في رفقة الملل

تجعلنا وتيرة الحياة المتسارعة نعتقد أنه لا مكان للملل في الحياة، بل ونكاد نجزم أننا استطعنا أن نتوصل إلى علاج له، فالعصر الحديث أتاح وصول عدد كبير من الناس إلى وسائل وأدوات مختلفة ومتنوعة يستطيعون من خلالها أن يجدوا ما يشغل أوقاتهم، ولكن هل الملل حقًا مشكلة تستوجب الحل؟ يقول برتراند راسل: “إننا نشعر بالملل أقل مما كان يشعر به أسلافنا، إلا أننا نخشى الملل أكثر منهم” (غزو السعادة، راسل)، في حين يقول جورج برنانوس “لو قُدِّر للجنس البشري أن يختفي، فالسبب هو السأم أو الملل”.

لابد وقبل كل شيء أن نتذكر أن الملل جزء من طبيعة الإنسان، ولعله جزء محير لا يمكن معرفة مكانه من الإدراك أو الشعور، إلا أن أثره كبير جدًا، هنالك أوقات يشعر فيها الواحد منّا وهو في خضم القيام بعملٍ كمشاهدة فيلم أو قراءة كتاب أو حتى مزاولة الأعمال اليومية الاعتيادية أن شعورًا باردًا يتسلل إليه يدفعه إلى ترك ما يقوم به على أمل أن يعود إليه بعد أن يتخلص من هذا الشعور، وفي كثير من الأحيان نطلق على هذا الشعور اسم الملل، ربما لو كان هذا الشعور مقتصرًا على حالاتٍ كهذه لكان التخلص منه سهلاً يسيرًا ولو لحين، إلا أنه قد يمتد ويصل بالإنسان إلى حالة من الملل العام التي تهيمن على كل شيء.

الملل في العصور الوسطى خطيئة!

لو كنا في العصور الوسطى المسيحية لوجدنا أن شعورنا بالملل من كل شيء يعتبر خطيئة، بل أن الملل هو الشيطان الذي يهيمن على النفس ويمنعها من القيام بواجباتها، والحديث هنا عن الواجبات الدينية لرجال الدين أو الزُهّاد والمتبتلين ممن كانوا يعزون هذا “الكسل الروحي” إلى الشيطان، فلو أن الإنسان يعيش في دنيا الله وقد وُهب هذه النعم جميعًا، ثم سيطر عليه الشعور بالملل واستسلم له، فلابد وأنه قد وقع في الإثم، ومن هنا كان لابد من يقظة دينية تبعده عن هذا الشعور. وتشير كلمة acedia إلى هذه الحالة، وهنالك من يعتبر أن خطيئة الكسل sloth وهي إحدى الخطايا السبعة المميتة seven deadly sins في الموروث المسيحي تُعبر عن الفتور وانعدام الرغبة في القيام بشيء، حتى الأعمال الدينية المهمة، بسبب هيمنة هذا الشعور؛ أي أن خطيئة الكسل مردّها في الأساس إلى الملل.

الملل فلسفيًا

أما شوبنهور فهو القائل أن حياة الإنسان تتأرجح بين “الألم والملل”، ومعه يكتسب الملل بعدًا وجوديًا، فالإنسان يعاني من قلق وجودي يورثه الملل، وهذا القلق مؤدّاه أنه في سعيٍ متواصل باتجاه رغباته، ولكنه حتى وإن حصل عليها وحققها لا يشعر بالرضا لأنه يكتشف رغبته بأشياء أخرى تجعله يسعى حثيثًا إليها، وعندما يدرك الإنسان هذه الدائرة المتكررة العبثية ينتابه الملل، وقد يردد مع سينيكا تساؤله القائل: “إلى متى ينبغي لي أن أحتمل تكرار الأشياء ذاتها؟”

