ثورة يناير .. لماذا ثار المصريون؟

رغم أن أحداث ثورة 25 يناير معاصرة، وشهودها أحياء، وفيديوهاتها متواترة، إلا أنها لحقتها اتهامات وتزوير متعمد وطمس لملامحها، وحذف للأخبار والمقالات المتعلقة بها في أغلب الجرائد، حتى إن كثيرون ترحَّموا على عهد مبارك، ونسوا جرائمه!

لماذا ثار المصريون؟

استمر حكم مبارك 30 عامًا، عانى المصريون خلالها إداريًا وماليًا وسياسيًا وأمنيًا.

1. الفساد الإداري:

تفشي الفساد في كل قطاع وكل مؤسسة، حتى بات ثقافة عامة سائدة، فانتشرت الرشوة، والوساطة، والنفاق، وتحكَّمت البيروقراطية، وتخلفت مؤسسات الدولة حتى آلت للسقوط. وأبرز الأمثلة على ذلك:

أ. قطار العيَّاط وحوادث القطارات

عام 2002 قبل ساعات قليلة من صلاة عيد الأضحى، كان القطار 832 متكدسًا بالركاب ومتجهًا نحو صعيد مصر، وتحديدًا في العياط، مع دقات الساعة الثانية صباحًا، انفجر موقد بوتاجاز في بوفيه إحدى العربات، وسرعان ما التهمت النيران 7 عربات كاملة!

فقفز البعض من النوافذ، وآخرون لم يتمكنوا من القفز بسبب الألواح الحديدية في النوافز، فالتهمتهم النيران، فقُتل أكثر من 361 مواطنًا، ومن شدة النيران انفجرت جماجم القتلى، وامتزجت لحومهم حتى ضاعت معالمهم، وتدلَّت جثث من النوافذ([1])!

إعلان

ولم تكن هذه الحادثة استثناءً أو حدثًا نادرًا عبر تاريخ سكك حديد مصر، فقد كانت حقبة مبارك على موعد متكرر مع حوادث القطارات:

في 1993 تصادم قطاران شمال القاهرة، فقُتل 12 وأُصيب 60 مواطنًا.

وفي 1997 اصطدم قطاران في أسوان، أدى إلى قتل 11 مواطنًا.

وفي 1998 اصطدم قطار بالقرب من الإسكندرية بأحد المصدات الأسمنتية، فخرج عن مساره نحو سوق مزدحم، فقُتل 50 مواطنًا.

وفي إبريل 1999 اصطدم قطاران، فقُتل 10 مواطنين.

وفي مايو 1999 اصطدم قطار متجه من القاهرة إلى الإسكندرية بشاحنة نقل وخرج عن القضبان، فقُتل 10 مواطنين.

وفي فبراير 2006 اصطدم قطاران بالقرب من الإسكندرية، فأُصيب 20 مواطنًا.

وفي مايو 2006 اصطدم قطاران للشحن في الشرقية، فأُصيب 45 مواطنًا.

وفي أغسطس 2006 اصطدم قطاران في طريق القاهرة – المنصورة، فقُتل 80 مواطنًا.

وفي 2007 اصطدام قطاران في قليوب، فقُتل 58 مواطنًا.

وفي 2009 اصطدم قطاران في العياط، فقُتل 30 مواطنًا.

وقد رصدت إحصائية رسمية أعدتها هيئة السكة الحديد أن عدد حوادث القطارات خلال الفترة 2006 – 2016 بلغ 12 ألف حادثًا([2])

كل هذه الحوادث المتكررة تثبت أننا أمام منظومة متهالكة، وإدارة فاشلة، وقيادة فاسدة، ومصير بائس يُفطِر قلوب المصريين كل عام بقتل وإصابة أهاليهم.

ب. عبَّارة السلام 98

في يوم 2 فبراير 2006 أقلعت عبَّارة السلام 98 من ميناء ضباء السعودي إلى نظيره المصري في سفاجا، وعلى متنها 1415 مسافرًا، أغلبهم من المصريين العائدين من الحج.

على بعد 57 ميلًا من الغردقة شبَّ حريق بجراج السفينة، فاستخدم طاقم السفينة المياه بكثرة في اطفائه، وتراكمت نتيجة لانسداد بالوعات الصرف، وعندما وصل ارتفاع هذه المياه إلى 15 سم وأكثر، ومع حركة السفينة يمينًا ويسارًا، أثرت هذه المياه على مركز ثقل السفينة فمالت ناحية الجانب الأيمن إلى 20 درجة، فانقلبت وغرقت، وقُتل 1032 مسافرًا!

