رحلة في تاريخ الفكر الاقتصادي من التنظير إلى التجريب

استعراض تاريخي

شهد الفكر الاقتصادي “economic thought” تغيرات كثيرة في السنوات الأخيرة؛ فأصبح أكثر اعتمادًا على التجريبية، وتركيزًا على البيانات والبراهين أكثر من الافتراضات النظرية. وفي دراسة أجراها هنريك كيلفين- عالم الاقتصاد بجامعة برينستون الأمريكية- قام بمراجعة عدد ضخم من الأبحاث والدراسات الصادرة عن المكتب الوطني للبحث الاقتصادي في أمريكا على مدار عدة سنوات، وكشف عن اتجاهات لافتة للنظر، على رأسها التصاعد المستمر في الاتجاه التجريبي في الاقتصاد، واللجوء إلى برامج الذكاء الاصطناعي لاختبار النماذج الاقتصادية على أسس بيانات واقعية حقيقية.

ويمكننا القول أن علم الاقتصاد الذي تطور من مجرد علم لإدارة شئون المنزل في زمان الإغريق ليصبح فرعًا من الدين تارة وتارة فرعًا من الأخلاق ثم الفلسفة، قد قطع صلاته بكل هذه الأصول، لينضم إلى صفوف العلوم الاجتماعية، وهو الآن يقترب ويقتبس بشدة من العلوم الطبيعية ومنهجها. ولقد استفاد من ثورة البيانات والتقدم التكنولوجي في إعداد النماذج القوية لشرح السلوك الاقتصادي. وفيما يلي استعراض لتاريخ تطور هذا الفكر من المدرسة الكلاسيكية للفكر الاقتصادي إلى الاقتصاد السلوكي والعصبي والتطوري evolutionary and neuroeconomics.

أولًا: الاتجاهات التنظيرية في الفكر الاقتصادي

١- المدرسة الكلاسيكية

يتفق المؤرخون على أن الفكر الاقتصادي الحديث قد بدأ مع آدم سميث وكتابه العظيم “بحث في طبيعة وأسباب ثورة الأمم”. ولقد وضع سميث، الفيلسوف الإنجليزي الشهير (لم يظهر بعد مهنة أو توصيف “اقتصادي” أو عالم اقتصاد في هذا الزمان)، العناصر التأسيسية للمدرسة الفكرية التي أصبحت معروفة فيما بعد باسم الاقتصاد الكلاسيكي.

ووفقًا للمدرسة الكلاسيكية، فإن الاقتصاد يؤدي أفضل أدائه عندما تترك للأسواق حرية العمل من خلال آلياتها. وبكلمات أخرى، عندما تستخدم الحكومة منهج «دعه يعمل، دعه يمر» وترفع يديها عن الأسواق تمامًا. وتبنت المدرسة الكلاسيكية فكرة أن الأسعار  قادرة على توزيع الموارد بكفاءة، كأن النشاط الاقتصادي موجه بأيد خفية. ودافعت المدرسة الكلاسيكية عن التجارة الحرة والتخصص وتقسيم العمل، كما اعتقدوا أن الأسعار مشكلة يمكن أن تحلها الأسواق في النهاية، لو تركت لتمارس عملها بحرية من خلال آلية الأسعار، والتحرك قدمًا بالاقتصاد صوب التوظيف الكامل. وبدأت هذه المدرسة بآدم سميث، وضمت اقتصاديين مشاهير آخرين ارتبطت أسماؤهم بهذه المدرسة، مثل: توماس مالثوس، ودافيد ريكاردو، وجون بابتيست ساي، وجون ستيوارت ميل.

٢- المدرسة الماركسية

ربما تعد الماركسية فلسفة سياسية أكثر منها مدرسة للفكر الاقتصادي؛ حيث ركز المانفيستو الشيوعي، الذي نشره كارل ماركس وفريدريش إنجليز عام ١٨٤٨، على الانتقادات التي وجهاها للرأسمالية، وتوقعا أن تحل الاشتراكية محل الرأسمالية في يوم ما، وبعدها تتنزل الشيوعية بكل خير وعدل على الدنيا. وتركز الماركسية على الكفاح بين البورجوازية (الرأسماليين أو مالِكو وسائل الإنتاج) والبروليتاريا (الطبقة العاملة).

إعلان

وتمثل نظرية العمل للقيمة مكونًا رئيسًا في الفكر الاقتصادي الماركسي، والتي تنص على أن قيمة أي سلعة تشتق من العمل اللازم لإنتاجها. والحقيقة أن ماركس لم يكن هو مبتكر هذه الفكرة، حيث قد ظهرت قبل ذلك في كتابات عدد من الاقتصاديين الكلاسيكيين، لكنه وظفها في حجة قوية ضد النظام الرأسمالي، مشيرًا إلى أنه مبني بالكامل على استغلال العامل. ودعا ماركس إلى حتمية قيام ثورة اشتراكية تؤسس ديكتاتورية البروليتاريا. ويتمثل الهدف الرئيسي في الفكر الماركسي في الملكية العامة لوسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل. ولقد أحدثت هذه المدرسة تأثيرًا كبيرًا في كثير من الأماكن في العالم، لكنها تراجعت كثيرًا مع انهيار الاتحاد السوفيتي سابقًا.

٣- المدرسة الكلاسيكية الجديدة

اعتمدت المدرسة الكلاسيكية الجديدة، والتي بدأت أفكارها في الظهور في حدود عام ١٨٧٠، على فرضيات الاقتصاد الكلاسيكية، لكنها ركزت على تفاصيل أدق تخص التفاعل في الأسواق. وبدأت النظرة الكلاسيكية الجديدة بافتراض أن الناس يكونون عقلانيين أساسًا عند اتخاذ القرارات؛ حيث يؤمن الكلاسيكيون الجدد أن المستهلكين يتصرفون بعقلانية، ويسعون لتعظيم متعتهم أو شعورهم بالرضا، وذلك في حدود الموارد المتاحة. ويفترض أيضا أن البائعين يتصرفون بعقلانية، ويسعون لتعظيم أرباحهم، ويؤدي التفاعل بين طلب المستهلكين وعرض البائعين أسعار السوق. ولقد ظهر التركيز على المقارنة بين التكاليف والمنافع الإضافية أو التحليل الحدي خلال الفكر الكلاسيكي الجديد. والحقيقة، فإن الكثير من الأساسيات الاقتصادية التي يتم تدريسها الآن هي الأساليب والنظريات التي طرحها الاقتصاديون الكلاسيكيون، وحتى منحنيات الطلب والعرض التي تعج بها لوحات الكتابة في محاضرات طلبة الجامعة هي نتاج الفكر الكلاسيكي الجديد.

٤- المدرسة الكينزية

ربما تمثل المدرسة الكينزية في الكثير من الجوانب النقيض الحقيقي للمدرسة الكلاسيكية، وليس الماركسية، وهي المدرسة التي حملت اسم عالم الاقتصاد الشهير جون مينارد كينز. ولقد  اتفق كينز مع الكلاسيكية في عدة أركان، مثل أهمية الآلية السعرية، لكنه خالفها في فرضية أن البطالة ظاهرة ذاتية التصحيح. ورأى أن للحكومة دورًا هامًّا في علاج المشاكل الاقتصادية للدولة؛ حيث تمتلك الوسائل والالتزام الأخلاقي لمواجهة المشاكل الاقتصادية، مثل البطالة والتضخم، من خلال سياستها الإنفاقية والضريبية.

وكان أول من طبق الأفكار الكنزية عمليًّا الرئيس فرانكلين روزفلت خلال فترة الكساد العظيم، وتعد أفكار كنز من أهم الأفكار الاقتصادية المؤثرة في القرن العشرين. ويختلف الكثير من اقتصاديي اليوم مع أجزاء كثيرة من النظرة الكلاسيكية، لكنها بعثت بشدة خلال السياسات المطبقة في أعقاب الأزمة المالية في عام ٢٠٠٨.

٥- المدرسة النمساوية (مدرسة فيينا)

ترتبط المدرسة النمساوية بالمدرسة الكلاسيكية الجديدة، وقد يراها البعض أحيانًا رافدًا صغيرًا لهذه المدرسة، ولقد سميت بهذا الاسم على الرغم من نشأتها في الولايات المتحدة الأمريكية، لأن آباءها المؤسسين نمساويون الأصل. ويعد كارل منجر هو مؤسس المدرسة النمساوية إلى جانب اقتصاديين بارزين آخرين، مثل: لودفيج فون ميسس، وموراي روثبارد، وفردريك حايك. وترتبط أفكار المدرسة النمساوية بأفكار الحزب الليبرالي الذي ظهر في كلورادو في أوائل السبعينيات بالولايات المتحدة. وهم يؤمنون بفكرة حرية الأسواق، ويعترضون بشدة على التدخل الحكومي. وإذا كان البعض يرى المدرسة الأسترالية مدرسة هامشية في الفكر الاقتصادي، لكن علماءها ساهموا بأفكار اقتصادية أساسية، مثل حايك على سبيل المثال، والذي ألف كتابًا شهيرًا عنوانه طريق العبودية، والذي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام ١٩٧٤.

٦- المدرسة المؤسسية الجديد

ظهرت المدرسة المؤسسية الجديدة للفكر الاقتصادي امتدادًا للاقتصاد الكلاسيكي الجديد في الجزء الأخير من القرن العشرين، وتركز على دور المعايير القانونية والاجتماعية أو المؤسسات في الاقتصاد. وأحد الأفكار الاقتصادية الهامة هو مفهوم تكاليف العمليات، أو التكاليف الإضافية الداخلة في إتمام أي عملية، ويتضمن هذا التكاليف المرتبطة بالبحث عن المنتجات وشروط التفاوض. ولقد حصل أربعة من علماء الاقتصاد بهذه المدرسة على جائزة نوبل للاقتصاد، وأشهرهم رونالد كواز، الذي رأى أن الأسواق الحقيقية وليست النظرية هي التي يجب أن تكون موضوع دراسة علم الاقتصاد.

٧- المدرسة النقدية

تؤمن المدرسة النقدية بحرية الأسواق مثلها كبقية المدارس الكلاسيكية جديدة أو قديمة، وأن ناتج اقتصاد الدولة أو الناتج المحلي الإجمالي يحدده في المقام الأول المعروض النقدي أو إجمالي النقود في التداول. وعلى الفترات الأطول أو كما يسميها رجال الاقتصاد “على الأجل الطويل”، فخان المحدد الرئيسي للناتج المحلي بالأسعار الجارية هو الأسعار الكلية بالاقتصاد. ولقد عرف النقديون بدفاعهم عن سياسة النمو المستمر للمعروض النقدي، وليس استهداف سعر الفائدة . ولقد ذاعت شهرة المدرسة النقدية في السبعينيات عندما اتبع السياسيون الأمريكيون تعليمات وأفكار هذه المدرسة. وبعد ذلك، لم تعد الأفكار النقدية مقبولة لدى قطاع كبير من الاقتصاديين، على الرغم من أن العديد من أفكارهم قد وجدت مكانها في تيار الاقتصاد الرئيسي. ويعد فريدمان رائد المدرسة النقدية، والذي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد في ١٩٧٩، والذي حمل أزمة الكساد العظيم على أخطاء الاتحاد الفيدرالي.

ثانيًا: الاتجاهات التجريبية في الفكر الاقتصادي

١- مدرسة الاقتصاد السلوكي

يمكننا القول أن الاقتصاد السلوكي، بشكل فضفاض، قد اقترض الكثير من أفكاره ومفاهيمه من علم النفس، ويشترك في جزء كبير منه مع هذا العلم، و يخالف الاقتصاديون السلوكيون فرضية الكلاسيكية الجديدة الأساسية بأن الناس عقلانيين في قراراتهم. ومن خلال تجارب معملية دقيقة وأشكال بحثية أخرى، حدد علماء المدرسة عددًا من المواقف التي يكون فيها الناس غير عقلانين بشكل أساسي، حيث يتأثر الناس بانحيازات فكرية تؤثر بالسلب على قرارتهم. وتتضمن هذه المدرسة عدة تفريعات مختلفة، مثل الاقتصاد النفسي، والاقتصاد التجريبي، والتمويل السلوكي . ولقد ساهمت هذه المدرسة بإلقاء الضوء على الكثير من الجوانب القيمة في السلوك البشري، والتي لها تداعيات كبيرة على السلوك البشري. ولقد حصل اثنان من علمائها، ريتشارد ثالير ودافيد كانمان، على جائزة نوبل في الاقتصاد.

٢- مدرسة علم الاقتصاد العصبي

علم جديد يجمع بين الاقتصاد وعلم النفس وعلم الأعصاب، ويعرف بالاقتصاد العصبي، يهدف للتوصل إلى نظرية واحدة تستوعب السلوك البشري. هذا العلم يعني بدراسة ماهية وكيفية اتخاذ العقل البشري للقرارات، فهل نحن بطبيعتنا مجازفون؟ وكيف يتوصل العقل للقرار الصائب؟ وهل يمكننا اليوم أن نتنبأ بالنوايا الشرائية للمستهلك؟ وهل نستطيع التحكم بالسلوك الاقتصادي الذي يؤثر على الدماغ؟ وتتمحور المحاور الأساسية في اقتصاد النيورو حول اتخاذ القرارات في الأسواق المالية، والثقة والتعاون بين الفريق، وسبل إقناع المستهلك. ويتم طرح أمثلة من أحدث طرق للتصوير الدماغ، مثل التصوير المقطعي والرنين المغناطيسي والتحفيز المغناطيسي للدماغ، وذلك لرصد استجابة العقل للمؤثرات الخارجية التي تلعب دورًا هامًّا في اتخاذ القرارات. ويعد كتاب عالم الأعصاب بول جليمتشر الذي نُشِر تحت عنوان ”أسس التحليل الاقتصادي النفسي العصبي”مرجعًا هامًّا، والآن يشغل جليمتشر ذاته منصبًا في قسم الاقتصاد في جامعة نيويورك (وهو يعمل أيضًا في مركز جامعة نيويورك للعلوم العصبية).

٣- مدرسة علم الاقتصاد التطوري

علم الاقتصاد التطوري، مصطلح صاغه عالم الاجتماع والخبير الاقتصادي ثورستين ڤيبلين (1857-1929) والفيلسوف الأمريكي، يجمع بين علم الأنثروبولوجيا والاجتماع والمبادئ الداروينية. وتأثر بشدة بأفكار عالم الاقتصاد الشهير جوزيف شومبيتر، وينظر رواد هذا العلم إلى النظام الاقتصادي بوصفه نظام أحيائي، ويسعون إلى تفسير السلوك الاقتصادي في إطار قوانين التطور والغرائز البشرية التطورية، مثل الافتراس والتقليد والفضول.

إعلان

مصدر كتاب موسوعة مقال
فريق الإعداد

إعداد: سمير الشناوي

تدقيق لغوي: تسنيم محمد

اترك تعليقا