ثورات المعتزلة

من الملاحظ على الثورات السابقة أن أغلبها لم يتم الاستعداد والترتيب لها، بل هي اندفاعات شخصية، وردود أفعال تلقائية، لذلك باءت جميعها بالفشل!

في هذا العصر بدأت الفِرق الإسلامية تظهر، والعلوم تُدوَّن، والخبرات تنضج، والجدالات والمناظرات تنتشر، فثارت حوارات عميقة حول مشروعية الثورة، وجدواها، ومتى تصبح مؤثرة، وكيف يتم الترتيب لها.

واختلفت الفرق وقتئذ إلى ثلاثة آراء حول الثورة:

  • الخوارج: كان رأي الخوارج أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين، والثورة هي تطبيق للنهي عن المنكر، لذا فالثورة فرض عين على كل مسلم، ومتى وجد المسلم حاكمًا ظالمًا، وجب عليه الخروج ضده، ولو وحده، ولو علم أنه مقتول لا محالة، وبصرف النظر عن جدوى هذه الثورة أو نجاحها، المهم ألا يدع المسلم منكرًا دون النهي عنه.
  • أهل الحديث: أما أهل الحديث فكان رأيهم أن أغلب الثورات تبوء بالفشل، وصحيح الحاكم المستبد لا شرعية لحكمه، وصحيح للمستبد أضراره، لكن الفوضى التي تحدثها الثورات أكثر ضررًا وسفكًا للدماء. فقالوا: “ظلم سنة خير من فوضى ساعة”، فرفضوا الخروج على الحكام.
  • المعتزلة: أما المعتزلة فكانت أكثر الفرق عقلانية وواقعية، فهم يتفقون مع الخوارج على وجوب الخروج على الحاكم الظالم، ويتفقون مع أهل الحديث على أن الثورات الفاشلة مدمرة، لذلك أقروا مشروعية الثورة، وحرَّضوا عليها، لكن بشرط: وهو التمكين؛ أي لا يثور الناس إلا إذا اجتمع عدد ليس بقليل، واكتسبوا ظهيرًا شعبيًا، وقوة على الأرض، وترتيبات وتجهيزات تمكِّنهم من النصر، أو على الأقل ترجح احتمالية النصر.

وينقل القاضي عبد الجبار مذهب المعتزلة فيقول: “ما يحل لمسلم أن يخلي أئمة الضلالة وولاة الجور إذا وجد أعوانًا، وغلب في ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور، كما فعل الحسن والحسين، وكما فعل القراء حين أعانوا ابن الأشعث في الخروج على عبد الملك بن مروان، وكما فعل أهل المدينة في موقعة الحرة، وكما فعل أهل مكة مع ابن الزبير حين مات معاوية، وكما فعل عمر بن عبد العزيز، وكما فعل يزيد بن الوليد”([1]).

وسنرى تطبيق هذا الخلاف على أرض الواقع ..

إعلان

ثورة زيد بن علي

اختلف آل البيت حول الثورة على هشام بن عبد الملك، فأما جعفر الصادق، وهو من آل البيت، كان يحذِّر الناس من الثورة خوفًا عليهم، فقال: “إن بني أمية يتطاولون على الناس، حتى لو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، ولا يجوز أن يخرج عليهم واحد من أهل البيت حتى يأذن الله بزوال ملكهم”([2]).

أما زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فقد اشترك مع المعتزلة، بقيادة رئيسهم واصل بن عطاء، وثاروا على هشام بن عبد الملك.

وكانت مطالب الثوار محددة وواضحة:

  • التصدي للظلم.
  • توزيع الأموال بالعدل والمساواة.
  • وقف اضطهاد آل البيت.
  • إغلاق المعسكرات التي حشد لها الأمويون بدعوى الفتح في سبيل الله، لكن السبب الحقيقي وراءها كان توسيع مملكة وإمبراطورية الخليفة، وإلهاء الرجال بحروب على الحدود لينصرفوا عن حساب الحكام والتصدي لظلمهم.

وحينئذ أيَّد أبو حنيفة ثورة زيد بن علي، وقال عنه: “ضاهى خروجه خروج النبي في بدر”، ولم يستطع المشاركة في الثورة، لكن دعمه بالمال وأرسل إليه عشرة آلاف درهم([3]).

هدد هشام بن عبد الملك الأغنياء بمصادرة أموالهم، فنقضوا بيعتهم لزيد بن علي، وقعدوا مع القاعدين من شيعة جعفر الصادق، فهُزمت الثورة وقُتل الثوار.