كانت السفينة مرخصة للعمل حتى عام 2010، لكن تقرير لجنة تقصي الحقائق الذي شكلها البرلمان أثبت وجود أعطال كارثية أدت إلى الغرق: 

  • قبل إقلاع السفينة كانت تميل ناحية اليمين 1,5 درجة!
  • حين حاول طاقم السفينة استخدام مضخة لطرد المياه من السفينة، اكتشفوا أنها عاطلة!
  • بالوعات الصرف الموجودة بالجراج عددها 12 بالوعة، 8 بالوعات منهم كانت مسدودة!
  • تصميم قوارب النجاة يجعلها تعمل آليًا عند غرق السفن، ومن هنا كانت تعليمات المنظمات البحرية الدولية والمحلية بضرورة عدم ربط هذه القوارب بالسفن، لكن هذه القوارب غرقت مع العبَّارة، مما يعني أنها كانت مقيدة بالسفينة!
  • قوارب النجاة بالعبارة منتهية الصلاحية منذ خمس سنوات مضت!

لكن الشركة المختصة بإعطاء شهادات الصلاحية لقوارب النجاة يرأسها أحد أقارب ممدوح إسماعيل، مالك العبارة، وقد استمرت هذه الشركة في إعطاء شهادات الصلاحية!

  • عدد ركاب العبَّارة وحمولتها أكبر من الحد الأقصى المسموح به للعبَّارة!
  • أسطوانات مقاومة الحريق بالعبَّارة منتهية الصلاحية!
  • تملك شركة السلام للنقل البحري عبَّارتين سريعتين هما (إليانور) و(فارس السلام) كانتا راسيتين بميناء الغردقة، وهما عبَّارتان سريعتان يمكن لأي منهما الوصول إلى موقع الحادث في ساعتين وإنقاذ الركاب، لكن رفض رئيس الشركة تحركهما! 

ورغم كل هذه المخالفات، فى 27 يوليو 2008 صدر قرار المحكمة بتبرءة كل المتهمين، وعلى رأسهم ممدوح إسماعيل، مالك العبَّارة!

وينكشف هذا اللغز إن علمت أن ممدوح إسماعيل هو رجل أعمال بارز، على علاقة قوية بكبار المسئولين، وعيَّنه مبارك في مجلس الشورى.

وقد طعن النائب العام على الحكم، وفى مارس 2009 قضت محكمة جنح مستأنف بمعاقبة ممدوح إسماعيل بالسجن سبع سنوات، لكنه كان قد هرب من البلاد!

لم تكن هذه حادثة قَدَرية استثنائية، بل هي حادثة كاشفة عن الفساد الإداري المتراكم المكدَّس، والوساطة التي تمرر تجاوزات مفجعة، وتزاوج السلطة بالمال، وانعدام الرقابة، الذي انتهى إلى كارثة حتمية.

وبصفة عامة، في عام 2010 أدرجت منظمة الشفافية الدولية مصر في ترتيب 105 من أصل 178 دولة([3])!

2. الفساد المالي:

لم تقم المؤسسات الرقابية بدورها، ولا البرلمان، ولا يوجد أي شفافية لاطلاع الشعب على الأموال العامة، فتمكَّن الفاسدون من المال العام، وأصبح شعار المرحلة: “حاميها حراميها”، وأبرز الأمثلة على ذلك:

قد يعجبك أيضًا

أ. خصخصة المال العام

في عام 1997 تم بيع 100 ألف فدان من أرض توشكى إلى الوليد بن طلال، وتدخَّل مبارك شخصيًا في هذا الاتفاق، وتم تحديد سعر الفدان 50 جنيهًا، أي سعر بيع 100 فدان بلغ 5 مليون.

في حين أن تكلفة البنية التحتية على الدولة لاستصلاح كل فدان هي 11 ألف جنيهًا، أي لاستصلاح 100 فدان تكلفت الدولة مليار و100 مليون وباعتها بـ 5 مليون، فخسرت مليارًا و95 مليونًا!

وأكثر من ذلك أن العقد نص على دفع 20% من سعر الأرض وقت التعاقد، ولم ينص على ميعاد سداد باقي المبلغ!

كما نص العقد على إعفاء هذه الأرض من أي ضرائب أو رسوم، وإلزام الدولة بتوفير المياه لهذه الأرض، ولا يحق للدولة سحب الأرض في أي حالة، ولا يُسمح للدولة وقف إمداد المياه للأرض، وتلتزم الدولة ببيع الكهرباء بأقل سعر متاح([4])!

وبعد ثورة يناير تم فتح هذا الملف الفاسد، واستعادت مصر 75 ألف فدان من الوليد بن طلال([5]).

وفي عام 1999 تم بيع شركة (أسمنت أسيوط) بمبلغ 1,38 مليار جنيهًا، في حين أن القيمة الفعلية وقتها كانت 13 مليار([6])!

وفي عام 1999 تم بيع (الشركة العربية للتجارة) بمبلغ 13 مليونًا، على أن يُسدد نصف القيمة عند توقيع العقد والباقى بعد عام، وهو ما لم يحدث؛ إذ تم سداد ستة ملايين فقط، فى الوقت الذى كانت قيمة أصول الشركة تتجاوز 400 مليون جنيهًا([7])! وبعد ثورة يناير حكم القضاء الإداري ببطلان العقد.

وفي عام 2000 تم بيع شركة (الإسكندرية للأسمنت) بمبلغ 450 مليونًا إلى مستثمرين إنجليز (بلو سركل)، وبعد 3 سنوات باع المستثمرون الشركة بمبلغ 2 مليارًا([8])!

وفي عام 2005 تم بيع شركة (الورق الأهلية) بقيمة 135 مليونًا، فى حين قدَّر الجهاز المركزى للمحاسبات قيمتها فى ذلك الوقت بنحو مليارًا!

وفي عام 2006 تم بيع أرض (البلاستيك الأهلية) ومساحتها 45 ألف مترًا مربعًا بقيمة 12 مليونًا، رغم تقييمها عام 1997 بمبلغ 24 مليونًا!

وقدَّر القضاء الإداري أن الحكومة أهدرت حوالى 7 مليارات فى بيع 11 شركة([9])!

وتم بيع شركة (طنطا للكتان)، وكان تقرير اللجنة الوزارية للخصخصة أقر قاعدة أن سعر الأرض يتم حسابه طبقًا لأقرب مدينة صناعية، لكنهم اعتبروا أن أقرب مدينة لطنطا هي السادات، في حين أن أقرب مدينة صناعية هي قويسنا، هذا التلاعب تسبب في إهدار 45 مليون جنيهًا([10])! وبعد ثورة يناير حكم القضاء الإداري ببطلان العقد.

بلغ إجمالى عدد الشركات التى باعها مبارك 382 شركة([11])، وبعد ثورة يناير نشر الجهاز المركزي للمحاسبات تقريرًا عن الخصخصة في عهد مبارك، وكشف أن حصيلة الخصخصة بلغت 50 مليارًا، لكن ما تم تحصيله فعليًا 48 مليارًا، و2 مليارًا لم يتم تحصيلهم!

وتم تخصيص 23 مليارًا لإصلاح وإعادة تأهيل الشركات الحكومية المتعثرة، لكن لم يُستخدم إلا 3 مليارات، وضاع 20 مليارًا غير مسجلين في الأوراق، ولا أحد يعلم أين ذهبوا([12])!

ب. تصدير الغاز إلى إسرائيل

عام 2005 عقدت مصر اتفاقية مع إسرائيل تلزم مصر بتصدير 1,7 مليار متر مكعب سنويًا من الغاز الطبيعي لمدة 20 سنة، وحددت السعر بين 70 سنتًا و1,5 دولار للمليون وحدة حرارية، ولا يحق لمصر رفع السعر عن ذلك تحت أي ظرف، في حين أن تكلفة إنتاج المليون وحدة حرارية 2,65 دولار([13])!

والعجيب أن نفس الغاز المصدَّر في نفس الخط من مصر إلى سوريا ولبنان تم تصديره بـ 5,5 دولار([14])!

وفي نفس الوقت كانت روسيا وإيران تصدِّر المليون وحدة حرارية بـ 12 دولار([15])!

كما نصت الاتفاقية على إعفاء شركة الغاز الإسرائيلية من الضرائب لمدة ثلاث سنوات من 2005 إلى 2008([16])!

أنشأ حسين سالم ورجل أعمال إسرائيلي، يوسى ميمان، شركة غاز شرق المتوسط، وتولت الشركة نقل الغاز من مصر إلى إسرائيل وبيعه إلى إسرائيل، وإسناد ذلك إلى الشركة تم بالأمر المباشر، وهو مخالف للقانون!

وطبقًا لشهادة إبراهيم زهران، فإن شركة غاز شرق المتوسط كانت تحقق أرباحًا قدرها 3 مليون دولار يوميًا! وطبقًا لتقرير جهاز الكسب غير المشروع فقد تجاوزت التحويلات البنكية لحسين سالم 24 مليار جنيهًا([17])!

الخسائر التي تكبدتها مصر نتيجة هذا التسعير البخس خلال خمس سنوات (2005 – 2010) قُدِّرت بنحو 10 مليارات دولار([18])!

