ثورةُ المدينةِ على يزيد

بعد قتل الحسين، توّلى راية المعارضة عبد الله بن الزبير في مكة، وخلع بيعة يزيد، وأعلن تمرّده، وبايعه الناس في مكة خليفةً للمسلمين.

أما المدينة فقد ذهب كبارُ أهلها إلى يزيد في الشام، منهم عبد الله بن حنظلة، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة، والمنذر بن الزبير، وهناك كاشفوا حقيقة يزيد بأعينهم، وعاينوا حاله بأنفسهم، ولما رجعوا المدينة قالوا: “قَدِمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، وتعزف عنده القينات بالمعازف، وإنا نُشهِدَكم أنَّا قد خلعناه”([1]). فتابعهم الناس على خلعه.

واجتمعوا عند منبر رسول الله، وكان الرجل منهم يقول: “قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه”، ويلقيها عن رأسه، ويقول الآخر: “قد خلعته كما خلعت نعلي هذه”، حتى اجتمع كثير من العمائم والنعال، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من المدينة، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان، ابن عم يزيد، وعلى إجلاء بني أمية من المدينة([2]).

هذه هي ثورة أهل المدينة وغضبتهم على فسق يزيد، هذا هو ردهم على قتل الحسين، فلم يصبروا على نهب أموال الأمّة، وتوليةِ السّفهاء على رقاب المسلمين، ولم يتحملوا أن يروا بأعينهم دين محمد ينهار لبِنَةً لبِنَةً، فقد شَهِدوا الخلافة الراشدة العادلة، ثم الانقلاب الصّارخ إلى الملك الهراقليّ.

يقول عبد الله بن حنظلة: “والله ما خرجنا علي يزيد حتى خفنا أن نُرمي بالحجارة من السماء، إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاءً حسناً”([3]).

إعلان

أما بنو أمية فقد اجتمعوا في بيت مروان بن الحكم، وأرسلوا إلى يزيد يستغيثون به.

فأرسل يزيد إليهم مسلم بن عقبة ومعه جيش عدده ما بين 12 ألف إلى 27 ألف فارس([4])، وقال له: “ادعُ القوم إلى الطاعة ثلاثة أيام، فإن أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا ظهرت عليهم فانهبها ثلاثًا، فكل ما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند، ثم امضِ إلى الملحد عبد الله بن الزبير”([5])!

حاصر جيش يزيد أهل المدينة ثلاثة أيام، وأمرهم بطاعة يزيد، ووقْفِ ثورتهم، وأن يتعاونوا مع الجيش ليتمكّنوا من قتال عبد الله بن الزبير في مكة.

ورغم قلة الثّوار، وكثرة جيش يزيد؛ لكن درس الحسين مازال حيًا نابضًا، ودم الحسين لم يجف بعد، فرفضوا طاعة الفاسق يزيد، وأصرّوا على موقفهم، ورفضوا المَساس بعبد الله بن الزبير وترويع أهل الحرم.

وتقاتل الثّوار وجيش يزيد حتى انهزم الثّوار، وحقق مسلم بن عقبة أمر يزيد واستباح مدينة رسول الله ثلاثة أيام.

يقول ابن كثير: “أباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثًا، يقتلون الناس، ويأخذون الأموال!

فأرسلتْ سعدى بنت عوف إلى مسلم بن عقبة تقول: “أنا بنت عمك، فمُر أصحابك أن لا يتعرضوا لإبل لنا بمكان كذا وكذا”. فقال لأصحابه: “ابدءوا بإبلها”!

وجاءت امرأة فقالت: “أنا مولاتك، وابني أسير”. فقال: “عجِّلوه لها”. فضربوا عنقه، وأعطوها رأسه!

ووقعوا على النساء حتى قيل: إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج!

قال هشام بن حسان: ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد الحَرَّة من غير زوج!

وقال الزهري: قُتل يوم الحَرَّة من المهاجرين والأنصار سبعمائة، وممن لا يُعرف عشرة آلاف”([6])!

وبعد انتهاك حرمة المدينة، تفرّغوا لأهل مكة، فرحلوا إلى مكة وحاصروها، لكن من لطف الله أن هلك الطاغية يزيد، فرجع الجند إلى الشام، ونجت مكة من مصير المدينة.

***

ما فعله يزيد في المدينة من انتهاك حرماتها، واغتصاب نسائها، وقتل رجالها، والانتقام من ثوارها، وقطع رؤوس أبنائها، ونهب أموالها، يشهد أن هؤلاء الحكّام المُستبدّون – في كل زمان ومكان – لا يقلون فُجرًا وعدوانًا عن المحتلين، فلا فرق بين محتلٍّ من بيننا ومحتلٍّ أجنبي، سفاح مسلم وسفاح من ملة أخرى، فكلهم قطاع طرق، داسوا ضمائرهم، وكفروا بربهم، وعبدوا أهواءهم، كلهم يدوس الشعوب كالنّمل، والدّماء في أعينهم تسيل كما الماء، ولا يعرفون عزيزًا، ولا يراعون قداسة ولا حرمة ولا عهدًا، فلا يعبدون إلا المال؛ لذا فمقاومة المستبدين الخونة لا تقل أولويةً عن مقاومة المحتلين الأجانب، كلاهما مقاومة ضد الظلم والباطل والاستعباد.

فالقرآن يصف ألدَّ أعدائنا بقوله: ﴿ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ﴾([7])، وهو نفس الوصف بالضبط الذي يتلبّس هؤلاء المُستبِدّين الخونة في كل زمانٍ ومكانٍ!


[1]. (البداية والنهاية) ج11 ص609، (تاريخ الطبري) ج5 ص480

[2]. (البداية والنهاية) ج11 ص614

[3]. (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) ج6 ص19

[4]. (البداية والنهاية) ج11 ص615

[5]. (تاريخ الطبري) ج5 ص484، (البداية والنهاية) ج11 ص617

[6]. (البداية والنهاية) ج11 ص621

[7]. التوبة: 8

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظة

اترك تعليقا