وبعد مقتل زيد بن علي، دفنه أصحابه سرًا، لكن بنو أمية اكتشفوا مدفنه، فنبشوا قبره، وصلبوا جثته، ثم اجتزوا رأسه وبعثوا بها إلى هشام بن عبد الملك، الذي علقها زمنًا على باب دمشق، ثم طافوا بها على الناس في المدن الكبرى، كما أمر بحرق جثمان زيد ورموا رماده في نهر دجلة!

ثورة يزيد بن الوليد

لم يتوقف الحراك الثوري ضد الأمويين، بل اعتبروا ما سبق جولة خاسرة، لكنها ليست النهاية، فاحتشدوا وقاوموا وثابروا مرات ومرات، فكانوا غصة في حلق الأمويين، وظل نخرهم في عظم الأمويين يتسع ويخترق.

في عقر دار الأمويين، الشام، ثار الناس خلف قائد معتزلي آخر: يزيد بن الوليد، ضد ابن عمه، الوليد بن يزيد، الذي اشتهر بفساده وانحرافاته.

يقول عنه السيوطي: “كان فاسقًا، شريبًا للخمر، مُنتهِكًا لحرمات الله، أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة، فمقته الناس لفسقه”([4]).

ويقول عنه الذهبي: “اشتهر بالخمر والتلوط، فخرجوا عليه لذلك”([5]).

ويقول المسعودي: “كان خروج يزيد بن الوليد على الوليد بن يزيد لِمَا ظهر من فِسْقِه وشمل الناس جَوْرِه”([6]).

وهذه المرة من المرات القلائل التي نجحت فيها الثورة، فقتلوا الوليد وبايعوا يزيدًا.

وفي أول أيامه قال: “أيها الناس، إن لكم عليَّ ألا أكتنز مالًا، ولا أعطيه زوجة ولا ولدًا، ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد، حتى أسد فقر ذلك البلد، وخصاصة أهله بما يغنيهم، فإن فضلت فضلة نقلته للبلد الذي يليه مما هو أحوج إليه. ولا أحمل على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم وينقطع نسلهم. فإن أنا وفَّيت لكم بهذا، فعليكم السمع والطاعة، وحسن المؤاذرة والمكاتفة، وإن لم أوفِ به، فلكم أن تخلعوني، إلا أن تستتيبوني، فإن تبتُ قبلتم مني، وإن رأيتم أحدًا أو عرفتموه بالفضل والصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيتكم فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته”([7]).

لأول مرة تنتصر الثورة ويتمكن الثوار، وقد قيل عن يزيد بن الوليد أن عدله يضاهي عدل عمر بن عبد العزيز، بل اعتبره البعض أفضل من عمر بن عبد العزيز؛ لأنه وصل للحكم باختيار الناس، أما عمر فقد وصل بالوراثة.

ولأول مرة منذ عهد الخلافة الراشدة يختار الناس إمامهم بكامل حريتهم. كما نجده يحرِّض الناس من أول يوم أن يعزلوه إن حاد عن الحق، وهو قول لم نسمعه منذ الخلفاء الراشدين.

لكن تُوفي يزيد بعد خمسة أشهر فقط من ولايته. عندها وثب الأمويون للعرش، ونبشوا قبره وأخرجوا جثمانه لصلبه، وقتلوا أتباعه!

ثورة النفس الزكية

ولم يتوقف الحراك الثوري ضد الأمويين، وظل التخطيط للثورات يتوالى حتى آلت شمس الدولة الأموية للزوال.

أعدَّ المعتزلة الترتيبات لانتقال الحكم الوراثي إلى الشورى، وآن الوقت أن يعود الحكم ليد الشعب، ويختارون من يرضون، فبايعوا محمد بن عبد الله بن الحسن، المعروف بالنفس الزكية.

لكن جماعة ممن شاركوا في الثورة وبايعوا النفس الزكية قد خانوا وطمعوا في الحكم، وأرادوا أن ينتقل الإرث من الأمويين إلى العباسيين، ويصبح وراثة أيضًا فيما بينهم، وقاد هذه الحركة الغادرة أبو العباس، الملقب بالسفاح، وأخوه أبو جعفر المنصور، فاعتبر المعتزلة ذلك انقلابًا على السلطة، ونقضًا للشورى، فرفضوا حكم العباس وتصدوا له.