ولم تُعرض هذه الاتفاقية على البرلمان بحجة أنها تحمل معلومات حساسة!

وعام 2008 و2009 قضت محكمة القضاء الإداري بوقف تصدير الغاز الطبيعي إلى إسرائيل، لكن الحكومة لم تنفذ الحكم، وقدمت طعنًا أمام المحكمة الإدارية العليا، وقبلت المحكمة الطعن باعتبار أن هذا العقد من أعمال السيادة!

قبل ثورة 25 يناير لم تنكشف هذه الأرقام الموثقة بدقة أمام المصريين، لكنهم لمسوا وذاقوا تبعات وآثار هذا الفساد العظيم في حياتهم اليومية، في صورة بطالة، وعنوسة، وغلاء أسعار، وانعدام الخدمات الطبية، وانهيار التعليم، وتدهور البنية التحتية. صحيح لا يعلمون كم مليونًا دخل رصيد الوزراء، لكن يعلمون ما نقص من جيوبهم وطعامهم وصحتهم.

3. الفساد السياسي

ظاهريًا توفرت كل مقومات الديمقراطية في عهد مبارك؛ فيوجد انتخابات، ومجلس شعب، وصحافة، وأحزاب، لكن في الباطن لم يكن وراء هذه الصور إلا الأسماء والهيكل الخارجي فقط، وكلها خواء من الداخل؛ فالانتخابات مزورة. ومجلس الشعب يتحكم فيه الحزب الحاكم، فلا يراقب. والأحزاب صورية، مجرد أعداد وأسماء وأوراق، لكن لا تمس الشارع، ولا يعرف أحد أسمائها. والصحافة تنبح في الحكومة لكن لا تجرؤ أن تتخطى سقفها وتمس الرئيس. ومن مظاهر هذا الفساد:

أ. توريث الحكم إلى جمال مبارك

في عام 2000 انضم جمال مبارك للحزب الوطنى. وفى عام 2007 تولى منصب الأمين العام المساعد للحزب وأمين لجنة السياسات. ومن هذا التوقيت بزغ اسمه، وبرزت صورته، وتعددت لقاءاته التلفزيونية، وندواته، ولقاءاته الصحفية، فظهر في صورة الشاب العائد من أعرق جامعات الغرب، الدارس للاقتصاد، صاحب الفكر الجديد.

وفي عام 2004 تولى أحمد نظيف رئاسة الحكومة، وكان واضحًا اختلاف هذه الحكومة عن كل الحكومات السابقة؛ إذ ساد عليها طابع (حكومة رجال الأعمال)، المعادين للقطاع العام، وأكدت عديد من التقارير أن من اختار نظيف ومن كان يقوم باختيار الوزراء في حكومته هو جمال مبارك. وهو ما يتضح في التوافق التام بين توجهات جمال واتباع الوزراء لسياساته.

وفي عام 2010 انتشر في الشارع المصري لافتات وصور لجمال مبارك تؤيد ترشحه للرئاسة، وتَعِد بمستقبل مختلف معه.

كما تكوَّنت تكتلات بتمويلات ضخمة تطوف محافظات مصر وتعقد مؤتمرات وحملات إعلامية لجمع التوقيعات لترشيح جمال مبارك للرئاسة.

وفضحت تسريبات ويكيليكس ما يدور حول الكواليس؛ إذ قال السفير الأمريكي في القاهرة: إن سوزان مبارك هي المحفز الأول لتوريث الحكم إلى جمال، ويستند جمال على دعم من رجال الأعمال، لكن المؤسسة العسكرية ترفض هذا التوريث؛ لأنه ليس عسكريًا([19]).

ب. تزوير انتخابات مجلس الشعب

في 28 نوفمبر 2010 أُجريت انتخابات مجلس الشعب، وفاز الحزب الوطني بنسبة 97% من المقاعد!

وقد تواترت الشهادات والفيديوهات المصورة على تزوير هذه الانتخابات بطرق فجة وفاضحة وسافرة، فقد حرص الحزب الوطني الحاكم على منع الإشراف القضائي على الانتخابات، ومنع رقابة منظمات المجتمع المدني، ومنع الإعلام، ومنع المندوبين من حضور الفرز، واستخدمت الشرطة بلطجية لمنع المرشحين من إقامة مؤتمرات، ومنعت ناخبين من الوصول إلى اللجان الانتخابية، ودفعوا رشاوى لناخبين، وبدلوا صناديق الانتخابات، وزوروا نتيجة اللجان، وزوروا النتيجة النهائية، وزوروا نسبة المشاركة في الانتخابات، فكانت النتيجة: فوز الحزب الوطني بنسبة 97% من المقاعد!

