مَرْثِيَة حُلْم: خريف الانتفاضة المِصريَّة

«الثَّوْرة غيض الأمل وغِنْوة الثُوَّار … الليل إذا خانه لونه ينقلب لنهارٍ»

(عبد الرحمن الأبنودي)

تحلّ بنا الذكريات بما تحمله من دفءٍ، لكنها تجعلنا أشلاء أيضًا. هكذا حال كُلّ ذكرى تأتي لأبرز أحداث مررنا بها في العصر الحديث؛ «ثَّوْرات الربيع العربي»، والتي قد يبدو أنها وُصِفَت على طرازٍ تقليدي معروف، تشبيهًا بفصلِ الربيع، الذي يقع بين البرد والحار، كرمزٍ يُعبِّر عن التجديدِ وإعادة الولادة كتفتُّح الأزهار، فهو الأمل والتفاؤل لولادة جيل جديد يحمل آمال التغيير للأفضل بعد شتاءٍ طويل، قارس البرودة.

«يا فارس الحلم النبيل …. يا حلم جيل من بعد جيل دلوقت.. لاشي مستحيل.. إيَّاك تتوه»

(سيد حجاب)

ولكن إذا جاء الربيع، فلا بُدّ أن تستمر الدورة المناخية في صيرورتها الطبيعية، وعلى نفس الشاكلة، تسير الأحداث في الواقع، وفي حالة الثورة المصرية، سريعًا ما انقضى الربيع دون ثمار ناضجة، إذ يبدو أن التربة لم تُحرَث جيدًا، وبُذرَت دون اقتلاع آفاتها الضارة، فليس بالغريب أن يَزبل المحصول وينقلب الربيع سريعًا إلى خريفٍ.

لكن المفارق هو رهان التوقُّعات الحَالِمَة التي تأسَّست على أحداثِ يناير، ربما وعي الفاعلين لم يكن مهيًّأ لمُسايرَة سرعة وتشابُكات الأحداث، أو ربما تكون حركة يناير محدودة بالسياق التاريخي وآفاق اللاعبين والفاعلين في المشهدِ الكلّي اجتماعيًّا وسياسيًّا.

ولذلك وبالرغم من مرور ما يزيد عن عقْدٍ من تاريخ اندلاع الثورة المصرية، إلا أن الحاجة إلى فهم وتفسير الظواهر التي ساهمت في خلق المشهد المصري ومدى آفاق الحدث موضوعيًّا، ما زالت مُلِحَّةً على الذهنِ العام، لكشف أقرب صورة إلى الواقع، وإلى وجود قراءة تاريخيَّة ونقديَّة تتسم بالرصانة لحدث بمثابة فاصلة، إذ قُسَّم التاريخ السياسي والاجتماعي المُعاصِر إلى ما قبل وما بعد يناير 2011م، على أقل تقدير في الذهن العام الدارج.

فما أراه جديرًا بالنظر النقدي وإعادة التعريف لِمَا حدث في الماضي، أن ينطلق من مجريات الأحداث في مشهدِ الانتفاضة، كونه مسرح تلاقي جميع الاتجاهات والأطراف، والتي تكفي لإلقاء الضوء على العنصرين الرئيسين لكل حدث تاريخي: وهما الظرف الموضوعي والفعل الذاتي.

إعلان

لذا ما سأحاول عرضه هو في ضوء سرد نقدي حول حركة يناير وحُلْم الثَّوْرة المفقود، في ظل تصاعد نبرات الرثاء، التي تتجسَّد في تساؤلاتٍ صريحة كانت أو ضمنية حول فشل الثَّوْرة، والذي يستدعي أن ننتبه في المقامِ الأول نحو الحدث وتحليل موجز لمقدِّماته، وتميُّز بعض جوانبه، من ثَمَّ القياس إلى مآلته، لذا فالنهج ههنا يكون في ألا تكون حصيلة الأحداث بعد عقْد زمني هي المنطلق التقييمي، كما من الحرص على فصل النزوع القيمي عن مسار السرد والذي قد يعتريه بعض النسبيَّة في عَلاقةِ الأخلاق بالمجال السياسي والمرجعيات الفكريَّة، كما يجب أن نُذكِّر أنفسنا، أن الواقع الاجتماعي والسياسي ككل، شديد التركيب والتعقيد بما يكفي، لذا يتطلَّب دائمًا مثابرة في العلمِ والعمل. حينها قد تتجلَّى الصورة في ضوء القراءة المتاحة، والتي قد تكون «تحليلًا متشائمًا، ولكن إرادة متفائلة»، على حدِّ قول الفيلسوف الإيطالي «أنطونيو جرامشي».

ذاكرة الحُلْم:

بلا شَكٍّ، أن الأحداث المهمة تاريخيًّا هي التي تُحدِث قطيعة مع الماضي، كما تُسبِّب ثُقْبًا في نسيج الزمكان الاجتماعي ككل، وحتى وإن لم تُحدِث تغييرًا جذريًّا على مستوى أعمق في البناء الاجتماعي، يكفي أن تقبع معيارًا تأسيسًا في الخيال السياسي والاجتماعي المشترك، لجميع الكُتَل والجبهات غير المتجانسة ومتباينة الأهداف والمصالح، كما تُعَشِّش في المخيل الشعبي.

يبقى الحدث، بما يحمله في الذاكرة البشريَّة منذ خَلْقه الذي لا يخلو من خيوطٍ إبداعيَّة، وما يتضمَّنه من معانٍ تلتحم مع الوجدان المشترك بين البشر الفاعلين لها والمنفعلين على إثرها. فتبقى اللحظات المصيريَّة في حياة الإنسان، رمزًا لشعور العزة بالنفس، ومحلها في الوجود وتعزيز الانتماء اللا مغترب، وتكون ذاكرة الشعوب هي تاريخ الأمة، وهي مصدر الأصالة والمجد، والتي تُسطر في السِيَر الشعبيَّة والفنون الأدبية الرفيعة، وتُرمَّز في أساطيرٍ قوميَّة، مثلما كانت القضية الوطنية أيام فترة المِلكيَّة هي المقاومة الوطنية ضد الاستعمار، وفي الفترة الناصرية في الاستقلال الوطني وقضية الحرب.. إلخ، وكل ذلك من أجل الإنسان والمجتمع، والذي لأجله تأسَّست المدينة أي الدولة.

عُرِّف الإنسان منذ القِدَم بأنه حيوانٌ اجتماعي وسياسي، كما عَرَّف ابن خلدون، أن: «الإنسان مدني بالطبع»، ولا يتوقَّف الاجتماع عند العَيْش المشترك، إذ يجب أن يكون الاجتماع السياسي موضوعه هو فضيلة الأفراد وسعادتهم، كما ذهب أرسطو، أو كما رأى فلاسفة العَقْد الاجتماعي أن الدولة تعمل للصالحِ العام ولحلِ الصِراعَات بين الأفرادِ، وأن الدولة إذا فشلت، فإن احتمال الثَّوْرة يكون قائمًا.

لذا فالقوميَّة هي الإطار الحديث الذي يجمعنا كهُويَّة وقوميَّة مِصريَّة يربطها وحدة جغرافية وتاريخ مشترك. «القوميَّة هي إرادة مشتركة للعَيْش معًا، وهي إمَّا إرادة عامة مكتملة لعموم السُّكَّان، أو إرادة فوقيَّة تُعَبِّر عن توافقاتٍ راسخة ومبادئ مؤسَّسة بين القوى الاجتماعيَّة المُهيْمِنة»(1).

طقس العَوْد الأبَدِيّ:

منذ الذكرى الأولى لأحداث 25 يناير/كانون الثاني، إلى حدّ الذكرى الخامسة، واعتاد طيف واسع من الفاعلين الاجتماعيين من قطاع ما سُميَّ «الثُّوْار» وقوامهم من الشباب الحالِم، الذي حقَّق المعادلة الصعبة في إسْقاط النظام -كما بدا للجميع حينذاك- أن يحلموا مرة أخرى

 بتكرار الحدث، لتصحيح المسار تحت شعار «الثَّوْرة مستمرة»، فكلما مَرَّ الوقت، واتجه الواقع السياسي والاجتماعي إلى مساراتٍ، لا تعكس الأمل المعقود، فكانت كل ذكرى مناسبة تأتي لإحياء أجواء الثَّوْرة ومعها محاولة أمل استلهام حالة الماضي القريب، إذ نَحَو في طقس منطقه الاحتجاج والاحتفاء بالمد الثوري.

لكن بالطبع، الأمور لا تسير على طريقة مؤشِّر اللقطة «كلاكيت»، حتى إذ تصوَّرنا أنه كان هناك فرص سانحة وممكنة في الماضي، لتجنُّب تلك النتائج المُخيِّبَة للآمال -التغييرية- لو أن أحد الفاعلين اختار مسار مختلف. فتلك الرؤيَّة في استعادة الأحداث، تُغلِّب التمَّني الذاتي على الشرط الموضوعي، حيث إن تجاهل التباين الطبيعي بين الفاعليين الاجتماعيين وما يتقاطع على أساس المصلحة والرؤيَّة واختلاف الأهداف، لا سيَّما تناقض النزعات الآيديولوجيَّة. أما ما يعنينا هو تحليل ورصد الواقع كما هو، كما نبَّه «نيكولو ميكافيلي» في «الأمير»: «من يهمل ما هو كائن لأجل ما ينبغي أن يكون يجلب على نفسه الخراب العاجل»، لذا سننزل عن حُلْم الثَّوْرة، لواقع الثَّوْرة، لنتمكَّن من استنتاج حدود المشهد والممكنات بالنسبة لِمَا تحمله مقدِّمات وأبعاد بعينها، ترتبط بالبِنْيَة والسياق التاريخي والظرف الإقليمي والدولي، وإستراتيجيات وأدبيات الفاعليين، لذا سيؤول الماضي دائمًا كما هو، إذ «يبدو كل شيء حتميًّا، بقدر ما يبدو كل شيء ممكنًا» (2)، أي إن رجعنا لنفس الحدث مرارًا وتكرارًا، سيكون كأنه «عَوْدٌ أبَدي».

أما من بعد الذكرى الخامسة إلى الآن، أصبح تاريخ الانتفاضة المِصريَّة منزوع الطابع الاحتفالي والاحتجاجي، بعدما كان مصدر إلهام الحُلْم، كأنه أضحى مثل حفل تأبيّن. بقي حُلْم يناير نوستالجيا، عند قطاعٍ واسعٍ من جيل الفاعلين القُدَامى، يُحيى بصمتٍ بين الفخرِ والبكاء على الأطلال، يضمره حس من المظلومية والارجاء وبصيص أمل الأقدار، هذا الإحْياء يأخذ سمة ارتكاسية، تمكَّنت فيها روح الهزيمة والإحْباط من جيل الأمل والحُلْم.

في جينالوجيا الثَّوْرة:

بَيْد أنه يُمكننا قراءة ما حدث من داخل كل اتجاه فاعل ومُكوِّن للحدث، على حسب موقعه في المعادلة السياسيَّة والاجتماعيَّة، وميزان القوى وفاعلية اللاعبين، حيث إن احتدام المشهد أبرز التخوم الكامن على السطح، فقد كان الوضع قبل يناير يشير إلى «مجتمعٍ منهكٍ ذي دولة ضعيفة فاقدة للعافية والفاعليَّة»(3)، وكانت مكونات المعادلة كالآتي:

البيروقراطيَّة التقليديَّة:

يبدأ الحديث مع هيكل الدولة المؤسَّسي، بحيث اعتبار أن «الكيانات الاجتماعيَّة أو المؤسَّسات هي دائمًا وأبدًا موضوع رهانات صراع بين الفاعلين الذين يشاركون في هذه المؤسَّسات»، بحسب تعبير «بيار بورديو» (عن الدولة: دروس في الكوليج دو فرانس)، ولأن بِنْيَة الدولة المِصريَّة بإصدارها الحديث، منذ نهج محمد علي في تحديث النُظُم والهياكل المؤسَّسيَّة، حتى إن مِصر «حقَّقت ما يشبه الاستقلال عن الإمبراطوريَّة العثمانية في عهد محمد علي»(4)، وكان معه تأسيس أهم مؤسَّسة وطنية وحديثة؛ «الجيش المِصري»، فههنا نختص بالجناح العسكري في البيروقراطيَّة المِصريَّة، وذلك لأن كما قلت إنه المؤسَّسة الأبرز في التأسيس الوطني، وأن الجيش مَثَّل البِنْيَة الأبرز للدولة، كما يشدد مراقبون أن العسكر في الدول النامية الأكثر قربًا في الحصول على الحداثة، لأنهم أكثر تأهيلًا وتنظيمًا للقيادة وتعلُّمًا وتوجُّهًا بالتكنولوجيا(5)، فكان من أبجديات موقع أجهزة الدولة في المشهد السياسي أن تساهم في التحامها بالواقع المِصري، سواء عن خلفية أبناء الجيش الطبقية أو ارتباطها بدعاوي الإصلاح التي تشغل الحيز العام، بل وتصدرها، مثل انتفاضة الضُبَّاط 1881م بقيادة أحمد عرابي لإقامة حكومة دستورية، أو حركة الضُبَّاط الأحرار 1952م بقيادة جمال عبد الناصر، وتأسيس الجمهورية، لذا يكون من الواضح موقع البيروقراطية العسكرية المحوري من التماس مع موقع السُّلْطة وتركيبها الفاعل في دور الميزان داخل التأسيس البِنْيَوي.

وأما الدولة وما تمتلكه من أجهزةٍ قمعيَّة وأجهزة أيديولوجيَّة -بتعبير لويس ألتوسير- ما يُميِّزها هو، كما وصف ليون تروتسكي: «أن كل دولة تقوم على العنف»، وذاك الوصف الذي استقاه «ماكس فيبر» في اعتبار الدولة تتميز بمشروعية احتكار العنف الطبيعي، وهو وسيلة نوعية(6)، لذا فكما قيل إن قوة الدولة كلها تأتي من مأسورة البندقية. يُعبِّر عن فاعلية وحساسية البيروقراطيَّة العسكرية في الحسم، بالإضافة إلى أن الجيش وطني وذو خِطاب قومي، ولما اعتبر أن السياسية هي السعي من أجل المشاركة في السُّلْطة، أي مصالح توزيع السُّلْطة ومصالح الإبقاء عليها.

 بَيْد أن منذ اعتِلاء البيروقراطيَّة العسكريَّة تقاليد الأمور مع حركة الضُبَّاط الأحرار 1952م، وقد رسَّخت البيروقراطيَّة العسكريَّة أقدامها كقاعدة اللعبة السياسية، وزعامة سياسية إقليمية ودور دولي ينزع للاستقلال السياسي، وتصعيد نخب تكنوقراط وانتجلينسيا، وقبض اليد على السوق الاقتصادي بالتمصير والتحالُف مع قطاعات برجوازيَّة، وكان غلق المناخ السياسي، «وِفقًا للتوافق الناصري على احتكار السياسة مقابل توزيع المنافع»(7)، ونسجت البيروقراطيَّة عَلاقات مباشرة مع رأس المال التي تربطه شبكات زبونية من مصالح ومحسوبية بالدولة من عطاءات ومُناقصات وتراخيص(8).

ومع توسُّع النشاط الاقتصادي للمؤسَّسة العسكريَّة مع عصر انفتاح السادات إلى مبارك (ما قبل مشروع التوريث)، تزعَّمت البيروقراطيَّة التقليديَّة شتى الاتجاهات، وعند بعض المحلِّلين، دولة مبارك تقوم على الموالاة والزبائنيَّة: «ترتبط بموالين لها عن طريق عَلاقة زبائنيَّة، تتشكَّل في شبكات محسوبية في نطاق ترتيبات ريعية، تأتي نخبها من خلفياتٍ اجتماعيَّة منوعة»(9)، ومع التحكُّم الأمني داخليًا، تبلورت مفاهيم الدولة حول بزوغ خِطاب «الأمنوقراطيَّة»، أي سيادة العقلية الأمنية الحديثة، وأما ما جعل البيروقراطيَّة التقليديَّة في تَمَلْمُل، قد تزامن مع التصدُّع في مشروع السُّلْطة في العَقْد الأخير، ومحوره مشروع التوريث، مبارك الابن؛ «جمال مبارك»، مع شعار الإصلاح الذي أتى لتعميق الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي، مع الضغوطات الخارجية، ولما لم يلتقِ المشروع الجديد مع الطموح السائد للبيروقراطيَّة التقليديَّة، بل نحا اتجاه قطاع من البورجوازيَّة الجديدة، والتي وضعت قدم في اللُّعْبَة السياسيَّة ومواقع النفوذ، بالإضافة لفتح المجال السياسي نسبيًا عن ذي قبل؛ إذ «يُعلِّمنا التاريخ أن النُظُم الاستبداديَّة لا تفتح مجالًا للتنفيس والتعبير الحُرّ إلا في حالة وجود تَشَقُّقات داخل كُتلتها الحاكمة (…..) فتَمَّ السماح بهامش من الحُريَّة الحركيَّة لمجموعاتٍ سياسيَّة جديدة»(10)، ورصد موقف عدم الرضا عن مشروع التوريث من العديد من المراقبين والمحللين، فتغيُّر التحالُفات يصحبه تصدُّع في العَلاقات والمصالح -بطبيعة الحال كما يُعَد الأمر فَقْد امتياز موقع السُّلْطة التي تنتمي للزي العسكري- لذلك، وكما أشار «نزيه الأيوبي»، إلى أن المؤسَّسة العسكريَّة لها دور في العملية السياسية خلف الكواليس. حتى كان المَثل السائر في مِصر أن الجَيْش لا يحتاج للاستيلاء على السُّلْطة، لأنه يجلس بالفعل على قمتها(11).

وبعدما رُجح انحسار الانقلابات من بعد السبعينيات، مع توسُّع الجُيُوش وارتفاع الإنفاق العسكري، الذي جعل القيام بالانقلاب أشد صعوبة، كما أن الحُكَّام أشد حرصًا، كونهم أيضًا من العسكريين -حتى اغتيال السادات على أيدي أفراد ينتمون مع آيديولوجية الحركة الإسلامية، لكن النظر كونهم من داخل المؤسَّسة العسكريَّة كحركةِ تَمرُّد لها، سيكون التحفُّظ أقرب لفقر الوثائق والدلائل حول طبيعة الاغتيال- ونعود مع تحليل نزيه الأيوبي للمشهد العسكري، أنه إذا قُدِّر لانتفاضةٍ شعبيَّة أن تحدث، فإن هنالك احتمالين غير احتمال تدخُّل الجَيْش لإعادة الأمور للسُّلْطة كما حصل في ١٩٧٧ و١٩٨٦، وهما: أن القيادة العليا قد تتولي السُّلْطة بذريعة استعادة القانون والنظام أو يمكن أن تعقد صفقة بين أطراف من العسكر وأطراف من الحركة الإسلامية(12). هنا نتحدَّث عن أن الأمر الوحيد الذي يضيف الشرعيَّة للتدخُّل العسكري المباشر، لن يكون سوى الظهير الشعبي.

 فإذا بالنسبة إلى البيروقراطيَّة التقليديَّة كفاعلٍ ولاعبٍ رئيسي في المشهد، مرتبط بإدارة الصراع، وبالحفاظ على قواعد اللُّعْبَة التي أسَّست في صالحها «دولة يوليو»، والقُدرَة على التعامل مع أي تغيُّرات مُتوقَّعة في المشهد العام، وفي هذه الحالة، قد نتفق جزئيًا مع التحليل البنائي الذي يفيد أن الدولة التي تكون واضحة الضعف تخلق فراغًا سياسيًا، والذي يجعل القُوى المُعارِضَة تظهر على الساحة بفاعلية تَسْتَغِلّ ذاك الفراغ(13)، وذلك من مُنطلق وضع الاعتبار الكافي لدور البيروقراطيَّة التقليديَّة في توفير الظرف الموضوعي الذي يجعل مشهد الانتفاضة ممكنًّا، سواء من جراء الاستبداد السياسي وفشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وعجز مبارك عن توسيع نطاق ضمه واستيعابه لشرائح وقطاعات ساخطة ومتضرِّرة واسعة، أو مع التصدُّع الداخلي الناتج عن التزاحم للحفاظ على موقع السُّلْطة الهيراركي من خطر هَيْمَنة المشروع السياسي الجديد، إذ إن «الثَّوْرات تندلع لحظة تدهور أو خلخةٍ يشهدها النظام السياسي والاجتماعي».

البرجوازيَّة الجديدة:

دون توغُّل مفصَّل في التحولات التي مَرَّت بها البرجوازية، لكن ما سيهمنا سوى الجانب الذي جعلها فاعلًا مُحفِّزًا على مستوى السيطرة السياسية، ومؤجِّجًا للوضع الاجتماعي، واللذان ساهما في بلورة مشهد الانتفاضة.

بَيْد أنه منذ إعادة كِفَّة السوق بين أيدي البرجوازية مع عصر الانفتاح؛ إذ توسَّعت الطبقة الرأسمالية في نشاط الاستهلاك والاستيراد دون حقل الإنتاج، مع مساندة النظام السياسي لتلك الطبقة، ما دفع البعض إلى وصف النمط السائد «الرأسمالية الطفيلية»، وكانوا «القطط السِمان» -بتعبير هيكل- ومع أن البرجوازية هي طبقة رجعية كما أنها طفيلية وتابعة، إلا ما يُلحَظ من تأثير بعد عصر الستينيات أنها «بدت بمثابة إعادة تشكيل البِنْيَة الاجتماعية على نحوٍ جديد»(14)، ولكن، وبحسب عمرو عدلي، أن هناك تعدُّد روافد للرأسمالية، وأن وصف الطُفيليَّة لا ينطبق على الطبقة في أواخر عصر مبارك، فما كان وقت الانفتاح في أعمال الوساطة والسمسرة والعملة.. إلخ، ليس هو في عائلات فاعلة في السوق مثل: ساويرس، منصور، ودياب، وغبور.. إلخ، حيث إن تلك البرجوازية تمتعت بمراكمة رأسمال، وإنتاج من أجل التبادل وتحقيق الربح المتكرر، سواء كانوا رجالًا لهم وساطة وعَلاقة بنُخَب الدولة أو فاعلين في السوق، ولمَّا سعت البرجوازية لامتلاك النفوذ السياسي ليس فقط للربح والنفوذ، ولكن طلبًا للحماية أيضًا، وبالفعل لم يلعب أعضاء البرجوازية أدوارًا في صنع السياسية والاقتصاد في الثمانينيات والتسعينيات، فكانت الغَلَبَة للبيروقراطيَّة من خلفيةٍ عسكريَّة وأمنيَّة.

وفي العَقد الأخير لمبارك، كان توسُّع مشروع البرجوازية الجديدة، يمكن القول: «أول مرة يشهد مشروعًا متجانسًا إلى حدٍّ كبير، يهدف إلى إعادة تعريف دور الدولة في عَلاقتها بالاقتصاد، بما يخدم مقتضيات التراكم لهذه الطبقة»، فكانوا مشروع اوليجاركية -بها فساد وتضارب مصالح واحتكار أي محاسيب السلطة- لكنهم «بصدد تعديل دور الدولة بما يتناسب معهم»، وبرزت بشكلٍ جلي مع حكومة أحمد نظيف ذات القناعات النيو ليبرالية، وذلك لأول مرة منذ 52.. كان المشروع السياسي منحازًا للبرجوازية، مع تراجع دور الفاعلين البيروقراطية التقليدية. لذا كان الرهان على مشروع جمال مبارك، لأن مساحتهم كانت محصورة قبلًا. «كان الخيار الوحيد المتاح مؤسَّسيًّا هو محاولات التغلغل في النظام من داخله، ومشاركة السُّلْطة مع المكونات البيروقراطية التقليدية»(15)، لكن حَدَث الانتفاضة كان على مسرح تراجيدي لوقف مشروع الأوليغرشية مع سقوط مشروع التوريث.

ولما أنه طبيعيٌ أن تسعى البرجوازية لتعظيم موقعها وأربحها، كان كل ما فعلوه، هو وقود مؤدِ إلى انفجار الوضع، على مستوى فوقي وتحتي، معًا.

حركة الإسلام السياسي:

ههنا أيضًا لسنا بصدد الكلام حول أطياف الحركة الإسلامية، أو تحليل قوام الإسلام السياسي ككل، بل سنقتصر على ملامح عامة حول جماعة الإخوان وصلتها بأحداث يناير.

فمن جانب طبيعة حركة الإخوان المسلمين، وما يذهب إليه البعض باعتبار أن طبيعة الحركات التي تنادي بالرجوع للتراث هي نتاج وأثر لشكل الدولة الحديثة بعد التغيُّرات الكبرى منذ الثورة المزدوجة (الأنوار الفرنسية والصناعية الإنجليزية)، وهيمنة الاستعمار، فإن جماعة الإخوان المسلمين، كرد فعل على الفجوة الحضارية وعلى سقوط الخلافة، كإطارٍ جامع، تكونوا داخل إطار حديث للدولة، ويكون لهم شكل الحركات الحديثة تنظيميًّا؛ فهم، بوصف إريك هوبزباوم، «سيظلون حزبًا سياسيًا حديثًا، له شكل من التنظيم وجذب الجماهير»، وذلك بما يتناسب مع طبيعة الدولة الحديثة وحركات الاحتجاج، فمع الدولة الحديثة في صيغة المواطنة كان المصاحب لامتداد الدولة وأجهزتها، هو صيغة الاحتجاج والحركات الاجتماعية الحديثة، مع شكل المجتمع(16).

ولكن الوظيفة الرئيسية لدى الإخوان، هي كونها جماعة دعويَّة وتربويَّة قبل حضورها السياسي، إذ الأخير هو فرع من عملها ونشاطها، ويؤصِّل ذلك من خلال أهداف الجماعة، كما حددها حسن البنا، هي: تكوين الفرد المسلم، ثُمَّ الأسرة المسلمة، ثُمَّ المجتمع المسلم، ثُمَّ الحكومة المسلمة، ثُمَّ الخلافة الإسلامية، فأستاذية العالم. لذلك ما تعلنه أدبيات الجماعة هي تبني منهجًا شاملًا للحياة، على أساسٍ ديني. إما دولة الإرشاد والدعوة على نهج البنا، إما مفهوم الحاكمية؛ «اللفياثان الإسلامي» في الجناح القطبي الذي يبلور «آيديولوجية الصفوة الإلهية»(17): وهي ادِّعاء وجود آيديولوجية إسلامية منفصلة مستقلة متعالية وعالمية، منسوبة إلى الله مباشرة. هكذا يكون دمج العقيدة بالدولة، فقد كانت حل فقهي لتوسيع المجال السياسي داخل الجماعة، عن طريق كسر حالة الجاهلية بتكوين عُصبة مؤمنة.

ودائمًا ما سار منظرو الإخوان على خطى إعادة تأسيس البنا وقطب في وجوب التعاطي مع الدين بمفهومه الشمولي، فالإخوان ليسوا مجرد جماعة دعوة أو جمعية خيرية أو حزبًا سياسيًّا، بل جماعة شاملة. مثل ما أعاد التأصيل الآيديولوجي والتنظيمي لمبادئ الجماعة، كمبدأ «علانية الدعوة وسرية التنظيم» في الثمانينيات، على يد حسين علي جابر في كتاب «الطريق إلى جماعة المسلمين».

والمفارقة هنا أنه برغم اعتماد الإخوان على أساليب التنظيم المتماهية مع الحركات الحديثة، إلا أنها تحمل نقيض مفهوم الدولة الحديثة، بما تهدف إلى تحقيقه، إذ إن البناء الرمزي والآيديولوجي، يعتبر أن الوضع بكامله في عطب بدون تطبيق صحيح الإسلام الشامل، فمن الطبيعي أن النموذج المثالي لديها كان يتمثَّل في الخلافة الراشدة. مما جعل عَلاقة الجماعة مع نسيج المجتمع المختلف عنها في اغترابٍ جذري، وعلى طرف نقيض من أسس الدولة الحديثة التي قوامها في إذابة الطوائف في قالبٍ وطني واحد.

ومنذ إعادة إحياء الحركة الإسلامية، لا سيما الإخوان المسلمين مع الصحوة الإسلامية، بمباركة دولة السادات، لصالح تقزيم الحركات القومية واليسارية وتهميشها. أعادت الجماعة نهجها الإصلاحي في الانتشار في الجسد الاجتماعي، فمع دولة العلم والإيمان، كانت مساحة انتشار خطاب ونشاطات الجماعة تسير في نهج تصاعدي، ينتشر في الفراغ القاعدي، مع التجريف للحياة السياسية والمدنية.

وما تكشفه لنا يناير، أن تنظيم الإخوان استطاع هندسة هُويَّة خاصة داخل المجتمع ومنفصلة عنه في نفس الآن -لا نبالغ أنه مجتمع داخل مجتمع- فلها إمكانية التوسُّع في فئات وشرائح اجتماعية مختلفة، عبر توافر الخدمات الاجتماعية، وقوة التنظيم وتشبُّع أعضائها وإيمانهم برؤية وأهداف الجماعة.

ومع عصر مبارك، كان مبدأ «علانية الدعوة وسرية التنظيم» ساريًا على أكمل وجه، فالممارسة السياسية تقع بين التأجيل والمساومة، وتظل السياسة هامشية طارئة وقت الانتخابات، وبحسب محمد حبيب (نائب مرشد الإخوان السابق مهدي عاكف) استثمر الإخوان ميزة الانفتاح النسبي في فترة الثمانينيات النقابي واتحاد الطلاب وغيرها من النشاطات الاجتماعية (….) يضيف حبيب: نحن للأسف نقوم بترشيح الشخصيات الجماهيرية والتي لها ثقل دعوي ولا تصل للسياسة(18)، لكن على الرغم أنه مع تحالف مبارك من التسعينيات مع السعودية، قد يسَّر توسُّع السلفية الوهابية، ليشرذم خطاب الإخوان ويجعلهم قوة منافسة للجماعة اجتماعيًا، لا سياسيًا.

من بعد أزمة التجربة الناصرية مع الإخوان، كان هاجس الصدام مع الدولة حاضرًا في الاعتبار، فالأهمية تنطلق من الحفاظ على التنظيم، لأنه وطن أفراد الجماعة، الذي يُمثِّل نموذجًا مصغَّرًا لمجتمع الإسلام. فالتغيير والإصلاح للجماعة يجانب التغيير الجذري الثَّوْري، فلم يكن موافقًا لأدبيات الجماعة أو نزوعها البراجماتي. فكانت حركات الاحتجاج حصرًا على قضايا الأمة الإسلامية، كتحرير الأقصى. أما دائمًا ما كانت مشاركة الجماعة في التحالفات الوطنية بتوجس وشروط البعد عن شعارات صادمة مع النظام، بل امتد الأمر للحديث عن تبادل مفاوضات وصفقات بين النظام والجماعة، فيما يخص الرضا عن تمرير مشروع التوريث.

ومع حدث يناير، لم تشارك الجماعة في الاحتجاجات إلا بعدما تأكدت أن المشهد مناسب للمخاطرة، فمن غير المنطقي والمتوقَّع أن تتخلَى جماعة الإخوان كأكبر جماعة سياسية وذات التنظيم الراسخ الوحيد على الساحة، عن أدبيتها ومنهجها الإصلاحي، لصالح تيارات شبابية وقوى مدنية، وألا تسعى لتحصيل مكاسب وموقع سياسي، لكن الخروج من الطابع السري إلى العلني، سيُظهِر أزمات في الممارسة السياسية؛ كأزمة شباب الإخوان، والانشقاقات، وأزمة الحزب والجماعة، وأزمة ضعف الخيال السياسي، وخصوبة تربة التنظيم للراديكالية، كما يتجلَّى الهاجس الأكبر وهو طبيعة أهداف الجماعة، لذا يظهر اغتراب الهُويَّة الذي سيكون الطريق إلى عزل الإخوان اجتماعيًّا بعد السقوط السياسي، وذلك عبر الآخرنة، أي نزعهم من المجتمع المِصري، ولكن لم يكن ممكنًا إلا عبر الأداء الآيديولوجي للإخوان، «القابلية للآخرنة»(19).

القوى المدنية (يسارية، قومية، ليبرالية):

كما قلنا مع صعود عصر الصحوة الإسلامية، تراجعت الحركات المدنية، في ظل ترسيخ استبداد البيروقراطية العسكرية، وما بقي سوى نخب ومجموعات قليلة، بلا جذور، وأحزاب هشة، فبرغم التباين بين اتجاهات القوى المدنية سواء يسارية أو قومية أو ليبرالية، إلا أنها انحسرت إلى جبهة وطنية توحِّد خِطاب لا يتصل سوى بالضمير العام أو بالأحرى تحدث نفسها، حتى قيل عن حركة المعارضة المِصريَّة إنها تلعب دورًا في ترسيخ الاستبداد؛ لبعدهم عن مطالب الجماهير وحياتهم، في حين هيمنة خطاب الإسلاميين لاتصالهم بقواعد ووجود مادي واجتماعي واسع. 

وأما ما استدعى تشكيل جبهة وطنية ترفع شعار الديموقراطية، هو تغيُّر المناخ السياسي منذ مطلع الألفية، مع بروز مشروع التوريث/البرجوازية الجديدة، الذي كما أسلفنا فتح المجال السياسي نسبيًا. استغلَّت نخبة الجبهة الوطنية تلك التحولات الأخيرة في نظام مبارك والنيو ليبرالية، مع الضغط الخارجي، فبدأت تختمر الجبهة الوطنية للتغيير «كفاية»، تنادي ضد التوريث وضد الفساد السياسي والاقتصادي.

تكوَّنت الجبهة كما هو معروف من نُخَبٍ مثقفة، لكنها بالطبع مقطوعة الأوصال، فأين يتوجَّه خطاب النخبة؟! فالتماهي مع كتل الإسلاميين يخلق هاجسًا بالخطر على الدولة الوطنية وعلى الأهداف المدنية المأمولة، «كان ذلك الخطاب واعيًا لمأزقه وعزلته الإعلامية، حتى يتصل بالجماهير وفقدانه للانتجلنسيا، وفقدان التكتل المحوري لصالح الإسلاميين»، لذا فمن خلال فهم البِنْيَة النظريَّة الاجتماعية السياسية لدولة يوليو، والتي شرحها محمد حسنين هيكل، أن مع احتقان الجماهير من عدم تمثيل مصالحها من القيادة السياسية، إذ «لا تستطيع الحركة الشعبية الثَّوْريَّة إلا أن تعتمد على الجُيُوش الوطنيَّة في فتح الطريق إلى الثَّوْرة»(20). نجد أفق الخيال السياسي لدى النُخَب بقي محدودًا عند العصيان السياسي وليس المدني، وأن رهانه الأساسي كان على تبني مطالبه من قِبَل الجَيْش، وذلك الإفلاس كان وضعًا قائمًا، لم تجد جبهة القوى المدنية حلًا سوى بتواطئهم كانتجلنسيا، كما حللها عمرو عبد الرحمن:

فبخلاف فكرة العصيان السياسي ثُمَّ المدني، هناك ملمحان أساسيان كتكتيكٍ:

الأول: محاولة إزاحة الطغمة (مبارك) عبر التحالف مع أحد قوى التحالف الحاكم، والذي يتخلله عدم الرضا عن التوريث، والذي يستطيع أن يميل الكفة في المعادلة، وهو الجَيْش الوطني، وأشار إليها كثير من النُخَب، مثل طارق البشري، وعبد الحليم قنديل، وضياء رشوان.

الملمح الآخر: نبذ الصفة الحزبية، عند أي تحرُّك جماهيري، له أن يغطي على تفاوت القوة مع الإسلاميين، وجذب قطاعات أوسع للحشد.

ويشير عمرو أيضًا إلى أن التوترات والتناقضات الناشئة من الخطاب السياسي للجبهة الوطنية، كما ظهرت حينها، ظهرت بعد مبارك أيضًا، وهم:

1- اتساع الفجوة بين المثقف العام الانتلجنسيا الخاصة به وبين انشغالات وهموم شرائح وطبقات عموم الشعب المصري، وقد ظهرت الاحتجاجات الاجتماعية جراء سياسات الإصلاح الجديدة.

2- القلق من آيديولوجيا الإخوان المسلمين.

3- العَلاقة بين نُخَب كفاية (المثقف العام) وشباب كفاية (الانتلجنسيا)، والتي مخضت عن ولادة حركات تحريضية واحتجاجية ك 6 أبريل وشباب من أجل العدالة والحرية.

وظهر رهان الخطاب على القيادة العسكرية، من داخل مسرح انتفاضة يناير، ففي فترة اعتصام التحرير في يناير، «كان هناك ما يشبه الإجماع على حث الجَيْش، ممثَّلا في قيادته الهرمية، لإجبار مبارك على الاستقالة»(21)، وبعد مبارك ساد ارتباك النُخبَة المدنية، وتفجَّرت الثلاثة تناقضات من جديد.

كان الرهان على الجيش؛ «نقطة التوافق الرئيسيَّة بين الثُوَّار والمجلس الأعلى للقوات المسلحة هي إسقاط مشروع التوريث (…) ولم يكن الجَيْش وكيل الثُوَّار، بل شريكًا في صُنع الثَّوْرة» (22)

هكذا لعبت القوى المدنية على الضغط والتفاوض والحراك، ثُمَّ وقعت على هامش الصراع، وفريسة لحالة القمع وغلق المجال السياسي، فيما بعد.

الحركات الاجتماعية:

أكَّد السادات أنه سيسير على خط عبد الناصر، لكن «حتى يمحوه بأسيتكة»، فضحى بمكاسب العمال والفلاحين لصالح الرأسماليين وسياسات السوق المفتوحة، وسار مبارك على نهج السياسات بالتدريج «إصلاح اقتصادي وتكيُّف هيكلي»، ولم تخل الفترات من انتفاضاتٍ كأحداث يناير 1977 واحتجاجات عُماليَّة 1984 و1989 ومع سياسات حكومة نظيف 2004 التي وسعت دائرة الخصخصة ودائرة التوريث لجمال مبارك، ارتفعت الإضرابات والاحتجاجات العُماليَّة منذ تلك الفترة حتى يناير بشكلٍ ملحوظ، وكانت أبرز الانتفاضات العُماليَّة في أبريل 2008 التي قيل عنها «علامة فارقة في التطور السياسي المصري».. تصاعد وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية والإقليمية مثل «ثَّوْرة أهالي دمياط» أكتوبر 2008 ضد بناء مصنع ملوث للبيئة لشركة أجريوم الكيمائية(23)، لكن برغم تواجد كم كبير من الاحتجاج الاجتماعي، إلا أنه لم يكن له تنظيم واتصال، يبلوره في قالب حركة اجتماعية، فالنقابات صورية تحت قبضة الدولة، بيد أن «الحركات الاجتماعية تتطلَّب الحشد والتنظيم، والأنشطة الهادفة، ذات توجه عقلاني نحو أهداف بعينها»(24)، كما أن المصالح الشعبية تأخذ شكلًا ومضمونًا عن طريق الفعل الجمعي، إذ إن الحركات الاجتماعية تتحدى مصالح الآخرين.

 لكن حتى مع وجود مظاهر تشير إلى انتشار الاحتقان الاجتماعي، إلا أن عدم وجود بوتقة وحركة اجتماعية، تترجم ما يظنه الكثير سراب، بسبب صمت الناس، لا يعرف أحد المدى الحقيقي لاتساع نطاق السخط والاستياء، ثُمَّ عندما يكسر حادث كبير هذا الصمت، يتأكَّد كل إنسان من أن نظام الحكم القديم بيت من ورق(25).

وبرغم ما مثلته الضغوط في العصيان والإضراب وقت الانتفاضة، إلا أنها لم تكن كحركة اجتماعية لها موقع ملتحم في الحراك، ومن غير الطبيعي أن تنهض قوى العمال والفلاحين وفئات النسوية وغيره إلى بلورة حركة اجتماعية بعد عقود من التجريف، وأن تجد لها مشروعًا سياسيًا يمثلها، بالفعل قد «كان السخط على نمط التطور الرأسمالي في مصر وعدم عدالة توزيع ثمار النمو الاقتصادي القوي، ولكن مع مستويات مرتفعة أيضًا من الفقر، وكان الخطاب الذي يتم ترويجه بقوة عشية الإطاحة بمبارك، هو ضرورة الحفاظ على نموذجه الاقتصادي، والهجوم على الاحتجاجات العمالية ووصفها بالمطالب الفئوية»(26)، هكذا وفي خضم تطور الأوضاع، تعمق حصارها.

هكذا تكلَّم التاريخ:

«مصر قد انفجرت وخرج ما في بطنها إلى السطح ولن يعود كما كان قبل ذلك اليوم» (27)

ليس من محض الصدفة، أن تندلع أحداث تجبر مراكز الصراع أن تكشف أوراقها، وتطرأ حالات من المواجهة والمداهنة والمناوئة على الساحة، فلا بد من توافر ظروف موضوعية، حيث أن حدث يناير، ارتبط وتأسس على نطاقها وشروطها، كما تحددت المسارات تبعًا لتلك المقدمات الواقعية، وكان الوضع قبل يناير ذو حساسية عالية، مضغوط ومحتقن، تصدعت بعض الروابط والعلاقات على مستويات وأصعدة مختلفة، ومن ثم تراكمت القرائن في الذهن والنفسية الجمعية، لذا فمع شرارة مناسبة تكون كفيلة بالانتشار كالنار في الهشيم، وذلك ما يبدو أنه جرى مع انتفاضة يناير، فمع دعوات شبابية؛ نطاقها يرتكز على الشبكات الافتراضية، وقوامها من حركات المعارضة الوطنية من كفاية وما تلاها من حركات احتجاج شبابية حالمة، ومع أجواء الانتفاضة في تونس، حيث؛ «لم يزد عدد الشبان الذين كانوا يعرفون مكان التظاهر غير المعلن هذا على أربعين شخصا ينتمون إلى أربع حركات» (28) كان لتلك الدعوات أثر الكشف عن المستور طيلة عقود، إذ أخرجوا ما في جوف البلد، وكشفت عن أوجه لم نعهدها سواء عن الدولة أو المجتمع أو أنفسنا، إذ جاءت الثورة ففتحت آفاق كنا نجهل وجودها.

نجد من حيثيات المشهد حينها، أنه قد اتفق جميع المحللين أن أحداث يناير أعادت الروح إلى الشعب المصري -مع التحفظ على مفهوم الشعب الذي بعضويته لا متجانس- بعد سُبات. وكُسر حاجز الخوف الذي ساد منذ تأسيس جمهورية يوليو، أي أن حركة يناير أعلنت الأمل في المستقبل، وطرحت الخوف أرضًا، لكن بطبيعة الحال كان إعلان يناير، انتهاء حالة الدولة الأمنية، طارئ ومؤقت، حيث أن صناعة الخوف تدعم شرعية الاستبداد الذي هو كظاهرة ليس طارئ على المجتمع المصري أو امتداده الإقليمي العربي ككل، الذي تأصل تاريخيًا على استبداد المُلك، إلى نشوء الجمهورية بقيادة الحكم البيروقراطي العسكري، فالنظر إلى تشكلات البنى الاجتماعية والثقافية، نجد أن «الثقافة العربية تعاني من العلاقات الاجتماعية التي تأخذ طابع الاكراه والقهر والتسلط التي تضرب جذورها في العائلة والمدرسة والحياة العامة»، لذا يكون «الحكم الديكتاتوري ينشأ نتيجة عوامل اجتماعية تضرب بجذورها في نسيج البناء الاجتماعي» (29) فالاستبداد هو المتن الذي نفهم لغته، ففي العصر الحديث الذي ننهج أساليب تحاكي الشكليات لنظم الحكم الديموقراطي والذي هو نتاج بنى اجتماعية وسياسية مغايرة عنا، فهنا تبقى الأزمة بدون حل، لأننا ننسخ بدون تأسيس بنيوي وقاعدي ومعرفي، فيكون الشكل استبدادي حداثي، تشكل من توسع الاستعمار وما ورثناه من هياكل وإدارات وقوانين ومؤسسات، بالتالي يعاد انتاج الاستبداد، «إذًا أن تطور الدولة في المنطقة العربية نابع هو نفسه من مفهومها وبنيتها العميقة. فهي دولة بالتعريف مركزية شديدة، يحتاج تسييرها إلى سلطة مطلقة وتعسفية، أي حرة من أي قيد، وهذا شرط تحقيقها للوظيفة التقدمية والتحضيرية التي رسمتها لنفسها.» (30)

لذا كانت إشكالية التغيير في مصر وباقي بلداننا، باقية لأنه يجعل ضرورة التغيير الثوري تمر عبر الميل العسكري، أي بفعل الانقلاب، من ثم البيروقراطية العسكرية كمسار طبيعي في التطور السياسي في العصر الحديث. فكانت دولة مبارك الأمنية، في أخر عقد محل صعود مشروع السياسة الجديدة «لتوريث»، صدرت الدولة واجهات تعددية شكلية، كأنها لتوسيع المجال السياسي، لكن في حقيقة الأمر، استجابة قسرية للضغوط الخارجية، لتعزيز سريان إتمام المشروع الجديد، والتي من المحتمل أنها ذات افادة لتصارع الأجنحة داخل مؤسسات الدولة، وكان لأغلب المراقبين في تلك الفترة، سهولة رصد «مأزق هذه الدولة والانسداد والانحباس الذي تقود إليه على صعيد الصيرورة الاجتماعية الراهنة. وهو الذي يفسر أيضًا استمرار الوضع القائم مع ما يعنيه من تزايد التفسخ والانحطاط.» (31) فالوضع السياسي في ظل ظواهر التخلف والتبعية، تكون فيه اللامبالاة واللافاعلية عن المشاركة السياسية هو الواقع السائد شعبيًا، فليس استبداد الدولة ورضوخ المجتمع سوى أوجه لنفس البناء. فلا أمام المجتمع إلا التشبث بالدولة كأنها سلم النجاة الأخير، مما جعل؛ «المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب» في وصف ابن خلدون في «المقدمة»، أن: العامة على دين الملك، فإنه من بابه، إن الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال. وذلك ما ساد طوال فترة الركود والتجريف المباركي.

وأما فيما يتعلق بالمحور الاقتصادي، فكما قال أرسطو (في السياسة)؛ «اللامساواة دائما هي علة الثورات، حينما لا يعوض عنها أولئك الذين تصيبهم»، نجد أن نمط الهيكل الاقتصادي والاجتماعي في مصر منذ السبعينات إلى يناير؛ «عجز تنموي» (32) أي غلبة مع غلبة الاعتماد على الريع والزيادة في قطاع الخدمات على حساب الهياكل الإنتاجية أدى إلى ضعف الإنتاج السلعي المحلي مع ضعف الارادات الحكومية، فينتج عجز نقدي مزمن ينعكس على أسعار الصرف والاستثمار ومستوى المعيشة، فلم تنعكس مُعدلات النمو العالية -قُبيل حدث يناير- على الحد من الفقر أو رفع مستوى المعيشة. ومع المشروع النيو ليبرالي الشاب الذي تركز في احتكار قلة قليلة على السلطة السياسية والثروة الاجتماعية، على سبيل المثال: في سوق السلع الاستراتيجية مثل الحديد والاسمنت، وفي السلع أسواق الاستيراد مثل السكر والمشروبات واللحوم والشحوم والألبان والألبسة. إلخ (33) مع ارتفاع مستوى الفساد السياسي والمؤسسي بالمؤشرات العالمية. كما ارتفاع نسبة البطالة بشكل ملحوظ، مع التحول الديموغرافي المودي لزيادة الضغط العمراني وضغط الطلب على العمل، وذلك ما يظهر؛ «اتساع مساحة الطبقة الوسطى في المجتمع الذي تجاوز أوضاع الكفاف، مع انسداد آفاق نموها وتحسن أوضاعها في ذات الوقت» (34)

أدى تراجع دور الدولة التحديثي، وتفاوت الأوضاع عن شرائح وطبقات عديدة، إلى تخلخل الضبط الاجتماعي، عبر الأجهزة الأيديولوجية -بالفهم ألتوسير- وضعف مؤسسة الأسرة في ظل الأوضاع المادية، وتفشي القيم الفردية والاستهلاكية في سيادة ترسيخ عقلية السوق، وتحلل دور المدرسة للدروس الخصوصية، ضعف كفاءة المستشفيات ودور الرعاية الصحية، استفحال انفصال الرقابة عن مؤسسة الشرطة فتحولت رمز الخوف والفساد، عدم فاعلية السجن في دور اصلاح الفرد، فأصبح مدجنة الاجرام، وتفشي العنف. وهناك العديد من المظاهر لتراخي الضبط الاجتماعي الذي تقوم به الدولة لفرض الامتثال مع المعايير والقوانين، ومع التنشئة الاجتماعية.

التراكم الكمي يجهز البيئة نحو احتمالات تحول كيفي، فمع المتغيرات الاجتماعية والبنيوية، من تعارض مصالح قطاعات شعبية مع السياسات الاقتصادية، ومع اهتراء دور الدولة في مناحي شتى، بدا أن تواتر السخط بشكل تصاعدي، والذي يحدّ من فزاعة الخوف، بيد «إن الذين يخافون محيطهم لا يفكرون في التغيير مهما كان وضعهم بائسًا» (35)، كما توجد النزعة المحافظة لدى الفقراء والكادحين، الفاقدين للأمل والقوة، فكلما زرع الحراك الثوري الأمل في المستقبل، قلص مساحة الخوف، لكن ذلك لا ينطبق -بشكل ما- على الطبقات الدنيا، والتي تبتعد كثيرًا عن الاتصال بالحركات الاحتجاجية سياسيًا، في ظل غياب وجود الحركات الاجتماعية في مصر. أما فيما يتصل بالطبقة الوسطى التي تمثل قوام الحركات الشبابية الذين يأملون مستقبل أفضل بما ينظرون في تقدم الأمم من حولهم، فمن الممكن أن تأجج حماسها عن طريق؛ «ثورات التوقعات المتصاعدة»، التي ترتبط بمتغير الحرمان النسبي؛ أي هو ما يشعر به البعض من الناس من تفاوت بين ما يرون أنه ينبغي عليهم تحقيقه وما حققوه فعلا. ومن ثم يؤدي ذلك إلى القلق والإحباط من جراء عدم تحقق ما توقعوه، فتكون النفس الاجتماعية لتلك الطبقة مهيأة للثوران، بناءً على نظرية الفرنسي؛ «ألكسي دي توكفيل».

ومن المتغيرات المحورية -علاوة على إحلال وتجديد الحرس القديم بالزمرة الجديدة- في شأن تحديد إطار مسار الأحداث، أو ربما الميزان الحاسم للمعادلة السياسية في مصر، هو التصدع الحادث لموقف قيادة الجيش المصري مع مشروع التوريث، فمهادنة مبارك للجيش لم تكلل سوى بالتأجيل، فبناءً على ما أورده، الصحفي «ياسر رزق»؛

ويحكي أنه في ابريل 2010، قدم اللواء «السيسي» للمشير «طنطاوي»، تقريرًا عن الموقف السياسي الداخلي، والسيناريوهات المتوقعة لذروة الاحداث المنتظرة؛ فبعيدًا عن توقعات السخط الشعبي، وملف التوريث وموقف القوات المسلحة الرافض، أكمل السيسي التداعيات المحتملة، أن مبارك سيعلن في مايو 2011 انتخابات تمكن نجله من اعتلاء الرئاسة، أو تأجيلها لأغسطس حتى يتمكن إجراء تغييرات جوهرية في المناصب العسكرية.

كما يفيد رزق نقلا عن سيد مشعل، أن طنطاوي غضب على إجراءات التخصيص الحكومي، واعلانه رفض الجيش لما يحدث. (36)

ومن المتغيرات النوعية التي تميز الحقبة المعاصرة، ما لعبته الثورة الرقمية في المباغتة، فلقد اقتحمت الوضع كحصان طروادة؛ «هدمت الوسائط الجديدة أسطورة الاحتكار الإعلامي الرسمي، وكسرت قيود المنع والحظر والانتقاء والتلاعب» (37)، أي ظهور اعلام اجتماعي. وتواصل فعال؛ تحول التواصل من رأسي إلى أفقي. حيث «أضحى العالم مفتوحًا لا حدود له»، كان الفضاء الرقمي أداة فاعلة للاحتجاج. بيد أن تأخر أجهزة الدولة والبيروقراطية عن ركاب التقنيات والفضاء الالكتروني، أحدث خلل وظيفي في استيعاب ورصد ومراقبة الأوضاع، وتقدير المشاهد.

وكموقف عام، فالظرف الموضوعي كان واضح للكثير، كما أقر «جليبر الأشقر»؛ أنه قد فطن الكثير من المراقبين إلى اقتراب انفجارات في المنطقة العربية، والتي تَحدُث على شرط التناقض بين تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج القائمة -في مفهوم ماركس- لكن ناقشها بناء على أطروحة «ألتوسير»، وهو أن ذلك التناقض ناتج عن «تحديد تضافري»؛ لأنه يرى لكي يكون التناقض فاعلًا، فلابد من توافر تراكم ظروف وتيارات، فيقرأ مشهد الانتفاضات العربية من خلال تلك النظرة، فالانفجار حددته تضافر في المنطقة العربية، ظروف تاريخية بعينها وتطور سياسات إقليمية وظرف دولي. (38)

وبناء على ذلك، فإن ما يخبرنا به الشرط الموضوعي، أنه هيأ وجود وضع ثوري، لكن مع غياب الشرط الذاتي، أي وجود حركة اجتماعية أو تنظيم ثوري فاعل، على امتداد دولة مبارك، غابت الثورة، وظهرت انتفاضة احتجاجية، مع نشوء شرط ذاتي في حركة احتجاجية آفاقها السياسي موقوف عند الحلم!

ثُوَّار مفرطون في أحلامهم:

      الحُلْم يُحفِّز البشر إلى تحقيق المستحيل، فالحُلْم هنا هو التمسُّك بالأمل في السعي إلى مستقبل عالم أفضل. فمن الطبيعي أن تكون أهدافنا أحلام ممكنة، نأملها، لكن الفارق هو درجة صلة الحُلْم بالواقع، فالحُلْم يبني تصوراته عبر المعطيات والمدخلات التي تُقدَّم له، فهنا الجانب المعرفي للفاعليين التغييرين على درجة عالية من الأهمية. إما يسير في تشكُّل جدلي بين النظرية والواقع، إما أن يُحلِّق كحُلْمٍ متسامٍ عن الواقع في طابع «الرومانسية الثورية».

وعند تناول حدث يناير، نجد أنه تم تضخيم الحُلْم منذ البداية، إلى درجةٍ تقفز على مجريات الواقع، فالانتفاضة التي فارت في أنحاء مصر، تكوَّنت ثورتها في نموذجٍ حالم، بقت مفاهيم الثورة أسيرة أبراجها، فكانت مشطورة في مثنوية بين ثورة الحلم وثورة الواقع، حتى إن ذكرى الحدث يرتبط بلحظة اندلاعها، فإنها -بتعبير محمد نعيم- «تُسمَّى بثورة يناير، أي أنها مؤرَّخة بلحظة اندلاعها وليس بلحظة سقوط حسني مبارك»، فمع انتهاء خطاب 11 فبراير، انبرى عديد من النخب والكتَّاب والصحفيين والإعلاميين والفاعلين في الثناء والاحتفال بالثورة العظيمة والحدث الأهم في تاريخ المنطقة، دون انتباه الوعي الآني بما تؤول إليه الأحداث، أو معرفة بما وراء الإجراءات التي تحدث في الواقع من قِبَل اللاعبين الأخرين، كما أن شعارات ثورة الشعب! باختزال حول مفهوم الشعب، وكأنه كتلة متجانسة، فالخطاب تعميمي عارض مع تموجات الأحداث، لذا تجد مع فورة الأحداث، يصبح «الشعب هو القائد والمعلم»، ومع وقت الركود يكون «شعب يجمعه الطبل وتفرقه العصا».

ذلك يرجعنا إلى تحديد مفهوم الثورة وماهية الفعل الثوري، والهدف الرئيسي للانتفاضة.

غطى التداول الإعلامي والاحتفالي لحدث يناير، على التفسير والتحليل، وعلى ارتياب عدد من المراقبين والباحثين حول دقة وصف انتفاضة يناير بالثورة، لكن هذا الرصد كان وقت زخم الأحداث، أما الآن قد يهمنا أن نفهم ما تعنيه كلمة ثورة يناير، حيث إن مفهوم الثورة، قد تطور مع المجتمعات الحديثة، فلم يكن يعني قبلها حدوث تغيرات جذرية، فكانت قبل الثورة الفرنسية عبارة عن انتفاضات شعبية تلقائية، دون تخطيط، كأنها صدفة تاريخية دون أن تخلق تقليدًا ثوريًا وحركة ثورية، «فالثورة أصبحت تقترن بالوعي الذي يخطط لها ويبرمجها وبظهور الانتلجنسيا المسؤولة عن ذلك»، كما أنها تقترن بالتغيير الجذري من التغيرات الكمية إلى النوعية في نمو وتقدُّم الإنسان، الذيا يجب أن يحل الفكر العقلاني العلمي محل المشاعر والرغبات في موجهة المشاكل. إذن، مفهوم الثورة «يعني تغييرًا جذريًا أساسيًا في صعيدٍ معين، سواء سياسيًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، أي نقل الظاهرة محل الحدث، من نموذجٍ إلى آخر يختلف عنه جذريًا»(39).

أتت كثير من المعالجات والتسويغيات لعديد من السمات التي ما تسمت بها الثورات الحديثة، فمثلًا عُرِفَت الثورات عمومًا بوجود القيادة والتنظيم الثوري، لكن يناير أعلنت أنها ائتلافية تجمع عناصر القوى الوطنية والشبابية، لكن ذلك بحسب ما أفردناه من طبيعة الفاعلين الأساسيين على الساحة وطبيعة البِنْيَة للدولة والمجتمع، يبدو مضللًا ولا يُعبِّر إلا عن إنكار وجود حركة ثورية ومشروع قادر على التصدُّر. ففي الاجتماع المؤقت في 18 يومًا في التحرير، كان محدودًا عند عائلة مبارك ونخبته ومطالبات إصلاحية فضفاضة، فكانت «كثير من المطالب الحركية لثورة يناير كانت بالأساس تتعلق بمسائل إجرائية أكثر منها جوهرية»(40)، فالمشهد تأسَّس على اختزالية المشاكل في فرد أو رأس الحكم، بالضرورة!   -كما قلنا إن الوضع السياسي والاجتماعي أشد تعقيدًا من ذلك التبسيط- فالدولة الحديثة غير مجسَّدة، بمعنى لا نستطيع أن نقول مبارك هو الدولة، كما قال لويس الرابع عشر «أنا الدولة».

ثَّوْرة الحُلْم:

«الحركات الثَّوْريَّة تعتبر، عمومًا، مصنوعات أو منتجات للسياقات السياسيَّة المضطردة تاريخيًا»

(جف جودوين)

خرجت ثَّوْرة الحُلْم مع أجيالٍ لاقت نفسها مع رحيل مبارك، الذي كان بمثابة حدث فاصل، وحُلْم مستحيل. إذ تبلور نموذج ثَّوْرة الحُلْم، مفعمة بالمشاعر والانفعالات نحو الأمل، ونقاء ثوري وشعارات بلا مضمون! وصيغ إصلاحية فضفاضة، ورفع لشعارات غلبت الطابع السياسي عن أي مضمون اجتماعي وثقافي. فكانت ثورة الواقع احتجاجية ضد الظلم والاستبداد، في صورة احتفالية وكرنفالية وخطابات طهرانية متسامية وليست تعبيرًا عن مقتضيات الصراع السياسي والاجتماعي، ولا تطرح رؤى جادة واضحة في المسائل الاقتصادية والاجتماعية، فكما قلنا سابقًا أن النخب مقطوعة الأوصال ولا تُعبِّر عن محتوى اجتماعي صلب. لذا «لم تدّع الثورة المصرية حمل حقيقة جديدة للعالم، ولا نهج يجب أن يُتبع، ولا شكل وتعريف محددين للنصر، ولا تصور واضح عن طبيعة وهيكل الحكم الذي يجب أن يطبَّق على أرض الواقع حتى يتحقق العدل والتقدُّم والحريَّة»(41).

هكذا ظل الشرط الذاتي رهانًا في تبلور حركة اجتماعية أو سياسية تُعبِّر عن تفاعلٍ مع الوضع الثوري، لتحقيق فترة مدّ ثوري، يقود إلى «تحور جذري في العَلاقات الاجتماعية والبُنى السياسية على أساس نمط إنتاج متجدد»(42)، ففي قراءة «سمير أمين»، لتاريخ مصر المعاصر، يعتبره مدّ ثوري طويل ثُمَّ انهيار طويل. فثورة 19 كانت بداية مد ثوري ظل إلى النكسة، وتبعه انهيار طويل، انقطع مع يناير. «كانت الناصرية محصلة لفترة وليست انطلاقًا لمرحلة جديدة»، لذا عُرِفَ أن ما حدث في يناير، ربما يؤدي لمد ثوري يصل لثورة اجتماعية، وأن «ما حدث هو أكثر من مجرد انتفاضة، أو فورة يعود بعدها المجتمع إلى ما كان عليه قبلها، أي أكثر من حركة احتجاج، لكنه أيضًا أقل من ثورة»(43).

أما الثورة في الواقع، أي بمعنى التحول الجذري، سواء تغييرًا إيجابيًا أم سلبيًا، فلم تُحدِث يناير تغييرًا جذريًا على أحد المستويات، سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، مثل حركة الضُبَّاط الأحرار كانقلابٍ ثوري، أو ما سميت «ثورة التصحيح» كانقلابٍ رجعي فيما عُرِفَ بعصر الانفتاح بزعامة السادات. لذا فالثورة لا تقف عند حدود التعبير بل تسعى إلى التغيير، «والحاصل أن تنحية مبارك كانت انقلابًا عسكريًا»(44)، لذا ما أدت إليه انتفاضة يناير بشكلٍ واضح مع البيان الأول للقوات المسلحة -الذي خرج دون عِلم مبارك، في شهادة سامي عنان- يشير إلى: انقلاب محافظ بصيغة إصلاحية.

أو كما ذُكر في مذكرات الفريق سامي عنان، اقتراحه للمشير طنطاوي القيام بإنقلاب ناعم، والذي آلت الضغوط مع مبارك إلى تسويته، والذي قد يوضح لنا حدود التفكير في حل الأزمة الضروري حينها، بضمان أن لا تخرج الأمور عن إطار الدولة العتيقة، كما نعطي اعتبار لموقف السياسة الخارجية الامريكية الايجابي من الأحداث المصرية، والذي قد يكون مثل ضغطًا وحافزًا لموقف قادة المجلس العسكري.

أما انتفاضة يناير الاحتجاجية، في مفهومها كانت ثورة على نمط «الثورات الملونة» في أوروبا الشرقية، وفي السياق الذي تناولناه بين الشرط الموضوعي والذاتي، لم تكن سوى «اعتراضًا ضمن منطق النمط، لا ثورة عليه، ما قيَّد آفاقها منذ البداية»(45)، لذا بقى حلم مشكل لوجدان وآمال أجيالها، فعلى مستوى الحلم في خضم الحراك والأمل، أفرزت زخمًا ثقافيًا بفضل الثورة الرقمية والمعلوماتية، فتح مجال اشتباك ثقافي، لكنه محدود داخل الافتراضي، ومفرغ من المضمون الاجتماعي، فيناير التي وقفت على مطالب سياسية، أسقطت نخبتها العتيدة، مع شعار «الشعب والجيش أيد واحدة»، لكنها لم تؤدِ لتغيُّراتٍ سياسية، سوى إعادة تأسيس للبيروقراطية بثوبٍ أعمق رسوخًا، بعد إسقاط مشروع التوريث، بشقه البرجوازي الذي تم إعادة دمجهم كشركاء صغار، وآل موقعهم تابع كما سبق، وإقصاء مشروع التيارات الطائفية بعد أزمة هددت أركان الدولة، وبين هذا وذاك، حلق حلم يناير بعيدًا عن الواقع، فكانت هزة يناير طرح للتساؤلات، لا حصد الأجوبة.

قيل بحس التهكُّم: «التاريخ يعيد نفسه مرتين: في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة»، فما يرثي الحُلْم، أنه لم يكن به مرة ثالثة!

المصادر والمراجع:

  • تاريخ العصامية والجربعة، محمد نعيم، ص174
  • ثورة يناير.. رؤية نقدية، المقدمة: استراتيجيات الفاعلين ومنطلقات مفاهيمية،  عمرو عبد الرحمن
  • الثورة المصرية، الدوافع والاتجاهات والتحديات، لماذا قامت الثورة، علي ليله
  • عصر الثورة، أريك هوبزباوم، المنظمة العربية للترجمة
  • تضخيم الدولة العربية، نزيه الأيوبي، العلاقات المدنية العسكرية ص٥١٣
  • العلم والسياسة بوصفهما حرفة، ماكس فايبر
  • الاقتصاد السياسي لثورة يناير في مصر، مجدي عبد الهادي
  • ثورة مصر، ج1، عزمي بشارة
  • المصدر السابق، عزمي بشارة
  • تاريخ العصامية والجربعة، محمد نعيم، مركز المحروسة
  • ثورة مصر، ج1، عزمي بشارة
  • تضخيم الدولة العربية، نزيه الأيوبي، العلاقات المدنية العسكرية
  • الدول والحركات الاجتماعية، هانك جونستون: ص:213-214   مفهوم الثورة عند تيدا سكوكبول: تمركز حول الدولة كفاعل أساسي في ولادة الثورات.
  • اقتصاد مصر: التبعية مقياس التخلف، محمد عادل ذكي
  • ثورة يناير.. رؤية نقدية، عمرو عدلي، الرأسمالية، نقد عمرو عدلي مفهوم رأسمالية المحاسيب؛ فك ارتباط أن البرجوازية امتداد لجهاز الدولة، وأنهم مجرد مجموعة ناهبين، فمع حضور ذلك الفساد. لكنها تبقى رأسمالية، وليست منحرفة. كتبرئة للتراكم الرأسمالي. لان ترتيبات علاقة الدولة بالرأسمال يختلف من مكان لأخر، ونزعة الترتيب المثالي للسوق هي نزعة مثالية نيو كلاسيكية.
  • الدول والحركات الاجتماعية، هانك جونستون
  • سيد قطب والأصولية الإسلامية، شريف يونس
  • الإسلاميون في السلطة (تجربة الاخوان المسلمين في نصر)، أحمد زغلول شلاطة
  • ثورة يناير.. رؤية نقدية، لا ثورية ولا إصلاحية.. الأيديولوجية الإخوانية في اختبار الثورة، محمود هدهود.
  • الجيش والمجتمع المصري، أنور عبد الملك، ص 272، نقلا عن: الجيش والسياسة، عزمي بشارة، ص 156
  • ثورة يناير.. رؤية نقدية، عمرو عبد الرحمن، تواطؤ الانتلجنسيا الفعال وحدوده
  • الثورة المصرية، الدوافع والاتجاهات والتحديات، مقدمة: محمود عبد الفضيل
  • (23)  25يناير مباحثات وشهادات، مجموعة من الباحثين.
  • الدول والحركات الاجتماعية، هانك جونستون
  • المصدر السابق، هانك جونستون
  • ملاك مصر (قصة صعود الرأسمالية المصرية)، محمد جاد
  • باب الخروج، عز الدين شكري فشير
  • ثورة مصر، عزمي بشارة
  • الاستبداد في نظم الحكم المعاصرة، اسماعيل نوري، دراسات الوحدة العربية
  • المحنة العربية: الدولة ضد الأمة، برهان غليون
  • المصدر السابق، برهان غليون
  • الاقتصاد السياسي لثورة يناير في مصر، مجدي عبد الهادي
  • رأسمالية المحاسيب، محمود عبد الفضيل، ص84-92
  • الاقتصاد السياسي لثورة يناير في مصر، مجدي عبد الهادي
  • المؤمن الصادق، إريك هوفر
  • ثورة الخماسين، ياسر رزق، كما أورد اهتمام المشير طنطاوي بالسيسي، ومعرفته له منذ توليه وزارة الدفاع، حيث اختاره رئيس لفرع المعلومات والأمن للقوات المسلحة، ثم اختاره وهو برتبة عميد رئيس أركان المنطقة الشمالية، ثم قائد المنطقة، ثم مديرا للمخابرات الحربية. ” وبدا أن طنطاوي يؤهل الجنرال الشاب، في مستقبل قريب قائدًا عامًا للقوات المسلحة، ولعله كان ينظر إليه -كما اتضح فيما بعد- كخليفة له في القيادة”
  • الافتراضي والثورة، جوهر الجموسي
  • الشعب يريد، جليبر الأشقر، ص153
  • الحزب الثوري كظاهرة تاريخية حديثة، نديم البيطار
  • تاريخ العصامية والجربعة، محمد نعيم، مركز المحروسة
  • ثورة يناير.. رؤية نقدية، الثورة الضعيفة، علي الرجال
  • تعريف ألبير سوبول للثورة، ص19، الشعب يريد، جليبر الاشقر
  • ثورة مصر، سمير أمين
  • الشعب يريد، جليبر الأشقر
  • مجدي عبد الهادي، الاقتصاد السياسي لثورة يناير في مصر

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عصام أسامة

تدقيق لغوي: أمل فاخر

الصورة: رسمة ياسين محمد

اترك تعليقا