وأخذ السفاح بيعة الناس تحت تهديد السلاح جبرًا وقهرًا. يقول السيوطي: “وكان السفاح سريعًا إلى سفك الدماء”([8])، لذلك لقبوه بالسفاح. وظل يطارد النفس الزكية في كل مدينة، حتى تُوفي السفاح.

وبعد وفاة السفاح تولى من بعده أخوه: أبو جعفر المنصور، ولم يكن أقل دموية من أخيه، فيقول عنه السيوطي: “قتل خلقًا كثيرًا حتى استقام ملكه”([9]).

وظل النفس الزكية مختبأً مطارَدًا، ينتقل من مدينة إلى أخرى سرًا، حتى أنه أثناء إحدى المطاردات سقط ولده الرضيع من على جبل!

عندئذ رأى المعتزلة أن الوقت غير مناسب للثورة، فلم يمتلكوا أعدادًا وتجهيزات وشعبية تؤهلهم للقيام بثورة ناجحة، فأجلوا ثورتهم، ورفضوا التعاون مع المنصور، ولم يشترك واحد منهم في أجهزة الدولة، وجهزوا أنفسهم سرًا، وظل عمرو بن عبيد يتواصل مع النفس الزكية، ويحرضون الناس ضد المنصور سرًا حتى تحين اللحظة المناسبة وتشتعل الثورة.

وكان المنصور مدركًا لمنهجية المعتزلة؛ لأنه كان أحد تلاميذهم يومًا ما، فقال: “إن عمرو بن عبيد لا يخرج عليّ إلا إذا وجد ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا مثل نفسه”، لذلك حرص المنصور أن يُعجِّل هذه الثورة قبل أن تكتمل تجهيزاتهم، فدعا عمرو بن عبيد ليثنيه عن التجهيز للثورة بعرض السلطة والمال بين يديه، ودار بينهما حوار يكشف عن الجو السياسي وقتئذ:

قال عمرو بن عبيد: يا أمير المؤمنين، إنّ هؤلاء اتخذوك سلَّما لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك يحلب، فاتّق الله فإنك ميت وحدك، ومُحَاسَب وحدك، ومبعوث وحدك، ولن يغني عنك هؤلاء من ربك شيئًا.

قال المنصور: خذ خاتمي، وولِّ من شئت، وأعنِّي بأصحابك، أستعن بهم.

عمرو: إن أصحابي لا يأتونك وهؤلاء الشياطين على بابك، فإن هم أطاعوهم أغضبوا الله، وإن عصوهم أغروك وألبوك عليهم. ببابك ألف مظلمة، أردد منها شيئًا نعلم أنك صادق. أظهر الحق يتّبعك أهله.

المنصور: بلغنى أن محمد بن عبد الله ابن الحسن (النفس الزكية) كتب إليك كتابًا.

عمرو: قد جاءنى كتاب يشبه أن يكون كتابه.

المنصور: فبماذا أجبته؟

عمرو: أولست قد عرفت رأيى فى السيف (الثورة المسلحة) أيام كنت تحضر دروسنا؟

وهَمَّ عمرو بن عبيد بالانصراف، فقال له المنصور: قد أمرت لك بعشرة آلاف درهم، تستعين بها على زمانك.

عمرو: لا حاجة لى فيها.

المنصور: هل لك من حاجة؟

عمرو: نعم، ألا تبعث إليَّ حتى آتيك.

المنصور: إذن لا نلتقى.

عمرو: وهذا ما أريد([10])!

ولما فشلت محاولة المنصور مع عمرو بن عبيد، ظل يدفع في اتجاه تعجيل الثورة قبل اكتمال تجهيزاتها، فقبض على أهل النفس الزكية، وكبَّلهم بسلاسل الحديد، وحبسهم في سرداب لا يدخله شمس، وانقطعت عنهم أخبار الحياة والأحياء، حتى خاضوا تجارب إنسانية فريدة، فأرادوا أن يقسموا اليوم حتى يتبينوا مواقيت الصلاة، فقسموا القرآن إلى خمسة أجزاء، وظلوا يتناوبون على قراءة القرآن، وبعد كل جزء، يؤدون الصلاة!

وكانوا يقضون حوائجهم في مكانهم، فاشتدت الروائح الكريهة وطالت الأمراض أجسادهم حتى قتلت بعضهم، وأمر المنصور ألا تُخرج الجثة من السرداب، فمات آخرون من رائحة الجيفة!