وبعيدًا عن هذه الأخبار والشهادات، فقد تم تقديم 1527 طعن ضد 486 نائبًا، وأصدر القضاء أحكامًا نهائية ببطلان عضوية 196 نائبًا، لكنها لم تُنفذ([20])!

وكانت هذه هي حالة كل الانتخابات في عهد مبارك، سواء انتخابات مجلس الشعب، أو مجلس الشورى، أو الرئاسة، أو الاستفتاء.

لذلك لم يكن مبارك حاكمًا شرعيًا، ولا مجلس الشعب مُعبِّرًا عن أصوات الشعب، ولم يعد للمصريين طريق قانوني مفتوح للتعبير عن معاناتهم. بل كان الحزب الوطني هو المالك الوحيد للحكومة، والرئاسة، ومجلس الشعب!

4. تسلط الشرطة

هذا هو السبب الأهم، والعامل المؤثر في حياة المصريين جميعًا، فقد عانى المصريون من تسلط الشرطة في صور: قانون الطواريء الذي يسمح للشرطة بالتجسس على المكالمات، ومنع التجمعات، والقبض على أي أحد واعتقاله ومحاكمته في أمن الدولة دون الحق في نقض الحكم. وعانى من التعذيب في المعتقلات والسجون والأقسام، وعانى من تلفيق التهم، وعانى من زوار الليل وهتك الحرمات. ومن أبرز الأمثلة:

أ. قتل خالد سعيد

يوم 6 يونيو 2010 سجَّل خالد سعيد فيديو لضباط في قسم سيدي جابر يُظهِر أنهم يبيعون مخدرات تمت مصادرتها.

وبسرعة ذهب إلى (سايبر) لرفع الفيديو على الانترنت، وفوجيء الحاضرون بدخول اثنين من أمناء الشرطة، أحكما قبضتهما على خالد سعيد، وضربا رأسه في رخامة، وجروه للخارج، ودخلا به لمدخل عمارة، وفي حين أحكم أحدهما السيطرة عليه، لم يتوقف الثاني عن ضربه، وأمسك برأسه ورطمها في عمود خرساني حتى غطى الدم وجهه.

وأمام شهود كثيرة نقلوا جسده الغارق في دمه إلى قسم الشرطة، ولاختفاء الحقيقة يجب أن يختفي خالد سعيد للأبد، فقرروا قتله عمدًا، فحشروا لفافة من البانجو في فمه، فكتمت أنفاسه حتى فارق الحياة.

كان المتوقع أن تمر هذه الجريمة في تكتم وسرية مثل آلاف القتلى من المُعذَّبين في أقسام الشرطة والمعتقلات، لكن الغريب أن تهور أمناء الشرطة وتجبُّرهم جعلهما يقترفان جريمة التعذيب أمام العامة في الشارع، فنشر الناس أحداث التعذيب التي تمت أمام أعينهم، فتوالت المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، حتى أصبحت قضية رأي عام.

وسرعان ما أصدرت الداخلية بيانًا قالت فيه إن سبب وفاة خالد سعيد أنه بلع لفافة من البانجو أودت بحياته! وبعد هذا البيان أصدر الطب الشرعي تقريره مطابقًا لبيان الداخلية!

وأثار بيان الداخلية والطب الشرعي سخرية المصريين، فكيف لأحد أن يضع لفافة بنجو كاملة في فمه ظنًا منه أنه سيبلعها؟! وكيف تكذب الداخلية في حادثة تمت أمام عشرات الشهود من المارة؟! وما تفسير الكدمات والجروح والكسور في جمجمة وعظام ووجه خالد سعيد؟!  

وبعد ثورة 25 يناير كلَّفت المحكمة لجنة ثلاثية من أساتذة كلية الطب جامعة الإسكندرية والقاهرة وعين شمس، وأفاد التقرير وجود 3 كدمات في الرأس، و5 كدمات في اليدين، و5 كدمات في الوجه، وكدمتان في الفم نتيجة وضع لفافة البنجو عنوة.  

وفيما يتعلق بسبب الوفاة النهائى، فيذكر التقرير أنه نتيجة حشر لفافة بانجو فى الفم عنوةً بعد ضربه وفقدانه للوعى.

لذلك حكمت محكمة جنايات اسكندرية بالسجن 10 سنوات على شرطيين([21]).

لم تكن قضية خالد سعيد هي قضية تعذيب رجل واحد، بل اعتبرها المصريون رمزًا لآلاف القتلى الذين تعرضوا للتعذيب في السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة، وتخليصًا لحق الملايين الذين تعرضوا للإهانة والذل والضرب والسب من ضباط الشرطة.

