سيكولوجية التسعير: أثر العوامل النفسية على إدراك الناس للأسعار

قبل أن ندلف إلى الحديث عن سيكولوجية التسعير ودور الاقتصاد السلوكي في الكشف عنها، قد يكون من المناسب الإشارة إلى أنّ علم الاقتصاد التقليدي في نموذج عمله القياسي يفترض أنّ العالم يسكنه بشر يسعون لتعظيم منفعتهم ويتخذون قرارتهم الاقتصادية بشكل عقلاني لا يحكمه العواطف، واصطلحوا على تسمية أفراده “الإنسان الاقتصادي Homo Economicus”، واستبعد النموذج القياسي للاقتصاد نتائج الدراسات الاجتماعية والنفسية التي أجريت على البشر على أساس أن النموذج القياسي أبسط وعملي وثبتت صحته في مواقف كثيرة وقادر على التنبؤ بشكل كبير بالقرارات الاقتصادية للأفراد. ويتضمن النموذج الاقتصادي القياسي ثلاث سمات رئيسية للسلوك الاقتصادي للفرد، عقلانية غير محدودة، وإرادة غير محدودة، وأنانية غير محدودة، وهي الصفات التي تدخل الاقتصاد السلوكي لتعديلها، مشيرة إلى أنّ هناك اختيارات وتصورات فردية تنحرف في أحيان كثيرة عن القواعد المنطقية والعقلية.

وكان عالم الاقتصاد هربرت سيمون الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام ١٩٥٥ من أوائل نقاد فكرة الإنسان الاقتصادي homo Economicus صاحب القدرات العقلية القادرة على التعامل مع كل المعلومات التي تفد إليه، واقترح مفهومًا جديدًا أسموه “العقلانية المحدودة bounded rationality” والذي يرى أن القدرات العقلية يحدها المتاح من الزمن وحجم القدرة العقلية القادرة على معالجة المعلومات المتاحة في وقت محدد. ووفقًا لمفهوم العقلانية المحدودة، فإنه من غير العقلاني أن نتوقع خروج قراراتنا الاقتصادية على الوجه الأمثل. وإزاء هذا، لجأ الناس إلى عدة قواعد بسيطة يستخدمونها في اتخاذ قراراتهم في الوقت المحدد بما يوفر من استخدام الموارد العقلية النادرة التي لا تستطيع التعامل مع هذا الحجم من القرارات والمعلومات التي يلزم أن نتخذها يوميًا، هذا إلى جانب وقوعهم في فخ العديد من الانحيازات المنطقية والتي على أساسها يتخذون قراراتهم الاقتصادية.

وعلى رأس المجالات التي تظهر فيها لاعقلانية القرارات التي يتخذها الناس يأتي التقييم السعري للمنتجات من قبل المستهلكين، حيث كشفت العديد من الأبحاث المثيرة في مجال سيكولوجية التسعير أن مجرد تغيير طفيف قد يدخله البائع أو خبير التسويق على سعر أحد المنتجات يمكن أن يزيد، سيكولوجيًا، من احتمالات ورغبة المستهلك لشراء المنتج، وأنّ تقييم الناس للأسعار قد لا يعتمد في الكثير من الأحوال على القواعد الصارمة للعرض والطلب في الاقتصاد التقليدي. وفِي الواقع، إن تسعير أي منتج يتجاوز مفهوم هامش الربح إلى كونه أسلوبًا تسويقيًا. يمكن لفهم سيكولوجية التسعير أن يساعد نشاطك التجاري على زيادة حجم المبيعات حيث يجب أن تتجاوز بتفكيرك مجرد تغطية نفقات التشكيل ودفع الالتزامات وتحقيق مكسب تنافسي، بل عليك أن تختار السعر الذي يجذب الزبائن إلى الشراء.

