ثورة عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان

تولى الخلافة عبد الملك بن مروان، وهو المؤسس الثاني لملك بني أمية بعد معاوية؛ وقد سال في عهده دماء كثيرة لتمكين مُلكِه. وحمل راية الثورة عبد الله بن الزبير في مكة، فقد بايعه الناس على الخلافة، ونقضوا بيعة عبد الملك بن مروان.

كان الحَجَّاج هو قائد الشرط في عهد عبد الملك بن مروان، وأُعجب عبد الملك بحزم الحجاج وشدته مع العسكر، وألح الحجاج على عبد الملك أن يرسله إلى عبد الله بن الزبير، وقال له: “إني أراني في المنام أسلخ عبد الله بن الزبير، فارسلني إليه”، فوافق عبد الملك.

شد الحجاج الرحال إلى مكة ومعه خمسة آلاف جندي ليس لزيارة بيت الله، بل لحصاره! واستمر الحصار ثمانية أشهر، ثم ضرب الكعبة بالمنجنيق، وفي أول الأمر عَظُمَ على الجنود رمي الكعبة، فوضع الحجاج المنجنيق بنفسه وأمرهم أن يرموا، فرموا، فاحترقت أستار الكعبة وانهدم بنيانها، وقُتل كثير من أهلها.

كان لهذا الهجوم بالمنجنيق أثره المزلزل على نفوس أهل مكة، فلم يروا من قبل نارًا فوق رؤوسهم، كأنها البرق يخطف أرواحهم، فتفرق كثير منهم عن ابن الزبير وانضموا للحجاج وعَهِدَ لهم بالأمان، وقد بلغ عددهم عشرة آلاف رجل، حتى قيل أن أبناء عبد الله بن الزبير أنفسهم خذلوه وانضموا للحجاج!

وخيَّر الحجاج ابن الزبير بين ثلاث: إما أن يذهب في الأرض حيث شاء، أو يبعثه إلى الشام مقيدًا بالحديد، أو يقاتل حتى يُقتل.

إعلان

شق على عبد الله بن الزبير هذا الخذلان من أهله، فجاء أمه، أسماء بنت أبي بكر، يسترشد بها ويودع حضنها، ويوصي قلبها بالصبر، ويرتوي منها ما يثبت قلبه، وكانت أسماء وقتئذ فقدت بصرها.

فقال لها: “يا أُمَّه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيكِ”؟

فقالت: “أنت والله يا بني أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكِّن من رقبتك يتلعَّب بها غلمان أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قُتل معك. وإن قلتَ: كنتُ على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن”.

فدنا عبد الله ابن الزبير فقبَّل رأسها وقال: “هذا والله رأيي، والذي قمتُ به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنتُ إلى الدنيا، ولا أحببتُ الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تُستحل حُرُمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيكِ، فزدتيني بصيرة مع بصيرتي. فانظري يا أُمَّه، فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنكِ، وسلمي الأمر لله، فإن ابنكِ لم يتعمد إتيان منكر، ولا عملًا بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهَد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيتُ به، بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم إني لا أقول هذا تزكيةً مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني”.

فقالت أمه: “إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك”.

قال: “جزاكِ الله يا أُمَّه خيرًا، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد”.

فقالت: “لا أدعه أبدًا، فمن قُتِلَ على باطل فقد قُتِلْتَ على حق. اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهم قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين”([1]).

 هاجم الحجاج مكة وقتل ثوارها، وقتل عبد الله بن الزبير، وقطع رأسه وأرسلها إلى عبد الملك، وصلب جثمانه([2]).

وقد أرسلت أسماء إلى الحجاج لينزل جثمانه، فأبى، فقالت له: “قاتلك الله، علامَ تصلب ولدي”؟ فقال: “إني استبقت أنا وإياه إلى هذه الخشبة، فسبقني إليها”([3])! وجاءت ووقفت أمام جثمان ابنها، ولعل فقد بصرها كان نعمة من الله حتى لا ترى ابنها وهو مصلوب، معلقٌ، مبتورةٌ رأسه، ممزقةٌ ثيابه!

وأرسل الحجاج إلى أسماء يستحضرها، فلم تحضر، فأرسل إليها: “لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك”. فلم تأته، وقالت: “والله لا آتيه حتى يبعث إليَّ من يسحبني بقروني”.

فقام إليها، وقال لها: “كيف رأيتني صنعتُ بعدو الله”؟

قالت: “رأيتك أفسدت على ابني دنياه، وأفسد عليك آخرتك، فإن رسول الله حدثنا أن في ثقيف (كذابًا ومبيرًا)، فأما الكذاب فقد رأيناه – تعني المختار – وأما المبير فأنت هو”. فقام عنها ولم يراجعها([4]).


[1]. (تاريخ الطبري) ج6 ص187

[2]. (تاريخ الطبري) ج6 ص174، (الأخبار الطوال) ج1 ص314

[3]. (البداية والنهاية) ج12 ص208

[4]. (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) ج6 ص139، (البداية والنهاية) ج12 ص210

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظة

اترك تعليقا