ب. قتل سيد بلال

مساء 31/12/2010 وقع انفجار في كنيسة القديسين، وعلى إثر هذه الحادثة استدعى أمن الدولة في الإسكندرية الشاب السلفي سيد بلال للتحقيق معه مساء 4/1/2011، وظل سيد بلال محتجزًا في أمن الدولة يوم 5/1، وفي صباح يوم 6/1 تلقت أسرته اتصالًا من المستشفى لاستلام جثته!

وتقول المستشفى إن مجهولين ألقوا جثته على باب المستشفى وفروا مسرعين!

وأثبت التقرير الطبي وجود جروح ثاقبة في جبهة الرأس، وسحجات متعددة بالساعدين الأيمن والأيسر وبالقدمين، وسحجات وزرقان عند الخصر والعانة.

وحررت أسرته محضرًا تتهم فيه جهاز أمن الدولة بتعذيب سيد بلال حتى الموت، وتلقت تهديدات من جهاز أمن الدولة بالاعتقال إن لم يتنازلوا عن المحضر.

وكانت زوجة سيد بلال حاملًا، لكنها أجهضت إثر هذه الأحداث، وأُصيب أخوه التوأم بشلل نصفي نفسي، وتدهورت الحالة الصحية لوالدته.

تراكم هذه الأسباب ظل يشحن المصريين ويغلي دمائهم ويعري ظهورهم، حتى نجحت تونس في ثورتها، فكانت شرارة انطلاق ثورة 25 يناير.

كيف ثار المصريون؟

خرجت بذرة ثورة 25 يناير من صفحة على موقع (الفيس بوك) باسم (كلنا خالد سعيد)، وتم تحديد يوم انطلاق الثورة في 25 يناير، المتزامن مع عيد الشرطة، ويحمل ذلك أهم دلالة على أن الثورة كانت نتاج تسلُّط الشرطة واستبدادها وذلها للشعب.

الطابع السائد للثورة هو تنوع المشاركين بحيث يصعب تصنيفهم، فقد شارك في الثورة حركة 6 إبريل، وحركة كفايه، والجمعية الوطنية للتغيير، والإخوان المسلمون. وتواجد في الميادين جميع الفئات: أغنياء وفقراء، متعلمين وأميين، سكان الدلتا والصعيد، شباب وشيوخ، رجال ونساء.

وقد استعانت الشرطة بنحو 200 سيارة مصفحة، و50 أتوبيس نقل عام، و3 آلاف من قوات مكافحة الشغب، و 10 آلاف جندى أمن مركزى، ورغم ذلك لم تستطع السيطرة على المتظاهرين، واستطاع المتظاهرون الوصول إلى ميدان التحرير والاعتصام به.

ويوم الجمعه الموافق 28 يناير كان يوم الانفجار، إذ انفجر الثوار في كل شوارع مصر وميادينها في أغلب المحافظات، أهمها: القاهرة، والإسكندرية، والسويس، والمنصورة، والإسماعيلية، ودمياط، والفيوم، والمنيا، ودمنهور، والشرقية، وبور سعيد، وشمال سيناء. وقاومت الشرطة، واستخدمت كل ما في جعبتها من غاز مسيل للدموع، وعربات مصفحة، وجنود الأمن المركزي وفض الشغب، والرصاص الحي، لكن أفواج الثوار، والتحاق عوام الناس، وتوزيعهم المنتشر في أغلب المحافظات وأغلب الميادين، أدى إلى عجز الشرطة وانهيارها.

حاول النظام مقاومة الثورة إعلاميًا، فاتهم الثوار بأنهم خونة، ومأجورين، وممولين من الخارج!

وحاول مبارك استجداء تعاطف المصريين بثلاث خطابات، حاول من خلالها لفت الأنظار من اعتباره رئيس مسئول عن الفساد إلى أب صاحب فضل وعِشرة وهيبة!

وحاول النظام أن يُظهِر ثورة 25 يناير في صورة فتنة، وإثارة للشغب، وتهديد للأمن العام، فانسحبت الشرطة من كل مواقعها، وغابت تمامًا، واستعانوا ببلطجية يدمرون ويسرقون ويروعون الناس، وصوَّر التلفزيون الحكومي أعمال الشغب هذه، ونسبها للثوار، وأعلنت وزارة النقل أن 12 محطة مترو تعرضت للنهب والسرقة، شملت سرقة الإيرادات، وتفشت شائعات بأن أمريكا وإسرائيل سيحتلون مصر خلال أيام!

والأخطر أن فتحت الشرطة بعض السجون، وتفشت شائعات بأن مسجونين سيقتحمون البيوت.