هنا أُضطر النفس الزكية للتعجيل من الثورة، ودخل الثوار المدينة وأيدهم أهلها وانضموا إليهم، لكن أبو جعفر المنصور حاصر المدينة ومنع عنها أي زاد.

وثار هنا مسألة فقهية: فالناس بايعوا المنصور تحت تهديد السلاح، فهل يجوز نقض بيعة المنصور والانضمام إلى ثورة النفس الزكية؟

سأل أهل المدينة الإمام مالك، فقال: “إنما بايعتم مكرَهين، وليس للمكرَه بيعة”، وحرَّض الناس على الانضمام لثورة النفس الزكية، وبعد ذلك عرف أبو جعفر المنصور بقول مالك، فأمر بسجنه، وتعريته من ملابسه، وربط أطرافه حتى انخلع كتفه، وجلده!([11])

كما أيد أبو حنيفة ثورة النفس الزكية، وأعلن ذلك أمام تلاميذه، وحرَّض جنود المنصور على التمرد، لذلك انتقم منه المنصور بعد ذلك فسجنه وجلده([12]).

إذن فالمدينة عوامٌ وعلماءٌ على قلب رجل واحد، صامد أمام الطغيان، جاهز للقتال.

اقتحم المنصور المدينة بجيشه، وصمد الثوار صمود الجبال، وقتل النفس الزكية وحده سبعين جنديًا، لكن انهزم الثوار وقُتلوا جميعًا، وبعدها قطعوا رأس النفس الزكية وطافوا بها المدائن، فقد ورث العباسيون عادة الأمويين التي لا تعرف خلقًا ولا شرفًا، وصلبوا جثت الثوار مع النفس الزكية على جانبي طريق المدينة لمدة ثلاثة أيام حتى تأذى الناس من رائحة الجثث فأنزلوهم!([13])

***

هذه الحلقة من سلسلة ثورات الأمة أفادتنا بنقلة نوعية هائلة؛ إذ لم تَعُد الثورة مجرد انفعال طاريء، ولا حماس طائش، بل أصبحت الثورة عملية سياسية وإعلامية وعلمية هادئة، تحتاج إلى إعدادات سرية، ودعاية شعبية، وسند علمي، وقادة سياسيين، وتحتاج إلى رجال مخلصين، مؤمنين بالقضية، سماهم عمرو بن عبيد: بدريين، نسبةً إلى أهل بدر.

ولم تَعُد الخيارات المتاحة فقط إما ثورة منفعلة، أو رضا بالظلم وجبن وخنوع، بل يوجد طريق ثالث: وهو عدم التعاون مع المستبد، وفي الوقت نفسه تحريض الشعب، وتوعية الناس بأضرار الاستبداد، والتجهيز السري للثورة، وبناء قادة مؤهلين، وتمهيد الطريق حتى يحين وقت تقف الثورة وتستند على أرض صلبة تحميها.

وقد قدَّم المعتزلة نموذجًا فريدًا لمدرسة من مدارس المسلمين؛ فهم علماء تخصصوا في أدق العلوم وأصعبها وأعمقها، وجمعوا بين علوم العقل والنقل، ولم يشغلهم ذلك أو يعذلهم عن دورهم العملي على أرض الواقع. إن المعتزلي نموذج للمسلم، ثابت في المناظرات وصامد في الثورات، يحمل قلمًا وسيفًا، والأهم أنه يعرف متى يستخدم كلًا منهما.


[1]. (تثبيت دلائل النبوة) ج2 ص574

[2]. (الملل والنحل) ج1 ص156

[3]. (أبو حنيفة .. حياته وعصره – آراؤه وفقهه) ص37-64

[4]. (تاريخ الخلفاء) 187

[5]. (تاريخ الإسلام) ج8 ص294

[6]. (ضحى الإسلام) ص748، نقله عن (مروج الذهب) ج2 ص152

[7]. (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة) ص115، (المقالات) ص196

[8]. (تاريخ الخلفاء) ص193

[9]. (تاريخ الخلفاء) ص193

[10]. (أمالي المرتضى) ج1 ص175، (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة) ص249

[11]. (تاريخ الطبري) ج7 ص560، (الكامل في التاريخ) ج5 ص111، (تاريخ الخلفاء) ص194

[12]. (أبو حنيفة .. حياته وعصره – آراؤه وفقهه) ص37-64

[13]. (مسلمون ثوار) ص179-194

إعلان

اترك تعليقا