سيكولوجية التسعير في الاقتصاد السلوكي

يتخذ الفرد يوميًا آلاف القرارات، ونسبة كبيرة من قراراتنا نأخذها بدون تفكير باستخدام وسائل يطلق عليها في علم النفس (الاستدلالات السريعة heuristics)؛ وهي مجموعة من الاختصارات العقلية التي تتيح اتخاذ قراراتنا اليومية بصورة سريعة، لكن للأسف تؤدي هذه الاختصارات أحيانًا إلى العديد من الأخطاء أو القرارات غير المنطقية. ولقد أشار علماء الاقتصاد السلوكي والنفس والتسويق العصبي الذين يرون ضرورة إدخال العوامل النفسية والاجتماعية والعصبية ضمن النموذج القياسي للاقتصاد إلى وجود آليات محددة تحكم تصور الفرد عن الأسعار وتقييمه له، نذكر من أمثلتها:

(1) ارتساء الأسعار Price anchoring

لو دخلت محلًّا لشراء قميص بـ ٣٠٠ جنيه، وأخبرك أحدهم أنّ محلًا على بعد ٢٠ دقيقة تقريبًا يبيع نفس القميص بتخفيض ١٠٠ جنيه، فمن المرجح أن تترك هذا المحل وتشتري من الآخر. عين العقل!! العجيب أنك لو ذهبت لشراء سيارة بـ ٣٠٠ ألف جنيه من أحد المحلات، وأخبرك أحدهم أن هناك محلًا على نفس المسافة يبيع نفس السيارة بتخفيض ٢٠٠ جنيه، فإنك على أكثر ترجيح ستستمر في شرائك متجاهلًا هذا التخفيض.

إعلان

ويعني هذا أنك رأيت “المائة” أعلى قيمة من “المائتين”؛ لا تستغرب، فإن الناس لا تستطيع الحكم على الأمور في “المطلق” ولكنها تحكم “بالنسبي”.. ومن ثم باتت 100 جنيه في حالة القميص أهم من ٢٠٠ جنيه في حالة السيارة.
ويسمي علماء النفس هذه الظاهرة Anchoring أو “الارتساء”، وهي ترجمة صعبة لكنها تفي بالغرض. ويمكن الاستفادة منها في التسويق، فإذا كنت -مثلًا- تريد بيع سلعة راكدة عندك، فضعها وسط سلعتين متشابهتين، إحداهما منخفضة السعر جدًّا، والأخرى أعلى سعرًا بكثير؛ سيشتري الناس الوسطى، إذ هم يستبعدون السلعة ذات السعر الأدنى جدًّا، خشيةً من ضعف الجودة، وذات السعرالأعلى لأنها “غالية”. هذه عاداتنا في الشراء، وهذه سيكولوجية التسعير.

2- سحر المجاني و سيكولوجية التسعير

يعشق الناس ”المجاني“، حتى ولو لم يكونوا يحتاجون إلى السلعة؛ فكم رأيت من طوابير طويلة من البشر يقفون في كارفور -مثلًا- للحصول علي قلم رصاص مجاني! وقد تدخل محلًّا للملابس يعرض قمصانا للبيع ( 2+ 1 مجانًا) أو 3 بسعر 2، فتقوم بالشراء رغم أنك لست محتاجًا لقمصان. بل والغريب أن أثر كلمة ”مجانا“، بالنسبة لأحد القمصان الثلاثة، أكبر بكثير في الجذب من أثر البيع بتخفيض.

3- تأثير تاريخ الميلاد

افترض أن عيد ميلادك هو 14 يوليو، وعيد ميلاد أخيك ١٠ يوليو؛ هل تعتقد أن هذا يزيد من احتمال شرائك لكتاب قيمته ١٤ جنيهًا، بالقياس إلى أخيك؟ الإجابة: نعم، وفقًا لدراسات سيكولوجية التسعير ، وربما أكثر احتمالاً حتى ولو كان سعر الكتاب 12 دولارًا! ويرجع ذلك إلى أن تواريخ ميلادنا علامة تميزنا عن الآخرين، فعادةً ما نختار أرقام الحظ، أو شفرة حسابنا على الفايس بوك، من تاريخ ميلادنا؛ أو -إذا كنّا أكثر حذقًا- نعكس رقم ميلادنا مع سنواتنا، إضافةً إلى الشهر الذي ألقانا فيه الله الى العالم. هذا إلى جانب آلاف المرات التي اضطررنا فيها إلى تسجيل تاريخ ميلادنا. كل هذه العناصر في إطار سيكولوجية التسعير  تجذبنا ببراعة إلى هذا الرقم دون ان ندري.

الدراسة

وفِي إحدى الدراسات الحديثة (Name-Letters and Birthday-Numbers: Implicit Egotism Effects in Pricing)اختبر اثنان من علماء النفس، كيث كولتر ودرو جريوال، قوة أثر “تاريخ يوم الميلاد” في قرارات الناس الشرائية؛ فقد أخبروا المجموعة الأولى من العينة أنهم يمكنهم شراء عشاء من الماكرونة والدجاج من مطعم محلي بتكلفة ترويجية قدرها 39 دولارًا. وقالوا للمجموعة الثانية نفس المعلومات، ولكنهم غيروا السعر قليلًا لكل شخص، ليشمل رقم تاريخ الميلاد. على سبيل المثال: إذا ولد الشخص يوم 26 ديسمبر، فستتكلف وجبة العشاء 39.26 دولارًا، وإذا ولد شخص آخر في 8 أكتوبر، فسيتكلف العشاء 39.08 دولارًا.

وأخيرًا، وللتأكد من أن مجرد إضافة عدد من السنوات إلى السعر ليس هو العامل الحاسم، فقد أخبروا المجموعة النهائية من الأشخاص أن تكلفة العشاء تبلغ 39 دولارًا وعددًا من السنتات مغايرًا لتاريخ ميلادهم. وبعد ذلك سألهم الباحثون عن احتمالية شرائم لوجبة العشاء الرخيصة هذه. وجاءت النتيجة مدهشة، فمقارنةً بالأشخاص الذين عرضوا عليهم سعر 39 دولارًا فقط، والفئة التي عرضت عليها الأسعار مع عدد من السنتات مغاير لتاريخ ميلادهم، كانت الفئة التي عرض عليها السعر بتكلفة ٣٩ دولار مع عدد من السنتات يطابق تاريخ مولدهم هي الأكثر رغبة وأعلى احتمالًا لشراء هذا العشاء. ويعني هذا أنّ مجرد تطابق مع يوم مولد أحد المستهلكين يمكن أن يعزز بشكل خفي من رغبته في الشراء، وذلك في إطار عمل سيكولوجية التسعير

3- تأثير الفاصلة Comma

هل تعتقد أنّ احتمالات شرائك للاب توب، على سبيل المثال، تختلف إذا كان سعره 1200 دولار عن سعره إذا كان 1,200 دولار (لاحظ الفاصلة)؟ على الرغم من أنّ هذا يبدو في نظر أي إنسان عاقل رشيد نفس السعر، فإن هذه الفاصلة الصغيرة تحدث فارقًا قويًا في إدراك وتصور الشخص للسعر.

الدراسة

طلب الباحثون في مجال سيكولوجية التسعير من أفرادِ عينةِ الدراسة الاطلاع على نسخ متعددة بأسعار أجهزة اللاب توب، في إحداها كُتبت الأسعار باستخدام الفاصلة (مثل 1,858 دولار)، وفِي الأخرى بدون فواصل (مثل ١٨٥٨)، وسألوا الناس عن تقديراتهم لأسعار الأجهزة من حيث الارتفاع أو الانخفاض. والمدهش، كما كشفت الدراسة، أن الناس قد شعروا، في المتوسط، أن الأسعار التي شملت الفاصلة أكبر من تلك التي كتبت بدون فواصل.

وعني هذا أن مجرد تغيير بسيط في الطريقة التي يعرض بها الناس أسعار منتجاتهم يؤثر على إدراك الناس لهذا السعر ومدى تقبلهم له، ولذلك ننصح باستبعاد الفاصلة من بطاقات الأسعار.

