العودة إلى جذور الثورات العربية: هل حصدت السلطة ما زرعته؟

الشعوب المهدورة: الصفر على الشمال

خرجَ من منزله ليهتفَ كما يهتفون، وقد لا يعي تداعيات واعتبارات الهتافات تحديداً، ولكنه حينَ يصرخ (يسقط النظام) يشعر أن ذاته المهدورة تستفيقُ من صمتها، وأنه لم يعد فقيراً مهدورَ الكرامة والمواطنة والوعي والحياة، بل ثائرٌ غنيُّ الصّوتِ ينتمي لمسقطِ رأسه، وهذا يعني الكثير؛ إنه خروج الإنسان من استلاب السلطة لكيانه، وفي هذا (الصراخ والمطالبة) يُعَيّن نفسه مالكاً لذاته من جديد. وقد يأوّل هذا الطرح بأن الثوّار أداةٌ بيد سلطة أُخرى، مؤامرة، سفارة، وما إلى ذلك. لكن لتكن الأمور في نصابها في هذا المقال، إنه يتناول أولئك من يثورون لاستعادة كيانهم المهدور، أولئك بكافة أديانهم واعتقاداتهم وقومياتهم وأعراقهم وأعمارهم؛ فإن هؤلاء هم شعوبٌ هُدِرَت وقُهِرَت على مرّ السنين، ممّا حوّلهم إلى جحافل منها الواعي ومنها الفوضوي تهتف لتستعيدَ ما سُلِبَ منها، وبذلك، ورغم آلام الثورات العربية والأجزاء التي قد تنطبق عليها حالة الفوضى، لا يُخفى أنها خطوةٌ نحو حالٍ سياسيٍّ أقلَّ هدراً وأكثرَ حفاظاً على ثروتهِ الإنسانية: أي الشعوب الّتي تعيشُ في ظلّه وفوقَ هذه الأرض. 


في العودة إلى جذور الثورات العربية نخصّ في هذا المقال كل من دراستيّ الإنسان المقهور والإنسان المهدور (التخلّف الاجتماعي؛ سيكولوجية الإنسان المقهور، الإنسان المهدور؛ دراسة تحليلية نفسية اجتماعية) للدكتور مصطفى حجازي، خطوة أولية لفهم إشكاليات القهر والهدر في المجتمع العربي، وهذا يتناول القضية على مستوى الفرد ومستوى الجماعة. يأخذ الكتاب طابع الكشف عن المعوّقات الكامنة في المجتمع والمسبّبة لـ (التخلّف الاجتماعي) متجهًا إلى معالجتها والتصدّي لها من خلال إثراء الوعي المناهض حالات القهر والهدر. “1” 

ويتمثّل تعريف (القهر) في التخلّف الاجتماعي في فقدان السيطرة على المصير إزاء قوى الطبيعة واعتِباطها وقوى التسلّط في آن واحد، ولا يخفى عن فئات المجتمع المقهورة تمثيل هذا التعريف لحالة وجودها، حيث إنها تعاني من الانتهازية والسلطوية وفقدان الإقرار بالمصير، فإن الشعوب العربية باتت حالياً في أقصى درجات إدراك ورصد القهر الممنهج من السلطة، وأصبح طابع (التخلّف) وصمةً عالمية ترافق هذه المجتمعات أينما حلّ أفرادها. بينما تعريف (الهدر) فهو أوسع مدى ، بحيث يستوعب القهر كحالة من حالاته المتعددة، فإن الهدر يتفاوت من حيث الشدّة ما بين هدر الدم واستباحة حياة الآخر باعتباره (لا شيء)؛ ونؤكّد هنا أن هذا الاعتبار حرفيٌّ دون مبالغة، فإن الأنظمة الاستبدادية لا تُعطي أي اعتبار لشعوبها. ويشمل مفهوم الهدر الفكر وطاقات الشباب وهدر حقوق المكانة والمواطنة؛ حيث تصبح المواطنة وما ينص عليه الدستور مفهوماً نظرياً لا يُحقَّق في المجتمع والوسط السياسي والحقوقي، ولا يُنقِذ أفراده المنتمين له ولا يصون كرامتهم وإنسانيتهم كما تعهّد في مواده الدستورية. وإن افترضنا أن السلطة قد حقّقته، أو حقّقت جزءاً منه، فإنها تُمنُّ على المواطن بهذا (الواجب) الّذي تُقدِم عليه، وإن هذا بذاته تعبيرٌ عن انتهازيتها تجاه حقوق الفرد.

وإن تعريف الهدر كما قدّمه د.مصطفى حجازي يمثّل فئات المجتمع المهدورة في مواطنتها وفكرها وحياتها وهويتها الإنسانية؛ ومع أن هناك مستويات متفاوتة بين مجتمعٍ وآخر من المجتمعات العربية في تجسيد حالتي القهر والهدر ، ولكنهم يتشاركون فيها من حيث الإقرار العام بوجودهما في بنية هذه المجتمعات المسمّمة بهدر السلطة لثروة الوطن الإنسانية.

 

إعلان

لا يصبح القهر ممكنًا إلّا بعد هدر قيمة الإنسان واستباحة حُرمته وكيانه في عملية الإخضَاع والإتباع“1 صـ 17”.

 يستهل تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 بخلاصة تدلّ على أن الثروة الحقيقية للأمة العربية تكمن في أفرادها -رجالاً ونساء وأطفالاً “2”، ولكننا نتوقّف هنا لنعيّن ونقيّم هذه الثروة، ولنوضّح أنها ثروة مهدورة بهدر قيمة الفرد وإرادته ووعيه السياسي، إذ أن الأفراد في المجتمعات المتخلّفة وتحت حكم سلطة تمارس القمع والهدر هم عبارة عن أرقام دون القيمة؛ وكل فرد يعاني من كونه رقماً مهدوراً (حرفيًا أيضًا) أو شيئاً يُباع ويُستبدل ويُنتَهك ويُمتَلك ويُحرَم من ذاتيته في اتخاذ قراراته واستقلاله في كافة المستويات. وهذا يصحّ أن يُطلق عليه حالة (التشييء  “5’Objectification)، أي رؤية أو معاملة الشخص على أنه شيء فاقد سماته الإنسانية، أي جماد أو حيوان، وهو مصطلح برزَ في خطابات الموجات النسوية واعتُبِر عنصراً محورياً في قضيتها، إذ أن المرأة في مجتمعنا أيضاً تُعاني من التشييء من النظام الأبويّ بصورةٍ خاصة. 

وقد شهد المجتمع العربي حالات واضحة وقمعية من التشييء والهدر الممارَس من السلطة على الثورات الشعبية التي انطلقت –ومازالت- بين عامي 2011-2019، فلم يكن هناك مجال لممارسة الديمقراطية الثورية أمام تهديد الهدر لحريتهم وحياتهم في التعبير الواعي المتفق عليه من فئة من الشعب.  

وفي محاولة تقليص مساحة هذا الهدر لحرية التعبير الممارَس على (فئة شعبية) إلى (فرد من الشعب)؛ أي الانتقال من الهدر العام إلى الهدر الخاص أو النوعي؛ شهدت المجتمعات العربية حالات واضحة وقمعية برزت في المعتقلات السياسية الموظّفة لصالح تسلّط السلطة والتشييء الممارس على كل سمة إنسانية يمتلكها الفرد؛ فإن السلطة لا تعامل شعوبها – سواء في الحالات الجمعية أو الفردية- على أنها ثروة، ولا على أنها ثورة، بل أرقام وأشياء مهدورة، ويبرز هذا الهدر بأوج أشكاله عند تهديد السلطة من خلال الهتافات الشعبية المعارضة لها، فإن أكثر ما يهزّ عرش الديكتاتورية هو صرخة تدعو لإحياء السمات الإنسانية التي تطالب بتحقيق إنسانيتها، وإن اهتزاز هذا العرش لا يقتصر على تهديد وجودها في السلطة، بل يهدّد مشاريعها الاقتصادية كونها تتخذ من الوطن مشروعاً تجارياً خاصاً بأفرادِه وخيراتِه وموارده. 

وأقرّ تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002 أن أقل من 10% من سكان البلدان العربية يمكن تصنيفهم في فئة الرفاه الإنساني المتوسّط (الذي يأخذ بالحسبان مختلف أنماط الحياة الأساسية والمؤسسات التي تحميها). بينما يقع 90% من سكان البلدان العربية دون حد الرفاه بمعنى احترام إنسانية الإنسان وحرياته الأساسية “3”، وهذا يقرّ كمية الهدر لكرامة وحرية وإنسانية الفرد، وبالتالي الجماعة -الشعوب، في البلدان العربية. 

وحيث أنه في المجتمعات النامية تكمن تقنية نموّها على نحو مستمر من خلال توسيع وتأمين وحماية خيارات الفرد الواعي والمنتمي لوطنه وهويته، وكلّما وُسِّعت ودُعمت هذه الخيارات كلّما ارتفع معدّل النموّ الثقافي والعلمي والفنّي، أي الثروة الإنسانية، وهذه تقنية أثبتت فعاليتها في المجتمعات الأوربية التي دعمت ثروتها الإنسانية. بينما في المجتمعات غير القادرة على النموّ بسبب الهدر العلني الممارَس من السلطة تجاه الثروة الإنسانية؛ أي قيمة وخيارات الفرد المُعامَل معاملة الصِّفر على الشمال، فإنها مجتمعات معطوبة التقنية الإصلاحية ولا يمكن أن تمسّ الازدهار وارتقاء الأوجه الثقافية والعلمية والفنية.

إن ما يحتاجه المجتمع العربي هو ما يسمّى في علم الاجتماع (الأمن الإنساني “1”) الذي يحفظ حقّ أفراده ضد حالات الهدر لقيمته، ويتمثّل هذا الأمن الإنساني -الذي يفترض أن تؤمّنه السلطة تحت رقابة الدستور- في صيانة حرمة هذا الإنسان وتأمينه من الحاجة والخوف والقهر والقمع، وهذا في سبيل تحقيق ساحة عمومية ينطلق منها نحو مشروع تنموي اجتماعي على المستوى العلمي والثقافي والفني والاقتصادي. 

 

الحكم الصالح، هو الحكم الذي يعزّز ويدعَم ويصون رفاه الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقراً وتهميشاً “4”.

 يبرز هنا حراك (الثورة لتحقيق ثروة إنسانية) وهو حراك ينطلق من الطبقة المهدورة بكافة مستوياتها الشعبوية الفقيرة والغنية والثقافية المهمّشة والمجهّلة، والعلمية غير المدعومة جزئيًا أو كليًا، وبالتالي هي ثورة تقف بوجه كل هدر إنساني عن طريق الاحتجاج كتابيًا أو فنيًا أو ثقافيًا (ويجب أن نقدّر هنا أن هتافات الشعب هي فنّ ثوري)، وقد تسوء الأوضاع لتكون ثورة مسلّحة وفوضوية، وبالتوازي مع هذا الانطلاق الثوري يبرُز قمع السلطة والأقطاب السياسية الإقليمية والدينية الحزبية شموليتها قمعًا وتشويهًا لعناصر هذه الثورة كافةً ، هدر كرامة الفرد وإنكاره كمؤثّر في الساحة السياسية الديمقراطية العمومية، وهدر ثقافة المجتمع وطاقات النخبة الحُرّة ، واستبدالها بثقافة مؤطّرة في خانة الولاء للسلطة بشكل ممنهج؛ وهذا عن طريق نظام مؤسساتي مخابراتي قائم لخدمة هذه الوظيفة ، إضافةً إلى هدر حرية التعبير الفنية والإعلامية والأدبية واستبدالها بحُرية ضيقة تعمل على تنفيس قهر الشعب بطرق استعباطية؛ في المجمل تعمل على هدر طاقة أفراد المجتمع وتحويلهم إلى صفر على الشمال. وأخيراً ؛ تصدير أسوأ عناصر الثورة (مع التحفّظ على التعريف هنا) بأنهم يشكّلون ماهية وكيان الثورة كاملةً، وإن لم تنوجد هذه العناصر المتطرّفة بما يكفي تصنعها السلطة بنفسها.

 فيما يخص فوضى الثورات العربية: لا نسعى في هذا المقال إلى التوصيف أو التبرير بقدر ما نسعى إلى تقدير حالة الشعوب المهدورة حينَ تثور ، ووضع الأمور في نصابها ، إذ أنه من الصعب أن يكون هذا الـ (الصفر على الشمال) واعياً إنسانياً وسياسياً بأكمله وبكل فئاته، وليس هذا إلّا ضرباً من الطوباوية تحت ظل هذا الهدر بأقطابِه كافةً، والتسلّط الممنهج على كل حالة واعية ومستقلة، بل إنه من المنطقي، وربما من البديهي، أن يكون هذا الصفر على الشمال يعاني من نتاج التسلّط عليه والهدر لكيانه على مرّ السنين ، أي أن الشعوب المهدورة هم أفراد مقهورين ومهمّشين يثورون ليحظوا بحقّهم في المواطنة.

ومن البديهي أن يخرج من هذه الشعوب كل نتاج التجهيل والهدر المزروع سابقًا (تحديدًا المتطرفون دينياً ، وهم الفئة الأسوأ في كل الثورات، كما أنهم الشمّاعة، أو الأداة، التي تصبغ السلطة كل الثورة بلونهم ليسهل عليها تشويهها). ويصحّ القول أن فوضى الثورات بالجزء الأكبر منها هي نتاج قهرٍ وتجهيل ممنهج شبّعته السلطة ذاتها في شعوبها. فإن أردنا اقتلاع جذور فوضى الثورات (كونها جزء مهم من الإشكالية) علينا الإمساك بالجذور الصحيحة، وهي هيكل الشمولية الّتي تعمل على هدر إنسانية وثقافة الفرد ووعيه السياسي والثوري.

وننهي هذا المقال بسؤال يعيدنا إلى الجذور: من ماذا يمكن أن تتشكّل ثورات شعبية خرجت من بيئة التجهيل والقهر؟ على من تقع مسؤولية توعية الشعوب وحلّ العصبيات المتطرفة؟ ألا تقع هذه المسؤولية على مؤسسات السلطة بفرعيها الثقافي والتربوي لتُنتج شعوبًا ثوريةً إصلاحية حقيقية تكوّن ثروة إنسانية لوطنها بدلاً من شعوب مهدورة ومقهورة تكوّن فوضى عارمة حتى على نفسها ووطنها؟

 

يقول د.مصطفى حجازي في كتابه (التخلف الإجتماعي؛ مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور) “6”:

الإنسان المقهور الذي حمل السلاح دون ثقافة سياسية كافية توجه وضعه الجدید، قد يقلب الأدوار في تعامله مع الجمهور أو مع من هم في إمرته فيتصرف بذهنية المتسلط القديم(أي الذي ثار عليه من الأساس). يبطش، يتعالی، يتعسف، يزدري، يستغل قوته الجديدة للتسلط والاستغلال المادي والتحكم بالآخرين. أو هو يمارس العمل المسلح بذهنية عشائرية، يتمسك بالانتماء العشائري والإقليمي في الآخرین جمهورا ومسلحين،مما يوقعه في تحيزات تشكل عقبة فعلية في وجه التحرر الحقيقي.

وفي خاتمة المقال، نشير إلى عدم تعميم سمة الفوضى (ليُترك هذا التعميم للسلطة الاستبدادية وحدها) أو حمل مسؤولية فهم اقتصر مصطلح (ثورة) على شعب محدد أو دولة محددة أو فئة محددة؛ فمن البديهي أيضًا أن كل الثورات أنتجت من المثقفين وأصحاب الوعي الوطني السياسي ، كما أنتجت من المتطرفين والفوضويّين، وهذا بنسب مختلفة؛ إذًا، المقال يتوجّه للمفهوم العام ، وبعض فقراته لا تطبّق إلّا على فئة تمثل هذه الفقرة -إن وجدت- كما أننا نشير إلى وجوب إعادة التفكير بجذور كل حراك سلبي، متطرف، فوضوي برزَ في الربيع العربي، وهذا ليس لغاية التبرير، بل لمعرفة ما سببه؟ وما تداعياته؟ ولِمَ لم يُصلح من قبل؟ وكيف استخدم كأداة ضد الثورة نفسها؟ وهنا قد يشرَع عقلنا لكمين المنهجة الذي تنفذه السلطات الاستبدادية، وها هي تحصده في الربيع العربي، وإن ما وصف سابقًا بـ (الفوضى) ليس إلّا جزءاً من هذه الثورات (الجزء الذي وظّفته السلطة في خدمتها) مع الحفاظ على ازدهار وحقّ حرية وأهمية كل الأجزاء الأُخرى.

اقرأ أيضًا: لماذا خرج اليسار من الثورات العربية أكثر ضعفًا؟

المراجع: 

"1" د.حجازي، مصطفى. الإنسان المهدور؛ دراسة تحليلية نفسية اجتماعية (2005)، لبنان-بيروت: المركز الثقافي العربي.

"2" تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2002، المكتب الإقليمي للدول العربية. صـ 1

"3" المصدر نفسه صـ 108

"4" المصدر نفسه صـ 101

https://plato.stanford.edu/entries/feminism-objectification/ "5"

"6" د.حجازي، مصطفى. التخلف الاجتماعي؛ مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور (1981). لبنان-بيروت: معهد الإنماء العربي.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مجد حرب

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

اترك تعليقا