ويوازي اهتمام شوبنهاور بالملل فلسفيًا اهتمام الفيلسوف الدنماركي كيركيجورد الذي اعتبر الملل إشارة إلى فقدان المعنى وليس افتقارًا لما يشغل الإنسان، وقد تحدث عن الملل في كتابه (إما/أو) قائلاً: “كم هو مدعاة للفساد هذا الملل…، ولأن الملل يتطور ولأن الملل هو أصل الشرور جميعًا، فلا عجب إذًا من أن يسير العالم القهقرى، ومن أن تعم الشرور، ويمكن أن نجد أثر هذا الأمر منذ بدأ الخليقة، فالآلهة أصابها الملل؛ فخلقت البشر، وآدم أصابه الملل من الجلوس وحيدًا؛ فلذلك خُلقت حواء، منذ ذلك الحين دخل الملل إلى هذا العالم وبات ينمو ويتسع مع ازدياد عدد البشر”، وهكذا يرتكب البشر الجرائم لأنهم فقط يرغبون في قتل شعورهم بالملل.

إعلان

أما إيريك فروم فهو يشير إلى المسألة قائلاً: “أعتقد أن كلمة “أشعر بالملل” لا تحظى بالاهتمام الذي ينبغي أن تحظى به فعلاً، فقد نتحدث عن شتى الفظائع التي يمكن أن تصيب الناس، ولكن نادرًا ما نتطرق لواحدٍ من أفظع الأمور ألا وهو الشعور بالملل، سواء كان شعور الإنسان بالملل لوحده، أو الأسوأ من ذلك شعور الناس بالملل مع بعضهم البعض”، ويعتبر فروم العصر الحديث وبالتحديد التحول الصناعي الذي شهده سببًا في تفشي الملل، فالنزعة الاستهلاكية تخلق هذا السعي الحثيث باتجاه الاستهلاك والحصول على الكثير من السلع دون هدف واضح من امتلاكها، وهو ما يفاقم مشكلة الملل، فهذه الأمور قد تعمل على تشتيت الفكر فقط، “إن الإنسان الحديث يشعر أنه يفقد شيئًا -الوقت- إن لم يقم بالعمل سريعًا، ولكنه لا يعلم سوى قتل الوقت وسيلةً للتعامل مع الوقت الذي يكتسبه”.

التعامل مع الملل

وقد حاول البعض ليس وصف الملل وحسب بل وإيجاد طريقة للتعامل معه، وها هو ذا ابن حزم الأندلسي يصف “هجر الملل” في الحب وكيف يمكن أن نتعامل مع الشخص الملول:

والملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان، وأحرى لمن دُهي به ألا يصفوه صديق، ولا يصحَّ له إِخاءٌ، ولا يثبُتَ على عهدٍ، ولا يصبر على إِلفٍ، ولا تطولَ مساعدتُه لمُحبٍ، ولا يُعتَقد منهُ ودٌ ولا بُغض… فلا تثقْ بمَلولٍ ولا تَشغلْ نفسكَ به، ولا تُعنهَا بالرَّجاءِ في وفائِه، فإذا دفعت إلى محبته ضرورة فعُدَّه ابن ساعتِه، واستأنفه كلَّ حينٍ من أحيانِه بحسب ما تراهُ من تلوّنه، وقابله بما يُشاكله(طوق الحمامة، باب الهجر)

وليس كل الملل سيئًا؛ فهناك مَن يعتبر أن هذا الشعور قد يشكل دافعًا للبحث عمّا هو جديد، عن شيءٍ يقتل الملل فيتولد من ذلك الإبداع، يقول الفيلسوف الإسكتلندي توماس كارليل: “طموحي أن أموت من الإرهاق لا من الملل”، فالانشغال الجاد بالعمل هو أكثر ما يمكن أن يبعد الإنسان عن جحيم الملل، كما وصفه الكاتب الفرنسي فكتور هوجو: “هناك شيءٌ أكثر فظاعة من جحيم المعاناة، وهو جحيم الملل”.

ولا يسعني في النهاية إلا أن أقول أن الملل قد تمكّن مني مراتٍ عديدة قبل أن أُنهي كتابة هذا المقال، ولو أنك أيها القارئ قد بلغت هذا المبلَغ في القراءة فيمكنني القول أنك لم تشعر بالملل مما قرأته!

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا