نقد العلوم الشعبوية

عن استغلال العلم في تمرير الأيديولوجيا

يقول فيلسوف العلوم كارل بوبر: “بالنسبة لموقفي، باختصار شديد، فإنني أدعم العلم والعقلانية، ولكنني ضد تلك المطالبات المبالًغ فيها من العلوم التي شُجبت أحيانًا، على نحو صحيح، بوصفها «علموية». أنا أدعم «البحث عن الحقيقة»، والجرأة الفكرية في البحث عن الحقيقة؛ لكنني ضد الغطرسة الفكرية، وخصوصًا ضد الزعم الخاطئ بأننا نمتلك “الحقيقة في جيوبنا، أو أننا يمكننا الاقتراب من اليقين.”

من الملاحَظ على الساحة الفكرية الآن وجود عدد كبير من الشباب المتحمس للعلم ينشرون ويتناقلون معلومات علمية بشكلٍ هستيري دون تمعن حقيقي في الأمر لقضايا مضمَرة في خبر ما أو في أيدولوجيا لكاتب ما، ووجب التنويه من البداية أنه ليس هجوم على الـبوب ساينس”العلوم الشعبوية” بقدر ما هو إيضاح بعض الأشياء غير الملتفَت إليها ومن هذه النقطة لزم علينا إيضاح عناوين جانبية لهذا المقال:
1. ما هو العلم؟
2. ماهو (البوب ساينس)؟
3. الوضعية المنطقية كأيدولوجيا.
4.الأيدولوجيا أو ما يسمى بالحتمية العلمية.
5. هل يتمتع كل العلماء بالنزاهة العلمية (عن دور الشهرة في البحث العلمي)
6. نصيحة (بيتر مداور) لعالم مبتدئ.

1. ما هو العلم؟

الحقائق Facts

يبدأ العلم بافتراض وجود حقائق فعلى سبيل المثال يقبل العالِم ما تسجله الحواس أو قراءات مؤشرات الأجهزة كحقائق. تكتسب تلك الحقائق مصداقيتها بشرط أن يتفق عليها راصدون مستقلون، أو إذا أُجريت المشاهدات في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة وتطابقت النتائج بهذا الأسلوب فقط يمكن استبعاد الآراء الشخصية والمعتقدات الفردية.

مثالًا على ذلك إذا توافقت بالإجماع نتائج عدد من الراصدين المجهزين بأكفاء الأجهزة والتلسكوبات على عدد أقمار كوكب الزهرة ومدار كل منها وحجمه وشكله، في هذه الحالة يمكن قبول نتائجهم كحقائق صحيحة أمّا كون بعض هؤلاء أو كلهم من المعروفين بسوء الطبع أو من ذوي التصرفات غير المقبولة أخلاقيًا مثل تناولهم للكحوليات بكثرة أو ممن يضربون زوجاتهم؛ فهذا لا يمس صحة نتائجهم. الشيء الوحيد المهم الذى يجب عمل كل حساب لمنعه هو عدم السماح بتواجد مؤامرة بينهم، والتأكد من أنهم توصلوا إلى نتائجهم باستقلالية تامة وبعيدًا عن الآخرين. من ناحيةٍ أخرى، فإن أحلام وإلهامات الدراويش، الذين يتمتعون بلا شك بقدر كبير من الاحترام والإجلال، لا يمكن قبولها كحقائق علمية بأي حال من الأحوال حيث إنها لا تعدو كونها تجاربَ شخصية بحتة، كما أنها غير قابلة للاختبار والتكرار والتحقق.

القوانين Laws

ترتَب الحقائق في مجموعات، والعلاقة الرابطة بين مجموعة من الحقائق المندرجة تحت نفس المجموعة تسمى قانونًا أو قاعدة، وهي مجرد تنظيم وترتيب لِما يتم رصده. ونسوق مثالين على ذلك:

إعلان

-إن الضغط الذي تشكله كمية معينة من الغاز على جدران وعاء مغلق يحوي هذا الغاز يتناسب طرديًا مع درجة الحرارة (قانون بويل).

-إن توارث الصفات لا بد أن يتم من خلال وحدات (جينات) تنتقل من الآباء إلى الأبناء والتي تتفرق ثم يُعاد اتحادها مع بعضها بشتى الأشكال أثناء عملية التناسل (قانون مندل).