كما استأجر النظام بلطجية، فاقتحموا ميدان التحرير على ظهور الخيل والجِمال، وحاولوا فض الاعتصام بالقوة، لكن تصدى لهم الثوار فردُّوهم.

رغم كل هذه المحاولات من النظام إلا أن قوة الثورة كانت تكمن في انتشار المتظاهرين وتوغلهم في فئات الشعب المصري؛ فكل ما يقوله النظام يسهل دحضه إن كان من المتظاهرين أخ أو صديق أو جار له رصيد من الصدق أكثر بكثير من نظامٍ تمرس الكذب حتى نفذ رصيده.

وأهم معالم هذه الثورة أنها تمسكت بالسلمية من أول يوم، ففي يوم 25 يناير حمل الثوار ورودًا يوزعونها تعبيرًا عن السلمية. وتردد كثيرًا شعار: سلمية. وعند انسحاب الشرطة، تمكَّن المتظاهرون من جنود الأمن المركزي، ورغم ذلك أعطوهم ملابس مدنية ليرتدوها ويرحلوا دون أن يمسهم أحد.

ورفض المتظاهرون أنصاف الحلول وإغراءات النظام، فرفضوا تغيير الحكومة، ورفضوا تعيين عمر سليمان نائبًا للرئيس، ورفضوا وعد مبارك بعدم الترشح للرئاسة مرة أخرة، ولم يرضوا إلا بسقوط رأس النظام، مبارك شخصيًا، وفي ذلك وعي بالمسبب الأول للفساد، وأصل المشكلة، وهو الاستبداد السياسي الذي يفرضه رأس النظام، واستمر هتاف: الشعب يريد إسقاط النظام.

وشهد ميدان التحرير تعبيرات رمزية للثوار، أهمها:

  • كان المسلمون يؤدون الصلاة في الميدان، وخلفهم إخوانهم المسيحيون يحمونهم. وكان المسلم يتوضأ من ماء يصبه عليه أخوه المسيحي. والعكس حين أقام المسيحيون قُدَّاسًا، حماهم إخوانهم المسلمين.
  • حين انتشرت شائعة بأن المتحف المصري يتعرض للسرقة، التف الثوار حوله وبنوا درعًا بأجسادهم لحمايته.
  • رغم تكدس الآلاف من المتظاهرين من الرجال والنساء في ميدان واحد، لكنه لم يشهد حالة تحرش ولا فتنة طائفية.
  • تطوَّع كثيرون لتنظيف الميدان وتجميع القمامة وكنس الشوارع والأرصفة.
  • في الليل كانت أجواء الميدان متنوعة وثرية وخصبة، فهؤلاء يلتفون حول شاعر يلهب حماسهم بأشعار الأبنودي وأحمد فؤاد نجم، وهؤلاء يلتفون حول مثقف يشرح لهم مواد الدستور، وما أحدثته الثورة الفرنسية في فرنسا، وهؤلاء يلتفون حول شيخ كبير يحكي قصة ابنه الذي لم يجد عملًا فاُضطر للرحيل عبر هجرة غير شرعية فغرق في البحر، وبذلك تحول الميدان إلى متحف، تتجول فيه فلا تشبع مما تسمع وترى.
  • كانت النكتة المصرية هي البطل الظاهر في لافتات الميدان، فكانت أغلب اللافتات والهتافات تحمل نكات أكثر منها لافتات سياسية، منها: “يا ريت مبارك كان ضربنا إحنا الضربة الجوية، وحكم إسرائيل 30 سنة، كان زمانهم بيشحتوا”، “يا نعيش عيشة لوكس، يا نركب كلنا البوكس”، “ارحل، مراتي وحشتني”، “ارحل، عشان احلق”، “اللهم ارفع عنا الغلاء والبلاء وابو علاء”.

نتائج الثورة

كما أن تأثير الاستبداد لا يقف عند السياسة، بل يدمر الأخلاق، والعلم، والدين، والاقتصاد، كذلك لم يقف تأثير الثورة على إسقاط الرئيس فقط، بل امتد وتشعب إلى مجالات الحياة العامة، ومنها:

  • انتشرت الثقافة السياسية بين جميع طوائف الشعب – بلا استثناء – فقد بات الجميع يتجادلون حول مواد الدستور، والخلافات الأيدولوجية للأحزاب، ويدرسون تاريخ الثورات العالمية. وهو يثبت ما قلناه: إن الوعي السياسي لا ينتشر إلا بممارسة الديمقراطية عمليًا.
  • بعد ثورة 25 يناير في مارس 2011 أُجري استفتاء على الدستور، شارك فيه أكبر عدد ناخبين شهدته مصر في تاريخها، وشهدت اللجان الانتخابية طوابير طولها تخطى الكيلومترات، وانتظر بعض الناخبين أكثر من 5 ساعات، ورغم الأمطار وطول الانتظار حرصت أعداد غفيرة من الشعب على المشاركة. فحين أدرك الشعب أن لصوته قيمة، ولقراره تأثير، تخلى عن السلبية، وشارك في صنع القرار.
  • انتشرت بعد ثورة 25 يناير مبادرات شعبية موسعة لصالح الوطن، منها تنظيف الشوارع، ودهان الأرصفة، والتبرع للدولة، وبناء مساكن جديدة لسكان العشوائيات، وبناء جامعات جديدة، الخ. فقد أدرك الشعب أن الوطن المسروق والمختطف قد عاد إليه وأصبح وطنه المسئول عنه والمنتمي له، وعاد لمفهوم الوطنية بريقه اللامع.
  • الحريات مفهوم عام لا يتجزء، وبالتالي فقد امتد أثر الحرية السياسية ليضم معه الحرية الدينية والاجتماعية والثقافية والفنية، الخ. فبعد ثورة 25 يناير شهدت مصر مساحة من الحريات امتدت لكل مجال، فأصبح الناس أكثر حرية وجرأة في نقاشاتهم الدينية، وكما ثاروا على الحاكم، ثاروا على الشيوخ المقلِّدين، فانتقدوا ما يرونه غير مقنع، وثاروا على العرف السائد الذي رأوه غير صحيحًا، وثاروا على الفن التقليدي المتكرر.

لذلك كانت ثورة 25 يناير هي أعظم صفحة في تاريخ هذا الوطن.


[1]. الجزيرة (أكثر من 350 قتيلًا في كارثة قطار الصعيد بمصر) 

[2]. حادث قطار محطة مصر: أكثر من 12 ألف حادث قطار في مصر خلال 12 عامًا، BBC

[3]. الموقع الرسمي لمنظمة الشفافية الدولية https://www.transparency.org/en/cpi/2010

[4]. محمد مصري، )الوطن) تكشف بالمستندات: لهذه الأسباب فشل (توشكى)، الوطن، 6/10/2014

[5]. منصور كامل، الوليد بن طلال: أزمة (توشكى) انتهت.. والـ75 ألف فدان هدية لثورة مصر، المصري اليوم، 25/4/2011

[6]. مافيا فساد مبارك وعصاباته عبر الحكومات ومعاناة العمال، الوفد، 30/4/2012

[7]. بيسان كساب، فى عهد مبارك.. عشرون عامًا من استنزاف شركات الدولة تحت شعار الخصخصة، الشروق، 4/12/2014

[8]. (2011 عام الثورة) ص905

[9]. أحمد شلبي، (الأموال العامة) تتسلم تقارير تكشف تورط جمال مبارك وعاطف عبيد فى (فساد الخصخصة)، المصري اليوم، 2/10/2011

[10]. خالد علي، قراءة في دفاتر الخصخصة 3: طرق الدولة لاهدار المال العام ومواجهتها، المفكرة القانونية، 16/9/2018

[11]. بيسان كساب، فى عهد مبارك.. عشرون عامًا من استنزاف شركات الدولة تحت شعار الخصخصة، الشروق، 4/12/2014

[12]. (2011 عام الثورة) ص909

[13].  رانيا بدوي، (المصري اليوم) تكشف أسرار ملف تصدير الغاز إلى إسرائيل، المصري اليوم، 26/7/2011

[14]. (فساد تعاقدات الغاز في عصر مبارك) ص26

[15]. (فساد تعاقدات الغاز في عصر مبارك) ص27

[16].  رانيا بدوي، (المصري اليوم) تكشف أسرار ملف تصدير الغاز إلى إسرائيل، المصري اليوم، 26/7/2011

[17]. يسري البدري وأحمد عبد اللطيف، (الكسب غير المشروع): 2 مليار جنيه لنجلى مبارك فى سويسرا.. و(حسين سالم) حوّل 24 ملياراً بعد الثورة، المصري اليوم، 28/10/2011

[18]. (فساد تعاقدات الغاز في عصر مبارك) ص11

[19]. ويكيليكس: سوزان مبارك تحفز توريث جمال، CNN، https://cnn.it/33VxQgG

[20]. (2011 عام الثورة) ص22

[21]. محمد فؤاد، (شهيد الطوارئ) يكشف عورة الشرطة والطب الشرعى.. قبل الثورة وبعدها، الشروق، 26/9/2011

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد باظة

تحرير/تنسيق: خالد عبود

اترك تعليقا