4- تأثير حجم الخط Font

افترض مثلًا أنني أريد أن أبيع كتابي الذي نشرته العام الماضي بتخفيض كبير هذا العام عن سعره الأصلي، وليكن مثلًا ١٠ جنيهات بدلًا من ٥٠ جنيه، ما هي أفضل صورة يجب أن أعلن بها عن سعر البيع الجديد خاصة بالنسبة لحجم فونت السعرين؟
تشير أبحاث علم سيكولوجية الأسعار إلى أنه من الأفضل أن أعرض سعر البيع الجديد بخطّ حجمه أصغر بكثير من خطّ السعر الأصلي (أي نكتب الخمسين مثلًا بخطّ حجمه ٢٥ ونكتب العشرة بخطّ حجمه ١٥). ويرجع هذا إلى أننا ندرك أن الحجم الأصغر يتماشي نفسيًا مع فكرة السعر الأقل.

الدراسة

ولقد أظهرت دراسة بعنوان (Size Does Matter: The Effects of Magnitude Representation Congruency on Price Perceptions and Purchase Likelihood) أجريت حول الصورة الأفضل ليظهر فيها إعلان عن تخفيض سعر أحد السلع (بخطّ أكبر من السعر الأصلي أم أصغر؟) ان الناس الذين شاهدوا سعر البيع بحجم خطّ أصغر من الأصلي كانوا أكثر إقبالًا ورغبة في شراء السلعة مقارنة بالذين شاهدوا هذا السعر بنفس حجم خطّ السعر الأصلي أو أكبر منه. وهذه احدى اليات عمل سيكولوجية التسعير

5- تأثير الترتيب التنازلي للأسعار

كشفت الدراسة (The Influence of Price Presentation Order on Consumer Choice) التي أجراها الدكتور كوانهو سو الكوري التي أجريت على أسعار الأنواع المختلفة من البيرة في البارات في لندن، أنه عند تقديم قوائم الأسعار بالترتيب التنازلي للأسعار (الأعلى فالأقل، وهكذا)، وقوائم بأسعار البيرة مرتبة تصاعديًا من الأصغر إلى الأعلى، أن الناس في حالة القوائم التنازلية تختار أنواعًا أعلى سعرًا من حالة القوائم التصاعدية، حيث يتأثر الناس عادة بما يقرأونه أولًا.

6- قاعدة المائة rule of 100

افترض أنك تبيع “خلاطًا” قيمته ٥٠ دولار، هل من الأفضل أن تكتب في الإعلان الخصم بالنسبة المئوية ٢٠٪ أو بالرقم المطلق وقيمته ١٠ دولار؟ وبحسابات بسيطة نكتشف إن الاثنين نفس القيمة، لكن الغريب أنّ أحدهما يتمتع بميزة نفسية عن الأخرى. ووفقًا لدراسة كشفت عنها الدكتورة جوان برجر (٢٠١٣) في كتابها (contagious why things catching) أنه إذا كانت الأسعار أقل من ١٠٠ أو سعرًا قليلًا نسبيًا فإنه من الأفضل كتابة الخصم في صورة “نسبة مئوية”، أما إذا كان أكبر من ١٠٠ أو كبيرًا عمومًا فإنّ كتابة الخصم بالرقم المطلق يكون أكثر تأثيرًا وفقا لمباديء سيكولوجية التسعير ،  على عقلية المستهلك من النسبة.

الخلاصة

إن تسعير أيّ منتج يتجاوز كثيرًا من العوامل الملموسة المرتبطة بالسعر -مثل التكاليف والأسعار المنافسة والأجور. وعليه أن يُعنى بالاستجابة العاطفية التي يظهرها المستهلك تجاه الأسعار، وكيفية التأثير النفسي على قدرة المستهلك على إدراك السعر وتصوره، او ما نسيمه اختصارًا بسيكولوجية التسعير.

إعلان

مصدر دراسة دراسة دراسة
فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

تدقيق لغوي: ضحى حمد، محمد ثروت

اترك تعليقا