لابد من وجود حقائق حتى يمكن التوصل إلى القوانين وصياغتها، فالحقائق المجردة تظل عقيمةً حتى يأتي العقل الذي يستطيع أن يميز بينها -العقل القادِر على أن ينظر تحت سطح الحقائق المجردة ليرى أصلَ وروح الحقيقة-، هذا ما يفرّق بين العالِم القدير والمدعي الزائف.

الافتراضات Hypotheses

الافتراضات ما هي إلا تخمينات محتملة تمثل فهمًا مبدئيًا لموضوع البحث وهي توضع بعد ذلك موضع التجربة والاختبار وهاهنا مثالان لهذه الافتراضات:

– يتناسب احتمال الإصابة بسرطان الرئة تناسبًا طرديًا مع عدد السجائر المدخَنة يوميًا.

– تزداد كمية المطر في مكان ما كلما زاد عدد المصلين وزادت دعواتهم بنزول المطر.

للتحقق من صحة أي من الفرضيتين السابقتين لا بد من جمع البيانات بأعداد كافية حتى يصبح احتمال حدوث تذبذب نتيجة الصدفة أبعد ما يكون، وإلّا توصل الإنسان إلى استنتاجات غريبة مثل تزايد عمر الإنسان كلما زادت كمية السجائر التي يدخنها يوميًا أو تناقصت كمية المطر كلما زاد عدد المصلين.

النظرية Theory

النظرية مفهومٌ واسعٌ يقبع في جوهر الفكر. والنظرية تعطي صورةً متكاملةً للأمور الواقعة في مجالها. إضافةً إلى ذلك فلا بد للنظرية العلمية أن تستوفي بعض الشروط الصارمة:

-لابد وأن تتماشى مع كل المشاهدات ونتائج الاختبارات المعروفة.

-لا بد وأن تتضمن مفهومًا جديدًا يتيح لها توقُع نتائج وحقائق غير معروفة مسبقًا ولكن يمكن اختبار مصداقيتها.

حتى ترتفع النظرية من كونها مجرد افتراض مطلي بطلاء الإيمان، فلا بد وأن تكون شموليةً وغير قاصرة على مجموعة ضئيلة من المشاهدات. فمن أكبر محددات النظرية الحقيقية أن تكون شاملةً لعدد واسع من الظواهر، فنجد مثلًا أنّ نظرية الجاذبية لنيوتن تنطبق تمامًا على حالة نملة جالسة على كرة صغيرة كما تنطبق على قذيفة منطلِقة في طريقها إلى هدفها. كذلك على حركة القمر حول الأرض، وعلى مسار الأرض حول الشمس، وعلى حركة الشمس بدورها بالنسبة لباقي النجوم. النقطة الأساسية في مسألة النظرية هي أن تكون عامةً وجامعةً بحيث لا يضطر الفرد إلى اللجوء للاستشهاد بنظريات أخرى كلما أراد تفسير حدوث كل حقيقةٍ جديدة.

من ناحية أخرى، علينا أن نقرّ بعدم وجود تعريف شامل كامل للنظرية العلمية، فكما أكد (كارل بوبر) أحد فلاسفة العلم حين أشار بأن النظرية في أساسها يجب أن تكون قابلةً للنقض حتى ترقى لمستوى النظرية؛ معنى ذلك أنّ على الإنسان أن يكون قادرًا على التعرُّف بوضوح على الموقف الذي إذا طُبقت فيه النظرية قادته المحاولة إلى إجابة محددة للسؤال عمّا إذا كانت النظرية صحيحةً أم لا. فالنظرية التي يمكنها تفسير بعض الأشياء دون التنبؤ بشيء جديد لا يمكن بالتالي دحضُها ونقضُها ولا يمكن استخدامها كنظرية.

إن عنصر النقض مهم جدًا وذو فائدة كبيرة فهو يساعدنا على الفصل بين العلم واللاعلم إلا أن الأمر لا يخلو من بعض العيوب. وللتمثيل على عدم فائدة ذلك العنصر في بعض الأحيان نتناول نظرية “الأوتار الفائقة للجسيمات الأولية”، هدف هذه النظرية في النهاية توحيد كل القوى الأساسية في الكون وكذلك التنبؤ بجميع أنواع الجسيمات الممكن وجودها. وبالمناسبة، فإن النظرية معروفةٌ أيضًا بنظرية “كل شيء”.

للأسف فبالرغم من أن أقوى العقول تتصارع حاليًا مع النظرية في محاولة لاستخلاص تنبؤ ما يمكن إخضاعه للتجربة والاختبار، إلا أن جميع المحاولات قد باءت بالفشل إلى اليوم؛ ذلك لأن النظرية على درجة عالية جدًا من التعقيد الرياضي، كما أن التنبؤات الوحيدة للنظرية فتتعلق بكمّ الطاقة المهولة التي تواجدت وقت بداية خلق الكون بناءً على ذلك فلا يوجد فيها حتى الآن شيءٌ محدد يمكن إخضاعه للاختبار ولا حتى في أكبر المفاعلات النووية في العلم. معنى ذلك أن النظرية تفتقر إلى عنصر النقض ومع هذا لم يتم الاستغناء عنها واعتبارها غير علمية، لعدة أسباب منها: أنها مبنية على أسُس القواعد النظرية الراسخة التي أثبتت نجاحها في السابق، إضافةً لكونها لا تتعارض مع أي من الظواهر المعروفة وكذا فإنها تعطي أملًا معقولًا لتوحيد كل المعرفة المتوفرة حاليًا، كما أنها تعطي أملًا للوصول في النهاية إلى اكتشاف شيءٍ جديدٍ تمامًا. بناءً على ذلك فبالرغم من أنها نظرية غير قابلة للاختبار، إلا أن عنصر الاختبار قد يتوفر فى المستقبل. تجدر الإشارة إلى كلام دوهيم في هذا الأمر حيث قال: “إن كل تجربة مثقلة بنظرية تسبقها.”

الاستقراء والاستنتاج Induction and Deduction
إن التأملَ في المتشابهات ضمن مجموعة ما من البيانات يمكّن الفرد من تجميع المعلومات بأسلوب استقرائي مما يتيح الفرصة لوضع قوانين بسيطة على سبيل المثال برؤيتنا للشمس تشرق كل يوم من الشرق وتغرب في الغرب، نستطيع أن نستقرئ أن الشمس ستفعل نفس الشيء غدًا. وهنا نحب أن نشير إلى أمرٍ في غاية الأهمية على مشكلة الاستقراء ذكرها الفيلسوف (إدورد فيزر) في كتابه”آخر خرافة” حيث يقول:
“مشكلة الاستقراء: تكاد تكون النسبوية هي التحدي الوحيد الذي أثارته الافتراضات الفلسفية المضادة للأرسطية أمام العلم التجريبي، والتي يأخذها معظم فلاسفة العصر الحديث (ومعظم العلماء المحدثين كذلك في تجلياتهم الفلسفية) على أنها مسلّمة. وكما أوضحنا من قبل، فعندما تم التخلي عن مفهومي العلة الغائية والصورية، أصبحت العلل والمعلولات متراخيةً ومنفصلةً عن بعضها البعض، ولم يعُد هناك سبب موضوعي لوجوب أن ينتِج هذا المؤثر ذاك الأثر الكذائي أو هذا الجمع من الآثار، أو لِمَ يجب أن يصدر أي أثر عن هذا المؤثر الكذائي؟ وهكذا نكون قد وصلنا لمشكلة الاستقراء الشهيرة: فكيف نعرف أن ما لم نلحظه يماثل ما نلحظه؟ كيف لنا أن نعلم أن المستقبل سيشبه الماضي؟ إن لم يكن بمقدورنا معرفة تلك الأمور، فيستحيل أن تقوم قائمة للعلم التجريبي، إذًا إنّ من شأنه وصف العالم بالمعنى الأعمّ (كِلا المشاهَد وغير المشاهَد) ومن ثم بالاستناد لهذا الوصف يقوم بالتنبؤات عن العالم. لكن إن لم تكن تتشارك الأشياء في الصور أو الماهيات (العلة الصورية)، ولا يوجد أي شيء جوهري يشير إلى ما هو خارج عن ذات الأشياء (العلة الغائية) إذًا فكيف لنا أن نستدل على ما لا نلاحظه بما نلاحظه؟ أو بالحاضر والماضي على المستقبل؟
تلك هي مشكلة الاستقراء كما خلّفها لنا هيوم (مرة أخرى نرى أنّ ما تُسمى بالمشكلة التقليدية للفلسفة لا تعود إلا لأوائل المحدثين فقط، والذين بخلاف القدماء والقروسطيين، اختلقوا المشكلات بدلًا من حلها) قام فيلسوف القرن العشرين (نيلسون جودمان) بطرح لغزٍ فلسفي له صلة بهذا الأمر، ويمكن عرضه كالآتي: لنفرض أن شيئًا ما يُقال أنه “أخرق” إذا ما لوحظ ولونه أخضر قبل زمان معين (وليكن 1 يناير 2010) ولوحظ ولونه أزرق بعد هذا الزمان. الآن، من الواضح أن الزمرد لونه أخضر، ونحن نفترض أنه سيظل لونه أخضرًا حين تأتي سنة 2010. ولكن لِمَ لا نفترض أنه “أخرق” بدلًا من ذلك، وعليه، سيكون لونه أزرقًا بعد 2010؟ فعلى كل حال، الأدلة التي معنا حتى الآن على كون الزمرد أخضرًا تعد دليلًا كذلك على كونه “أخرقًا”. هذا اللغز عصيٌ جدًا على الحل، وأنا ألتزم ألّا حل له بدون الإقرار بأن للأشياء عللٌ صورية وغائية (على سبيل المثال، أن الأخضريةَ جزءٌ من صورة وماهية الزمرد، وأنّ العمليات السببية مثل تلك التي تنتِج الزمرد تنتظم نحو مجال محدد من النتائج)، ولا مفاجأة في أنه كان على (جودمان) أن يكتشف اللغز، فلقد كان واحدًا من الاسمين البارزين في فلسفة القرن العشرين.

أما الاستنتاج فيعمل بطريقة أخرى حيث نبدأ ببعض القواعد العلمية ثم نخلص منها باستنتاج معين باستعمال و تطبيق الحجج المنطقية.

 

2. ماهو (البوب ساينس) أو علم الشعبوي pop-science

أحب أن أسجل أنني لست من المعارضين لكل كتب (البوب ساينس) لكن هنا يجب أيضًا أن أسجل رفضي لعدد كبير من هذه الكتب التي يتم فيها تمرير أيدولوجيات بشكل مضمر في كثير من الأحيان، اسمحوا لي أن أبدأ القصة مع العالم تشارلز بيرسي سنو 1905-1980.
كان سنو عالمًا وأديبًا وكان يتحرك بين الثقافتين قدمًا هنا وقدمًا هناك، بدأ حياته في العلم وسجل الدكتوراه في الكيمياء من جامعة كمبريدج في أكتوبر عام 1928 وبدأ بحثه في معمل كافنديش الشهير على التحليل الطيفي لكنه اضطر إلى أن يترك حقلَ العلم عندما نشر في مجلة “نيشتر” هو وزميل له أنهما اكتشفا طريقة لإنتاج فيتامين أ اصطناعيًا وثبت خطؤها فاتجه إلى مجال الأدب، فنشر رواية بوليسة سنة 1934 وتوالت الكتابات حتى نشر كتاب “الثقافتان” حيث يريد سنو أن يجمع بين العلم والكتابة الأدبية فيقول: “دراستي علمية ومهنتي الكتابة.”
ومن هنا بدأ الكتابة العلمية أو ما يعرف بالثقافة الثالثة وفيما بعد بالبوب ساينس أو العلم الشعبوي، وهو تبسيط العلم للعامة من الناس.
وإلى هنا لا مشكلة في تبسيط العلوم إلى العامة من غير المتخصصين بدون دخول الأيدولوجيات في الامر لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. حيث تبدأ الأيدولوجيا في التسلل عبر الكتابات ومن ضمن هذا الأمر هو الوضعية المنطقية.

3. “الوضعية المنطقية” والعلم الموحد كأيدولوجيا

وضع الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت مؤسس علم الاجتماع الحديث مفهوم ومصطلح “النظرية الوضعية” وكانت متمثلةً في جماعة فيينا التي تدعو إلى الاقتصار في البحث العلمي على علاقات العالم المادي السببية وارتباطاته الكمية.
وفي القرن العشرين، تسلح المنظور الوضعي بالمنطق الرياضي وبمفاهيم النظرية النسبية فأفرز في أعقاب الحرب العالمية الأولى “الفلسفة الوضعية المنطقية” والتي أصبحت وقتها أشهر مدارس فلسفة العلم وأعلاها صوتًا والأكثر تطرفًا في النظرة المادية إذ اعتبرت أن كل ما يخرج عن عالم المادة ليس إلا تعبيرات انفعالية لا معرفية أو هراء يخلو من المعنى فضلًا عن الجدوى. وظلّت الوضعية المنطقية مسيطرةً حتى منتصف القرن العشرين وكأنها المتحدثة باسم العلم. وقد أعطى الفيلسوف الإنجليزي سير ألفريد آير الفلسفة جماعة فينا دفعةً قويةً حيت طرح مبدأ التثبت أو التحقق الذي يرى أن قبول أي افتراض أو مسألة يتوقف على القدرة على إثباتها أو نفيها علميًا بالتجربة ومن ثم فلا معنى لأي افتراض أو مسألة تقع خارج نطاق العلم التجريبي ومن ثم إنكار ما يسمى بالميتافيزيقا.

وقد بلغ الأمر مع الوضعية المنطقية ذروته بفكرة “العلم الواحد الموحد” التي تقوم على رد كل العلوم إلى الفيزياء مما يعني معالجة سائر الظواهر حتى الظواهر النفسية والاجتماعية في إطار ومصطلحات ولغة علم الفيزياء التي تتعامل مع كل المفاهيم في إطار المادة والزمان والمكان، واعتبار كل ما لا يقل (عن) ذلك من العلم الزائف. لذلك انهالت هذه الفلسفة بالنقد اللاذع على الميتافيزيقا في محاولة لاثبات عقمها. وللقيام بهذه المهمة وضع كارناب قطب الوضعية المنطقية ما أسماه “لغة العلم” للتعامل مع هذا المفهوم الموحد هذا قبلَ أن يتراجع عن أفكاره فيما بعد.
وينتهي عصر الفلسفة الوضعية عندما يعلن مُنظرها الأكبر في الخمسينيات للقرن العشرين سير (آير) أن هذه الفلسفة ملأى بالتناقض بالرغم من أنه قضى أكثر من ربع قرن في معالجة أخطائها. لقد تنبه (آير) إلى أنه لا ينبغي أن نحاكم قضايا مختلفة بنفس قواعد قضية واحدة أو أن نمارس لعبة الشطرنج بقواعد لعبة الكرة.
ولم يقف الأمر على هذا النحو مع دخول الفلسفة الوضعية المنطقية مجددًا في بعض كتابات (البوب ساينس) لكن الأمر أكبر من هذا حيث دخول ما يعرف بالحتمية القديمة من جديد مع اليمين الجديد بمعنى أننا من فترة إلى أخرى نرى عالم مثل واتسون يتحدث عن تميُّز البيض على السود في الذكاء ويقول أن الأمرَ جيني أو حتمية جينية ويضع بين قوسين “العلم يقول” لكن بغض النظر عن كونه عالم كبير وحاز على نوبل في الحماقة تظل حماقة حتى لو طلعت من أفواه العلماء. ومن هنا نبدأ في شرح الحتمية الجينية كمثال على مشاكل البوب ساينس هنا.

4. اليمين الجديد والحتمية الجينية

يستغل بعض العلماء مكانتهم العلمية في تمرير أفكار غير علمية باسم العلم، فكما ذكرنا موقف (واتسون) العالِم الحاصل على جائزة نوبل في اكتشاف الـ”دنا” حينما أدخل الحتمية الجينية في مسألة عنصرية قديمة يمارسها البعض من اليمينيين. على أن أيدولوجية “اليمين الجديد” يزرع فكرة أن هناك شعوب بعينها متخلفة جينيًا والأمر كله ليس بيدها فيبقى الغني غنيًا والفقير أكثر فقرًا وهكذا، وهنا يوجد الاتجاه التبسيطي وهو اسم أُطلِق على مجموعة من المناهج والطرائق العامة لتفسير عالم الأشياء المادية هو والمجتمعات البشرية معًا.

والمعنى الواسع هو أن التبسيطيين يحاولون تفسير خصائص الكليات المركبة -الجزئيات مثلًا أو المجتمعات- بِردها إلى الوحدات التي تتكون منها هذه الجزيئات أو المجتمعات. وهم يحاجّون مثلًا بأن خصائص جزيء البروتين يمكن تحديدها والتنبؤ بها على نحو متفرد في حدود خصائص الإلكترونات والبروتونات… إلخ، التي تتكون منها ذرات الجزيء. وهم يحاجّون أيضًا بأن خصائص المجتمع البشري هي بالمثل ليست إلا حاصل جمع التصرفات الفردية وميول أفراد البشر الذين يتكون منهم ذلك المجتمع. فالمجتمعات مثلًا “عدوانية” لأن الأفراد الذين يكونونها “عدوانيون”.

وبلغة المصطلحات، فإن التبسيطية هي الزعم بأن الوحدات المكوِنة للكل هي أنطولوجيا سابقة على الكل الذي تكونه من السببية تجري من الوحدات إلى الكل. والموقف الفلسفي الثاني متعلقٌ بالأول. وهو حقًا بمعنى ما حالةٌ خاصة من التبسيطية. إنه موقف “الحتمية البيولوجية” والحتميون البيولوجيون يسألون في الخُلاصة، عن سبب كون الأفراد على ماهم عليه. لماذا يفعلون ما يفعلون؟ وهم يجيبون بأن حيوات البشر وأفعالهم هي نتائج متومة للخصائص البيوكميائية للخلايا التي تكوّن الفرد، وهذه الخصائص تحددها بدورها على نحو متفرد مكونات الجينات التي يحملها كل فرد. وفي النهاية، فإن كل السلوك البشري محكومٌ بسلسلةٍ من العوامل المحددة تجري من الجينات إلى الفرد حتى مجموع تصرفات كل الأفراد. فالحتميون يرَوْن إذًا أن الطبيعة البشرية التي تزعم هذه الأيدولوجيا أن لها ميزة التوصل إلى خصائصها الأساسية من اللامساواة والتنافس، وإلا فإن المجتمع الصالح هو مجرد يوتوبيا لا يمكن التوصل إليها؛ لأن الطبيعة البشرية تتناقض تناقضًا لا مبرد منه مع الفكرة التعسفية القائلة أن الخير هو مما يتوصل له دون الرجوع إلى حقائق الطبيعة الفيزيائية. وهنا كلام يطول شرحه في قدرة النظرية على التنبؤ أم لا. ولهذا موضع آخر في الأبستمولوجي بعيدٌ نسبيًا عن موضوعنا الأساس.

5. هل يتمتع كل العلماء بالنزاهة العلمية؟ (عن دور الشهرة في البحث العلمي)

يقول العالم (جون بولكينج هورن) في كتابه ما وراء العلم: “في مجال يتعامل مع الأساسيات ومنفتح للمزيد من الفهم والاكتشاف (كمجال الجسيمات الاولية)، يكون هناك تركيز للموهبة على جبهة ضيقة. ويجذب العديد من الشبان والشابات لمثل هذا المجال أملًا في تحقيق بصمةٍ لهم، والحصول على شهرة عالمية. وبدلًا من أن يخضعوا لتبجيل المحيط العلمي راسخ التقاليد، تراهم يحاولون التمرد على ما يقدم إليهم من حكمة، وينزعون إلى اتجاهات مستحدَثة. وإذا كان هذا النشاط المحمول لأُناس على هذه العبقرية غير متمخض عن فيض من النظريات المقنِعة فما ذلك إلا لأن مثل هذا الفيض لا وجود له أصلًا. إن صياغة النظريات أمرٌ أشق مما يقبل الفلاسفة الاقتناع به.

ورغم كون المصداقية في فهم الحقيقة هي غرض المجهود العلمي، فإنه لا يمكن إنكار أن السعي للشهرة يمثل حافزًا للكثير من العلماء. لقد تعرفتُ على أفراد مرموقين لم تكن الشهرة لهم شيئًا يعبؤون به، ولكنهم في هذا المضمار قليلون.

إن المجتمع العلمي مجتمعٌ منعزلٌ بشكلٍ ما، فحضارتنا لا تهتم بالأخذ بجِد الأمور العلمية، ناظرةً إليها على أنها أمورٌ صعبةُ المنال. وطريقةُ تعامل الصحف ووسائل الإعلام للإنجازات العلمية مشوبةُ بالسطحية والإثارة، وغالبًا النزوات تجري وراء أمورٍ مشكوكٌ في صحتها أو حوادث هامشية تاركة الجسيم من الأحداث. وغالبًا ما لا تحظى الكتب التي تهدف إلى تعريف العامة بالأفكار العلمية خارج المجلات المتخصصة إلا بالقدر الضئيل من الاهتمام إن لم يكن التجاهل. وأسماء الجهابذة من العلماء مجهولةٌ تمامًا للعامة فيما عدا القلة القليلة منهم. فاسم (بول ديراك) مثلًا وهو الذي لا يقل شأنًا عن (نيوتن) أو (جيمس كلارك ماكسويل) قد لا تكون أعماله الرائعة معروفةً حتى للكثير من المشتغلين بالعلوم. والنتيجة أنّ العلماء يتجهون لأقرانهم ابتغاء الشهرة والاعتراف، كمطالب إنسانية لا تثريب عليها. وحينما يكون تركيز الأذهان مُنصبًا على بحث في مجال ضيق، فإن الكل يعلم أن الفائز سوف ينال نصيب الأسد من الشهرة، فهي (تلهث) بصاحب أول ورقة بحثية تنشر، وهنا يجب أن أشير إلى نقطة في غاية الأهمية هي أن الشهرة للعالِم تكون لها عامل كبير في قبول نشر الورقة البحثية. فكما يقول (توماس كون) فيلسوف العلوم الشهير في كتابه “بنية الثورات العلمية” عن موقف لعالم شهير قدم ورقة بحثية له في أحد المجلات المتخصصة مع حصول خطأ صغير في اسمه فتم رفض البحث ومن بعدها حينما تم معرفة أنه كان خطأً في الاسم تم قبول البورقة البحثية مع اعتذار للعالِم.

كذلك أحب أن أذكر موقفًا حصل لآينشتين قاله لي أحد أساتذتي في الفيزياء التخصص في الكوانتم حيث أن آينشتين نفسه أثبت E=mc2 عدد من المرات كل مرة تكون فيها خطأ ما، وكانت تُنشر على العموم. نعود إلى كلام (جون بولكينج هورن) حيث يُكمِل أنه كم تباهى (جيمس واتسن) صراحةً بقصة سبقه وزميله (فرانسيس كريك) لمنافسيهم اكتشاف تركيب الـ “دنا”، ويبين هذا التباهي جو التنافس والإثارة الحقيقي الذي تجري فيه الأبحاث العلمية وهو أمر يقر به العلماء في مجالات علمية عديدة، من الذين لم يساهموا إلا بقدر متواضع من التقدم في مجالهم ولكنهم منفعلون لكونهم لم يكونوا في مقدمة الصف. ومن هنا يكون الجدل الحامي على ادعاء الأسبقية. ويلعب البريد الإلكتروني في (ايمانا) هذه نفس الدور في التسابق على إذاعة أخبار النتائج المتحققة جريًا وراء تحقيق الاسبقية ويؤدي كل هذا إلى نشاط محموم سواء في الإرسال أو في الاستقبال وما يتمخّض من تعجُّل في التقدير وادّعاءات سابقة لأوانها. وعلى أن الخزيَ الناتج عن الادّعاءات التي يثبت بطلانُها يعمل عملًا كابحًا لجماح هذا التصرّع.

6.نصيحة بيتر مداور

ونصل إلى نهاية المقال بنصيحة للعالم (بيتر مداور) الحاصل على جائزة نوبل في وظائف الأعضاء لعل الزملاء ممن يتبنون النظرة الوضعية المنطقية والترويج لها باسم العلم ويصدرونها للعامة، حيث يذكر في كتابه المُمتع “نصيحة إلى عالم مبتدئ”:

“لا شيء يُفقِد الثقة في العالم قدر تصريحه بأن العلم يعلم (أو سيعلم قريبًا) الإجابة عن كل الاسئلة التي تستحق أن تُسأل، وبأن الأسئلة التي لا توجد لها إجابة علمية لا تستحق أن تُسأل وتُعتبر علمًا زائفًا، ولا يسألها إلا الحمقى، ولا يحاول الإجابة عنها إلا السُذّج.”

المصادر:
1. مفهوم المنهج العلمي، د.يمنى طريف الخولي
2. في بحور العلم الجزء الثالث "دفاع عن العلم"، د.أحمد مستجير
3. حادي العقول، د.عمرو شريف
4. ليس في جيناتنا أو علم علم الاحياء والايديولوجيا والطبيعة البشرية ، ستيفن روز وآخرون
5.ما وراء العلم للعالم جون بولكينج هورن
6.بنية الثورات العلمية ، توماس كون
7. عن إثبات آينشتين لمعادلته الشهيرة
8. Advice To A Young Scientist (Alfred P. Sloan Foundation Series) Peter B. Medawar
9. The Last Superstition ، Edward Feser

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: خالد أبو الخير

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا