قصة قصيرة: السِلعوّة

تدافع وجري، وتنهدات ملتهبة..
“هَيّا”..
أصواتٍ وحركات متفرقة، خلقت أجواء من الهَرْج والمَرْج! في الشارع المؤدي مباشرة نحو باب خشبي كبير، له درفتين واسعتين، ودرفة ضيقة، وكانت الأخيرة هي منفذ العبور.
تُصيح حنجرة أحدهم، زعقًا: “أسرع”…
جاءت إجابة متذبذبة ومقتضبة مع صوت مبحوح بالخوف:
 ادخُل أنتَ أول..
ردّه في غضب: أخلص يا براء، يلا ادخل الحوش بسرعة قبل ما الباب يتقفل.
“إنّها أجواء معتادة من فوضى ما قبل النظام”، ثمَّ صدر صوتٍ مرتعش أخر.

حقًا، حان يوم الحساب، إذن!

تَسمَّرَ الفتى فجأةً في مكانه، مُرتعد الأعصاب، مُقشعِرَّ البدن، تَلتهم الأحشاء بعضها من شدة الاضطراب، ومِنْ هول ودويّ أعاصير القلق التي عصفت بأركان كيانه، عندما وصلّ إلى عتبة مدخلٌ المنزل حيثُ موعِد حصة درس الثلاثاء؛ الموعود فيه باختبار حفظ الكلمات، هذا اليوم المشؤوم من الأسبوع، الذي تمنى لو تُلغيه الحكومة أو لو أن الله لم يخلقه من الأصل، أو أن يَبْتلِعُه ثقبُ زمني، فما الفرق إنْ صَحينا وأيام الأسبوع ستةٌ!

وبالرغم أنه قبل الدرس بنحوِ ساعتين، ظلّ خلالهم الفتى منهمكًا في الحفظ والمراجعة، وهو ينتابه لبخة العجلة مع الزمن وهواجس الريبة مع الذاكرة، والتي أسقطت أخر غصون الثقة المتهافتةُ، حتى أنه نَزل مُسرعًا دون أن ينتبه إلى عائلتهُ الذين همّوا في تناول وجبة الغداء، برغم جَلْجَلَة نداء أمه، كي ينضم إليهم -سريعًا- على المائدة، كعادته في التأخر عليهم، برغم أن اجتماعهم لا يتم إلّا عند عودة أباه من العمل.

سارَ بتريُث محاولًا استجماع ما تبقى منهُ ليُشِدّ مِن أزر حاله أمام المصير المحتوم.

إعلان

كان الطريق إلى بيت المدرس، يمر عبر أرصفة ورش ودكاكين صغيرة لصناعة الأحذية متكدسة ومُتَرَاصَّةٍ  في زَنَقة الحارة، مرورًا بحقل زراعي، ثمَّ مشى مسرع الخطى في لِحْفِ الأرض، مع تصاعد رَذاذُ الغبار من وراءه حتى كادت تنزلق احدى قدميه على حشائش الأطراف، فهو في درب محاط بخَضَار زرع البرسيم النضر تحت أشعة الشمس الدافئة، مع هديل الطير وحفيف الأجنحة، نظر الفتى فوقِه، غير آبِه لسرب الحمام المحلق، بل امتد بصره؛ عبر خيوط أدخنة السُحب صوب قبة السماء فاتحة الزرقة التي طالما أبهرته اتساعها اللامحدود وآنَسَ التسامي الذي يجعله في دهشة وإجلال إلى شعوره بالتجلي الإلهي.

 دائمًا ما تساوره نفسه في مثل تلك اللحظات، كلما طالع بها السماء الواسعة..

يا للانبهار، الله كبير، بل واسع العظمة.

يُصاب عقل الفتى بالبلاهة والعجز عن التفكير في أي تصور للحدود، إنه كانتباه مذهل “وتصور عصيّ على الفهم”، كان يشعر أن الله أعظم ما يمكن تصوره. وأن كل هذه السماء الشاسعة والكون الذي حدثوه عنه في المدرسة، لضئيل جدًا إلى جانب شعوره عن الله.

ثمَّ ما لبثَّ أن انبرى في سره يدعو ويتذلّل متلهفًا إلى الله، حتى يساعده اليوم ويلتمس رعاية ومعيّة الرحيم. همس بصوته المختلج، كأنه يريد أن يسمع صوته؛ الله كبير، يا رب.

«البراء»، غلام في سن الخامسة عشر، ذو ملامح هادئة، نحيف الجسد، بشرته بيضاء في معظم الحالات، ما لم يتعرض لأي مثير، سواء مرّ به خجل أو غضب تأتي الاستجابة الفورية فاضحة سريرته فتحمر وجنتاه دون انذار إشارة المرور الصفراء، وله حاجبان متباعدان، وشعر بني غامق ومجعد الأطراف، وعينان واسعتان خضرتان، وقد منحتها صبغتها القزحيّة التي تُحير الناظرين عن تحديد اللون الصحيح، رمادية، خضراء أم زرقاء، فكانت تبدو كثقب أسود تحاوطه مجرة حلزونية ساحرة، تتنوع روعتهما مع اتساع وانقباض بؤبؤ العين، حيث وهبته عيناه وسامة ساحرة، وعنصر اختلف بِهما عن جميع أبناء القرية ذووَ البشرة القمحية والأعين السوداء.

وقف البراء ممسكًا كراسته في يده اليسرى، لا يستطيع احتمال المزيد من لهيب الانتظار تحت سقف ذاك الممر الطويل المرعب، كأن الوقت يلفظ أنفاسه الأخيرة، أحس البراء؛ أنه داخل مشهد في فِيلم عن أجواء نهاية العالم، أو أصبح يعيش في سردية كالقصص التي تواتر قصها، عنما بعد الموت، واليوم المشهود!

كان ممر الحوش ضيق تفوح من جدرانه عبق رائحة الخرسانة النفاذة، يصل إليه نور خافت أتي من الحجرة التي ينتهي إليها الممر في الأمام، حيث طابور طويل نسبيًا من طلبة الدروس الخصوصية، بدت له ظلالهم، كأشباه أشباح كلُّ منهم ماسكًا كراسته، يراجعون حفظ الكلمات الانجليزية التي سوف يُختبرون فيها بعد بضع دقائق.

 صمت قاتل تكسره أنفاس ثقيلة الوطأة على جميع الطلاب ما عدا قلة؛ صبي أو اثنين..

تبدو ملامح التلاميذ شاحبة الطلة من تأثير أجواء الفزع، وكأنهم متنكرين في عيد الهلع!

لم يعد الفتى قادرًا على التركيز في الكراسة والكلمات، عيناه مثبتتان نحو الصفحة، لكنهما غير مبصرتان! فقد انتابه شرود كومضة مستقبلية تتأرجح بين الألم والأمل، نسجت مخيلته ضروبًا من الاحتمالات والمسارات التي قد تحدث، يُمني بِها النفس، أن تُفلِته من عواقب الامتحان الشفوي، إن أخطأ في ترديد ما حفظته ذاكرته، فقوة الرهبة من شخصية المدرس ومن العقاب المحتمل، تجعل النسيان أقرب من الحفظ!

وفي نفس اللحظة التي خرج من سرديات خياله الاستباقي، باغته وهمّ الرؤية المسبقة، كأنه في إعادة زمنية لما يعايشه، أو أنه عاش في حياة سابقة. نفس الطابور والممر، نفس الرهبة والخوف، لكنه لم يمتلك التركيز والوقت ليتسأل ويندهش حول هذه الحالة التي تأتيه من وقت لأخر. فقد تملك الذعر منه، كأنه مَسُّ من قوى غامضة تَعبثُ بِه، ولا يملك من أمره شيئًا.

على حين غِرَّة، نَزل صوتُ كالبرق؛ جَافٍ وجَهُورِيّ، لكن له

صدى إيقاعي كالنفخ في البوق قبل نشوب المعركة، ينَدَه هاتفًا ومتوعدًا:

«العصا لمن عصى»، رددها المدرس ثلاث مرات، في تتابع تصاعدي متآلف الغلظة، لا يخلو من نغم، ومعه تصاعدت أنفاس الفِتْيَةٌ والفَتَيَاتٌ سويًا، حيث زالت الحساسية الاعتيادية بين الجنسين، كان ذلك الدرس الوحيد للبراء الذي لا يلحظ فيه وجود زميلاته من الجنس الأنثوي، كما اعتاد خياله الجامح والمراهق في غزل نظرات الأعين وأحلام الفتية الباطنية، وكان هو بالأخص؛ يحظى منهن برونق خاص من الانتباه، نظرًا لملامحه الغربية! لكنهن على شاكلته، لم يلتفتن يمينًا أو يسارًا، كتماثيل الزجاج سهلة التهشم. لأن الجميع الآن، لا يميز أحدهم الأخر سوى مشاركة كلُّ منهما حلم العبور السريع من هذه الحصة التي تبدو لهم مثل النفق المعتم.

بدى صوت المُعلِم المفاجئ، مثل دق ناقوس الخطر، عند إعلان البدء في الاختبار، حينذاك وزّعت السكرتيرة ورق الكلمات على الطابور الأول، الذي اعتادت الفتيات أن تتقدمه، فقد كان الخوف من عقاب الضرب أخف وطأة عليهن، مما يواجه من بعدهن الصبيان. ولأنه ليس هنالك مجال لتبادل كلام الصحاب المعتاد، أو التلصص فيما بينهم في الغش، لقد كانت مهابة الأستاذ، وألوان العقاب؛ ذائعة الصيت، تقف حائلًا عن المساحة العفوية، حتى الهمسات؛ تخشى التأديب، فقد كان ذلك المكان هو الوحيد الذي يتمتع بهالةٍ من التبجيل والخشية. لذا كانت فجوة الانفصال بين الطلبة شاسعة، برغم أنهم متراكمين كطابور فرن العيش المزدحم.

بعدما أعاد البراء كتابة ما حفظه على الورقة، تصبب عرقًا فهو لا يعرف إذ كانت جميع اجابته صحيحه أم لا، لكن ما يقلقه هو الاختبار الشفهي، وفي انتظار دوره للتفوه بما يُسأل، والذي إما يؤهله إلى الجلوس لبداية الحصة أو إلى الإحالة لمقعد الانتظار حتى انتهاء جميع الطلاب، لنيل الجزاء بالضرب على الأيدي -على الأقل- أمام الجميع، فكان الأستاذ صاحب الشنب الكثيف والعينان الجاحظتان، معروف بالجبروت في أنواع العقاب، إذ أنه يُبدي ابداعًا منقطع النظير عن ما هو متعارف عليه، في طرق وأدوات العقاب والترهيب، كما لو كان مبتكرًا ومخترعًا، لدرجة أنه كان يبدو عليه الانبساط مع صريخ وعويل الطلبة، لا سيما مع الفتيات وهن يُنهْنهْنَ تعاطفًا مع شدة بكاء الفتيه.

فقد يروق إليه أن يخيرك بين أنواع من العقاب، كما لو كان اقتراع انتخابي! أتُدخِل أصابع يدك داخل درج المكتب أم تُمدّ على الأرجل، أم تختار السِلعوّة! كانت الأخيرة لقب الشهرة على العصا، ذات الشكل الاهليجي، ممتد الثَخَانَة والتي تُذكِّر البراء بالحكايات المخيفة عن حيوان بري هجين، والتي حلت في ثوب صنم من الخشب، يراه في كل شيء أينما حلّ، وظلّ قابعًا في هواجسه، مثل تراهيب الطفولة من تحذيرات وحكايات الجدّة عن “أبو أرجل مسلوخة”.

ظل الولد واقفًا، وهو يعاتب نفسه، على إِذْعانه لرغبة أمه في أخذ ذلك الدرس، عند هذا المدرس الصعب، سيء السمعة لدى الطلاب، لكنه ذو مكانة مرموقة، ومشهود له بالثناء عند أولياء الأمور.

دون أي أحاديث جانبية، عدا تبادل نظرات خاطفة بين الفتية، يملؤها التشوش، لكنها تُغذي بينهم مشاعر السلوان اللحظي، واللحمة في المصير المشترك. حينها، جالّ على بال البراء ذكريات متفرقة، كشذرات الزجاج المتناثرة على طريق في شدة الظهيرة.

انتشله شريط الذكرايات من حالة العتاب والقلق، لتعيد جمع ما تبقى من حطام الزجاج المتهشم، في رحلة قصيرة عبر الزمن الفائت، تذكّر بين طياتها أوقات من الطفولة وأخرى في الصبا، حيث جُمِع له الماضي، في مقتطفات متفرقة من النّجوى -كالمونولوج- تحتوي كل حكاية منهم على تفاصيل كثيرة في العيش داخل أسوار الترهيب والوعيد التي تلقنها جيدًا، وتعلم فيها اتباع الأوامر.

الذكرى الأولى؛ في يوم من أيام نهار رمضان، وقت ما بعد العصرية، اعتاد أن يأتي لهم حمزة ابن عمه أحمد، كي يصعدا لسطح البيت لأنه أكثر ارتفاعًا، ليلعب بطائرته الورقية المزركشة بألوان مثلثية وزعانف ترفرفن وتتطاير كما تتراقص سمكة بديعة الألوان والانسجام في مياه شفافة ونقية، تُذهل كل ناظٍر، بلا رمشٍ.

خاطبه حمزة في أنَفَة لسان:

  • قُلتلك، اجيبلك معايا شوية بوص وخيط على مزاجك. كنّا حنبقا فريق عال سوا ضد العيال دول.

جاوبه البراء في تصنع؛

  • مش على بالي يبقا عندي طيارة، ولو عملنا واحدة، كنت حسيبها فين؟

حمزة متهكمًا:

  • آها، لسه بتخاف بردو وتترعب من أبوك، عيش وروق على نفسك كده!

صمت البراء، كالعادة التي احتل فيها موقع المتفرج على ابن عمه أثناء خوضه غمار ألعاب شتى كرمي البلي الزجاجي أو النحلة الخشبية.

ثمّ بدأ في التجهيز معه، فلقد كان يشارك حمزة سباق التنافس بالطائرة الورقية مع باقي الجيران، برغم أن دوره لا يعدو كونه مساعد أو ربما مشجع متحمس، مع أنها لعبة لا تستهوي البراء لكنها مثلت له أسعد الأوقات، كأنما انعتق من الأسر، كانت روحه تسمو وتحلق مع الطائرة وتعرج بأجنحة الحرية! ومِن حولهما تجري الدواجن طول مساحة السطح، كأنهم غاروا منهما، فانطلقوا في مشاركة الأجواء الرمضانية، برغم أن تلك الدواجن أقرب الكائنات على مائدة الإفطار.

بعدما انتهوا، وراحوا ينزلون بعدما فات أذان المغرب. راح البراء وحمزة يتسارعون في تعويض طاقة المرح والصيام معًا، تذكر البراء لمّا ناولته والدته نصيبه من الفرخة، كان لسان حاله، يُجري حديثًا داخليا، يتسم عادة بنظرٍة الدهشة، عن وضعه وحال العديد من الأمور من حوله، فما الفارق بينه وبين الدواجن التي تربيها أمه فوق سطح المنزل؟

كما يأتي رمضان بالغبطة والبهجة، كان يُذكره أيضًا، ببعض الجوانب السرية والتي كلما جاءته، شعر بالخوف والذنب معًا! دار شريط الذكريات في نفس الشهر لكنه من العام السابق، عندما فطر مع صاحبيه خلسه بعد يوم دراسي متعب، كان أطول نهار يمر عليه، حيث شَعَر وكأن الجميع قد علموا فِعلته وافتضح أمره! ذلك الشعور بالوصم الداخلي كان أشد من أيام الصيام العادية التي تفرج وطأتها مع لهفة سماع الأذان، ظلّ إثمه يطارده لفترة، وكأنه ارتكب جُرمًا شنيعًا. عندما كان يُخفي ما تساوره نفسه من رغبات، كان يتحايل ويكذب حين يفعل شيئًا، لا يرغب أن يعلمه أباه، كأنما اعتقد أن كل الأشياء محظورة، عدا ما يباح له مباشرة من والديه.

في شذرة تالية، تمر على ذاكرته، مقتطفات من المرات الذي كان يشارك فيها أقرانه اللعب في الحواري، أو الذهاب إلى لعب كرة القدم في الشارع الخلفي، كان وقت مسروق من أي مشوار يذهب فيه لقضاء غرض منزلي، بدت له كما لو أنها مغامرة شديدة المخاطر! برغم أن كل ما كان يساوره هي مجرد رغبات بريئة في اللعب واللهو، قليلًا؛ تناسب سِن صبي. حتى عندما اختاره مدرس حصة الألعاب الرياضية لتمارين لعب كرة القدم، كل يوم جمعة.. دائمًا ما غلب الجواب على الرفض، كعقل طفل لم يدرك ما وراء الأسباب التي تجعل والديه يرفضوا رغبته، لقد تلقى العديد من العظات والثرثارات التي ما عليه إلا أن يبدي الانصات والاحترام، حتى وإن كان لا يفقه شيئًا مما يقال!

ما بقي لدى طفل، يكبر عام بعد عام، وهو يشاهد العديد من أبناء جيله، مسموح لهم بالكثير مما هو محروم منه.. لذا لم يبقى له سوى حياة الخلسة، والتي اختلط معها معرفة الصواب من الخطأ.

مثلما أنه لم يعد مسموح له -بحكم العرف والعادة- باللعب مع ابنة خالته، كما كانت العادة في الإجازات السنوية. وازدادت الفجوة اتساعًا عن كل ما هي مؤنث!

وما بقي لديه غير التردد والكبت لعديد من الاختيارات ودفن شغف التحدي الذي تعود وتكيف مع أبوابه المؤصدة، الذي طالما ما أحس بالتراجع أو حيرة القرار، حتى مع الأشياء التي يتمكن من فعلها بشكل جيد وملكات يشعر في قرارة نفسه بامتلاكها، لكن تكونت داخله طبقات من رواسب اختلال الثقة، التي تراكمت ومعها تم اغتيال الموهبة، فبدون التجربة والاقدام لن تنمو المواهب ولا تكتشف! ثقته المهزوزة حفرت ندبة في داخله. ربما تتولى الحياة بنفسها تضميد الجراح.

تعالت الهمسات والضجيج على استحياء، وضحكات مقهقهه في صوت شبه مكتوم، افاق البراء من غيبوبة الماضي على أثر الاستغراب أن أحدًا منهم هادئ وضاحك، فقد اوقف المدرس استكمال الطابور لدقائق لحين عودته.. تقريبًا من دورة المياه.

كان زميلاه الضاحكان، هما؛ صابر ابن عائلة الموازيني من كبار عائلات القرية وأصحاب متاجر استيراد مواد صناعية كما لديهم عدد من ورش تصنيع الأحذية الكبيرة، والأخر هو مراد ابن تاجر وكالة الفاكهة والخضروات. واللذان تمتعا ببرهة من اللمز والغمز دون البقية، لما يعهدانه من محاباة، كون المدرس زبون للوكالة بإكرامية خاصة، كما تربطه معرفة وساطة مصلحة مع عائلة الموازيني.

ولما نظر البراء حوله، وفوجئ أن الفتيات انتهت من التسميع، وما تبقى عدا نصف طابور الذكور. وكلما دنى الوقت منه، تنهَّد كطريد اقترب من السقوط أسفل مخالب مفترسة، قادته الاصابة بالزعر، إلى المزيد من التحسر على الأوقات الضائعة في عطلة الأسبوع التي قضاها بين النوم، وأوقات مختطفة في لعب البلايستيشن.

وبرغم حسده على الفتيات لأنهن في واقع التعامل أخف منهم كصبية، إلا أنه دائمًا ما أحس بنعمة أنه ولد ذكرًا، وكان يتملكه شعور يهون عليه، أنه ليس أسوأ حالًا من أخرين، ومع ذلك في الوقت الذي كان أحدث طفرة صاعدة، آنذاك؛ هي اللعب على الحاسوب والولوج إلى الإنترنت، فقد تمنى أن يصاحب أناس مثل ماجد زميله في الاعدادية، أو حازم ابن عمِه، برغم ما يكنه من مشاعر متضاربة من الحقد والحسد، بما يستشعره من نقص لكلٍا منهما، عندما كانوا يزيغون من حضور المدرسة، صباحًا. ويرتادون مقاهي الكمبيوتر ويدخنون السجائر ويواعدون الفتيات…

ريثما خرج البراء من ردهة الجحيم، فهو كاره للدروس منذ طفولته في أروقة الكتاتيب، بدأ الزعر يتسرب، رويدًا رويدًا من الأوردة، كالجسد الذي يطرد سموم الإدمان، لينتعش القلب بدماء نظيفة. بعدما فارق الولد حجرة الدرس، في طريق عودته إلى المنزل، بينما يسير البراء على مهله، وقد رفعت عنه الأثقال، اشتد الهواء البارد وغيمت السماء بالرمادي، وبالرغم من ملابسه الخفيفة إلا أنه لم يشعر بالبرد القارس، فمازلت رأسه تعجّ بالذكريات المؤلمة، التي أدفئت جسده من كثرة حطبها، لم ينسى الصبي، لحظات الألم التي لم تصب الجسد وحده كما تأِنُّ أنمال يده من الخدر، بل امتدت وألمّت بالنفس.. حين أخبرته الذاكرة عن الألم كصاحب العمر المخلص، الذي صاحبه في شتى تحركاته، في إحدى المرات في إجازة منتصف العام، التي كان يقضيها في تعلم صنعة حرفة النجارة، أرغماه والديه في العمل بها طوال الإجازة، حتى يتعلم المسؤولية والعمل، ويدخر أجرته لمصاريف الدراسة. وفي يوم زاغ من الورشة، وأخبر أمه، أن صاحب العمل مَنحه باقي اليوم راحة، ثم راح يلح عليها لكي يذهب للعب مع بعض الأصحاب، وأخبرها أنه سيعود سريعًا، بينما كانت منشغلة مع جدته بالحديث حول بعض مشاكل العائلات التي لا تنتهي، فالجلوس معهما، يشعره بالضجر، فلما هزت له رأسها وسط انهماكهما بأطراف الحديث، انطلق مهرولًا، كأن أبواب السماء فتحت له، متعجلًا بلهفة الذي يتضور جوعًا لالتهام ما تدفعه إليه غرائزه الدفينة.

انغمس في اللعب، والجري والعدّو بركوب الدراجة الهوائية والحماس الملتهب لدرجة أن داهمه الزمن، ونسى أن له بيت، يتوجب عليه العودة إليه، كانت تلك الأوقات تمثل له مغامرات في دنيا الحرية، والعجيب أنه كان يعوض عالم الممنوعات، إلى عالم المسموحات، حيث يستعيد ابن أدم فيها الفردوس المفقود، لينعم بكل ما يخطر على باله، ذهب البراء مع رفقة متسللين في حدائق أحد المجاورات المطلة على ضفاف النيل المحاطة بالبساتين والأسوار من حولها، كانت محاولات تسلق أشجار الجميز و البامبوزيا، شاقة وخطيرة ولكنها تنعش الروح كالذين فازوا بتحدي تسلق الجليد، وكانت المكافأة نيل حصاد الشقاوة، بأكل كل الثمار المحصودة حتى تلونت  أفواههم بامتزاج اللون الأحمر مع البنفسجي، وقد امتلأت بطونهم كوعاء سلطة الفاكهة من الجوافة والرمان والبلح.. إلخ، لم تكن الخطيئة في أكل الفاكهة المحرمة، بل في رغبة الصعود إلى الجنة، وخلاص الحرية من العقاب، فلما رجع ووجد أباه في انتظاره، ارتجف في مهابة، قال الأب: تأخرت بدون إذني؟ يا ابن الكلب، وقام وضربه بالعصا (خرزانة التأديب).

  •  ابقَ شوف مين حيعطيك مصروف بعد كده

توقفت ذاكرته عن العرض حين وصل إلى عتب المنزل، ولاذّ على الفور بشكل لاشعوري إلى سره الخاص مع الصابونة، لربما تزيح عن يومه العصيب!

مرت أيام الله، واليوم حصة الألعاب، وموعد مباراة هامة في مسابقة المدرسة الثانوية لدورة الكرة، ظل البراء طيلة الليل والنوم يأمل أن يأتي الغد سريعًا، يحلم بالفوز والتألق الفردي وأن يقف الزمن عند تلك الأحاسيس الحماسية الجياشة، التي أنسته ما جرى. وبرغم ما راوده في النوم، حيث يعدوّ هاربًا طيلة الحلم من سلعوة تطارده، وحين لم يعد من مفر أمامه، إلتف وأغمض عيناه بمعصم يده، ولقى من يناديه افق.. “اصحى علشان تلحق المدرسة يا حبيبي”، الأب يغمزه برفق.

استيقظ على وجه أباه، وسريعًا ما قفز من على السرير، بشكل نشيط على خلاف العادة، حيث أشقى لحظات الفراق، حين تنفصل عن السرير، لا سيما في الشتاء، لكن ومع أن الجو كان بارد قليلًا، إلا أن الفتى، أسرع ونزل في الباكورة، حتى أنه سيصل قبل طابور الصباح. ركب البراء سرفيس إلى المدرسة، في حالة صباحية هادئة، وسكون في حضرة إذاعة القرآن الكريم، لم يكسره سوى إيقاع طقطقات سنابك خيول عربات الكارو، خيم على الطريق شبورة كثيفة، غطت الرقعة الزراعية على احدى جانبي الطريق وتخللتها بوادر أشعة الشمس التي تقشع الخضرة الخلابة في رحلتها إلى السطوع، تمنح هذه المناظر البراء، صفاء السريرة، كما يحب أن يتابع طيور أبو الفصاد وأبو قردان المنتشر وسط الحقول. قبل أن تصل العربة، ارتطم السائق بمطب صناعي لم يلاحظه من جراء غيوم الشبورة، وكأنها تسير على سحب في السماء، وكان صوت القارئ العذب يُرتِّل: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ».

في الحصة الثانية قبل موعد الدورة، حين كان منغمس في مسرحه الداخلي، وخزه المدرس، قائلًا: قلنا يا براء

تلعثم متهتهًا:

 ال.. أي… ثم سكت…

أحسَ بشلل في القدرة على التفكير لا سيما التعبير، وكأن اللغة قد تاهت أبجديتها في عشوائية، مهدرة كل نقطة نظام ممكنة.

 لم يمهله المدرس، المزيد من الوقته، راح يوبخه ساخرًا:

بطل بقه أكل فول مدمس على الصبح! “الفول يربي العجول

 حينها أحس البراء بحرارة الدمع على وجنته، ثم ما لبس أن ضُرب بالعصا.

هكذا كانت ذاكرته تمسك مجرفة في عملية مسح وتنقيب في تتبع أثار الماضي، وتتقابل شظايا الذكريات، وتطارده، أينما حلّ وذهب وخاض تجارب جديدة، حتى ومع وجود ذكريات تدفئه من الدخل لكن تعلق معها أشياء تمزقه أشلاء أيضًا، فمن؛ “يحمل الماضي تتعثر خطاه”.

  • مينا: اتنين شاي وقهوة مانو يا عم مصطفى
  • البراء: استنى، طيب نجيب شاورما
  • مينا: لالا… تعالى نجيب فول

رد البراء بشيءٍ من الزهو:

  • اعزمك المرة دي كمان يا صاحبي، عادي
  • مينا: ياض مش كده، دخلنا الصوم الكبير
  • البراء: ماشي خلاص، هات فول وطعمية وحروح أجيب شاورما، نفسي فيها بقالي فترة.
  • مينا: طب قوم نروح يلا نجيب، وفكرني لما نرجع نكلم أحمد عشان يبعتلنا جدول امتحانات الكلية الي شكلنا هنشيل الترم ده.

كلما مرت أيام الله، التي لا تنتظر أحًدا، كلما ذاب الشغف كالجليد وسكنت الأحلام في الكهوف، وبقت وتيرة الأيام محكومة بالنمطية السائدة لمراحل العمر المرسوم مسبقًا، هكذا كانت أوقات البراء، أيام تشبه بعضها البعض، مضجرة لدرجة أن ذروتها في مضاجعة الملل، ففي وقت العصرية تكون بداية يوم جديد، يستهل في المقهى، حيث الثرثارات الشبابية الاعتيادية بين مواضيع تنافسية على ساحة الطاولة، لا تعرف سوى طرفين ولونين، ألعاب الطاولة والضَّوْمَنَةُ والشطرنج، إما فقرات تباهي الذكورة عبر مراهنات صيد البنات أو بالأحرى السقوط في شباك الغواية! أو أضعف الإيمان في الجلوس لمتابعة عروض الأزياء وتبادل أذواق الجسد بين الأرداف والنُهُود، تحت سقف سُحب الدخان المنفوث من شيش التفاح.

مع بداية التحاقه لكلية الحقوق والتي كانت بمثابة منصة التعرف على وجه عالم الكبار، متعريًا من ثوب الطفولة، متوشحًا بعضوية عالم الرجال.

ومع أن كل ما يعرفه عنها هو أنها ستؤهله إلى ممارسة مهنة المحاماة والعيش على الأتعاب، برغم ما يقلقه بشأن حاجتها للفصاحة وسرعة البديهة أمام منصات القضاة، كما أنها لم تكن في حيز الحسبان، لكنها من عمل التنسيق، بما يتناسب مع مجموعه في الثانوية، ولكن سريعًا، برغم شعور الفتور الذي كابده من أول الأيام، إذ بها مهدت ولفتت انتباهه إلى تساؤلات شتى حول المجتمع والعلاقة بين الناس والأخلاق، والتي حفزته لولادة شغف بمتابعة ما يدور من حوله.. وكان لزميلته “هناء” دورًا محوريًا وساحرً على شخصيته، إذ شدت كينونته لمواضيع جادة تخص الحياة والمجتمع والعادات والقوانين والثقافة، وذلك بما تتمتعت به من ثقافة واهتمام ببعض أصناف المعارف والأداب، حيث أن أمُها دكتورة جامعية في الفلسفة ووالدها كاتب صحفي وسيناريست، ففي بادئ الأمر جذبه كلامها من أجل لذة السرور التي تنتابه في حضورها، حتى أنه أحيانًا كان لا يفقه ما تتفوه به، ولكنه ذائبُ في حديثها والذي يتمنى ألا ينقطع، فربما ذلك ما شجع روحه الداخلية في الاهتمام والقراءة حتى يثير إعجابها. فمعها تعرف على عوالم سينما ألفريد هتشكوك وإنجمار برجمان، ومسرح سوفوكليس وشيكسبير، وقصص تشيخوف، وذاق الموسيقى الكلاسيكية، فراق له شوبان وموتسارت، أحدثت هناء بدون علمها؛ ثورة لن ينطفئ مداها بداخله.

 أخبار ودعوات شبابية غاضبة وحالمة، مرت عليه وكأنها نشرات فضائية، لكن مع مشاهدة مقاطع مصورة عن طموح ثائرة، تداعت مشاعر الإحباط المكبوتة، فعززت لهيب الأمل في الالتحام في هدف أسمى، يتوق إلى الانصهار والذوبان أو ربما لتخطي عادة التردد والخوف الذي عاش في حصونه. فأننا نمتص العادة مع الحليب منذ الرضاعة.

راح يخبر هناء عن ما يتوق إليه؛ بينما كانوا يدردشون على البريد الالكتروني:

  • الفارس براء: هناء! في دعوة تظاهر بعد بكره، عندي فضول وحماس أنزل أوي
  • Hana fadl: تنزل فين، انت اتجننت…
  • الفارس براء: انتي بتقولي كده، اومال ايه دايما بنتكلم عن المشاكل الكتير حوالينا، لامتى هنفضل ماشين جنب الحيط!
  • Hana fadl: يبني افهم انا خايفة عليك، مفيش حاجة بتتغير بالاماني، العالم أكبر مننا ومن أي حد. لا مش حقولك تمشي جنب الحيط، ولا تخليك جواه.. بس خليك عقلاني.

وجد نفسه بين جموع تائهة تبحث عن وجهتها، هتافات جياشة تلهب الوجدان وتقشعر البدن، لكنه لم يدرك ما يعتريه، لكن ما عرفه حقًا، أنه لم يكن وحده الذي فقد بصلته، برغم ما لفت نظره عن تفاصيل لم يعتد عليها، كارتداء أحدهم طاقية كاسكيت وشال أحمر، وأخر في يده تميمة غريبة لحشرة الجعران.

 الغرباء كثُر، لمّ شملهم الوطن! ونشد معهم في غناء:

يحكون في بلادنا

يحكون في شجن

عن صاحبي الذي مضى

وعاد في كفن

قاطعه العسكري المجند: ادخل في الكُرْدُونُ

وضربه بالعصا.                                       

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عصام أسامة

تدقيق لغوي: رنا داود

تحرير/تنسيق: هاجر عمر

الصورة: شريف عامر

اترك تعليقا