم لم أختبرها حتى في أحلامي..

وهل ألذّ من أن تكون الأرض كلها بين يديك، بكل ما فيها، متى شئت وأنت في مكانك لم تتحرَّك؟!

انتبه: بعد الدخول إلى عَالَم تلك الأجهزة الصَّغيرة الذَّكيَّة تنتظرك كل الاحتمالات:

الغَرَق..

التَّشَتُّت..

التذكُّر أو النِّسْيَان.

ولا نَمْلُك من أمرنا شيئًا في أغلب الأحيان إلا إضاءة اللَّمْسَة الأولى.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ذُكاء عبد الرّحمن

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا