كولريدچ وشعراء الخمر.. توافق رغم فارق الزمان وبُعد المكان

شعراء العرب والخمر.. صفاء الذهن ووضوح الأفكار في غياب الوعي

عرف العرب الخمر المصنوع من العنب والتمر والشعير منذ نشأتهم وأسموه وفقًا لألوانه ومحتواه الكحولي والبلد التي صُنع فيها، ويُشير مصطلح «شعراء الخمر» إلى مجموعة الشعراء الذين ينغمسون في عالم الكحول، بدءًا بوصفه، مرورًا بحاوياته وأشكالها، وصولًا إلى البلد التي برعت في تصنيعه، وتتكون تجمّعات هؤلاء الشُعراء غالبًا من السكارى والمدمنين، وتكون حافلةً بالأغاني والرقص ليفرض الخمر سُلطانه عليهم من الناحيتين الجسدية والنفسية، ونتيجةً لذلك نجد الشعر العربي حافلًا بالقصائد التي كُتبت في مدح الخمر ومنافعه، علاوةً على ذلك كان يُشير كثير منهم إلى الخمر في كتاباتهم كمدخل إلى السياسة والسعادة والجمال، وكمخرج من سجن المجتمع وظروفه وتقاليده، وكذلك كطريقة للتعامل مع الأزمة الوجودية.

كولريدچ وفلسفته.. أفكار تخترق جدار الحاضر إلى المستقبل

وُلِد «صموئيل تايلور كولريدچ» في ٢١ من أكتوبر عام ١٧٧٢ في «ديڨون» بـ«إنجلترا»، وكان صديقًا للشاعر «وليام وردزورث»، كما يُنسب إليه الفضل في تأسيس حركة الرومانسية الإنجليزية، ومن أشهر قصائده «الملاح العجوز» و«وقبلاي خان»، عانى آلامًا جسدية وعاطفية دفعته إلى استعمال الأفيون ليُصبح مدمنًا، وهو الابن الأصغر المُدلّل لأبيه من عشرة أبناء.

يمتلك «كولريدچ» موهبة نادرة في توحيد القوة الإبداعية مع القدرة على فهمها؛ فعندما يتخيل صورة في ذهنه، يمكنه تتبع المشاعر التي تربطها بصور أخرى، وبذلك يكون قد أدرك قوة اللاوعي وتعقيداته قبل فترة طويلة من ظهور علم النفس. افترض «كولريدچ» أن جميع الأفكار «غير قابلة للتلف»، بحيث يحتوي اللاوعي على «التجربة التراكمية لماضينا كلّه»، وهي رؤية تشبه عن كثب تلك الخاصة بـ«فرويد»، لم ينظر «كولريدچ» إلى اللاوعي ببساطة كوعاء للتخزين، ولكنه أدرك أنه «بئر عميقة» تشارك قوى اللاوعي بنشاط في التعديل وإعادة الترتيب والتشكيل.

قبلاي خان.. رحلة في عالم الأفيون

تدور أحداث قصيدة «قبلاي خان، أو: رؤية في حلم –فُتات» في مكان يُدعى «زانادو»، حيث يُصدر «قبلاي خان» قرارًا ببناء قُبّة أُنس فخمة فوق قصره، يبدأ أولًا بوصف القصر والمشهد حوله حيث يوجد نهر يمتد عبر الأرض وبعد مروره أسفل بعض الكهوف تحت الأرض يتدفق إلى البحر، ثم يتحدث عن الأرض الخصبة حول القصر والجداول التي تمتد بها والأشجار ذات الروائح الجذابة والغابات الخلّابة، ويصف «كولريدچ» القُبّة بأنها مصنوعة من الجليد وتقع في منطقة مُشمسة؛ الأمر الذي يُصوّر التكوين المتناقض لـ«زانادو»، حيث توجد بُقع خضراء مُشمسة تضفي أجواء الرومانسية وسط طبيعة عدائية بها كهوف مُظلمة وأجواء تبعث على العبوس.

ويذكر أنه رأى ذات مرة «فتاة حبشية وكانت تعزف على قانونها»؛ الأمر الذي جعله يُدرك أنه إذا كان بإمكانه إحياء «السمفونية والأغنية» بداخله فإنه سيعيد بناء قُبّة «قبلاي خان» الجليدية بالموسيقى، وتُصبح مُعلَّقة في السماء وكل من يأتي ليراه سيحذر الجميع وينصحهم بإغماض عيونهم خوفًا من «عينيه المتوهجتين وشعره المسترسل»، وينسجوا حوله «دوائر ثلاثية» لأنه تغذّى على «المنّ» وشرب من «حليب الفردوس»، ولكي نفهم ماذا يقصد «كولريدچ» بهذه الأبيات الأخيرة علينا أن نعرف ماذا دفعه إلى كتابة هذه القصيدة في المقام الأول.

إعلان

كما أوضح الشاعر في المقدمة القصيرة لهذه القصيدة أنه كان نائمًا بعد تعاطيه للأفيون، الذي كان يُدمنه، لكن قبل النوم كان يقرأ كتابًا يتحدث عن أسفار الرحّالة الشهير «ماركو بولو»، والذي ذُكر فيه أن «قبلاي خان» أمر ببناء قصر جديد، ويزعم «كولريدچ» أنه أثناء الحلم تشكّلت لديه رؤية رائعة جعلته يؤلّف قصيدة تتكون من مائتين أو ثلاثمائة بيت وهو نائم.

استيقظ بعد حوالي ثلاث ساعات، وأسرع إلى قلمه ليعكف على كتابة كل تلك الأبيات التي أتت إليه في حلمه، ومع ذلك، بعد نسخ المقاطع الثلاثة الأولى من القصيدة، قاطعه «شخص من مدينة (بورلوك)» وجعله ينقطع عن الكتابة لمدة ساعة، بعد هذا الانقطاع لم يستطع «كولريدچ» تذكّر بقية الرؤية أو الأبيات التي ألّفها في حلمه الأفيونيّ، ومن المُعتقَد أن المقطع الأخير للقصيدة، الذي يتحدث عن «العيون المتوهّجة وحليب الفردوس…»، قد كتبه بعدما استعاد وعيه، أي أنه لم يحلم بتلك الأبيات. وتتجلّى قوة اللاوعي والأفيون في جميع أبيات قصيدة «قبلاي خان»، ويعتقد الكثيرون أنها أفضل العوالم الخيالية وأكثرها إثارةً من بين جميع قصائد «كولريدچ».

يُعد الشخص الغامض من مدينة «بورلوك» هو أحد أكثر الشخصيات سيئة السمعة في التاريخ، لا أحد يعرف من هو، أو لماذا أزعج الشاعر، أو ماذا يريد، أو ما إذا كان حقيقيًا أم مُجرّد ادّعاء من «كولريدچ»، لكن الأكيد هو أنه أصبح رمزًا للمُقاطعة غير المرغوب فيها وكسل الفنانين؛ تلميحًا أدبيًا للمتطفلين غير المرغوب فيهم الذين يعطّلون إلهام المُبدعين.

يتحدث «كولريدچ» في المقطع الأخير عن نفسه بطريقة غير مباشرة؛ إذا كان قد تمكّن من كتابة القصيدة التي تتكون من مائتين أو ثلاثمائة بيت كاملةً، فإنه سيكون قد نجح في سرد حلمه بكافة تفاصيله، وسيصبح بذلك مثل الإله الذي خلق الجنّة التي بها «المنّ وحليب الفردوس»، وكذلك «حدائق بابل المُعلَّقة» التي يرمز إليها في القصيدة بـ«القُبّة الجليدية المُعلَّقة».

كولريدچ وشعراء الخمر.. توافق رغم فارق الزمان وبُعد المكان

مثلما كان الأفيون مسؤولًا عن إبداع «كولريدچ» والصور الرائعة في قصيدته، فقد كان النبيذ مسؤولًا عن سمات رائعة مثل الشجاعة وحُسن الجوار والإبداع أيضًا في العرب، فنرى «حسان بن ثابت» قبل إسلامه يقول عن الخمر «ونشربها فتتركنا ملوكًا وأُسُدًا ما ينهنهنا اللقاءُ»، ويتحدث عنها «عنترة بن شداد» أيضًا قائلًا «لا يشرب الخمرَ إلّا من له ذِممٌ ولا يبيت له جارٌ على وَجَلِ».

وجد «كولريدچ» العزاء والصديق في الأفيون كما وجده الشعراء العرب في الخمر، ربما كانت تلك طريقته في الهروب من الواقع أو وسيلته للوصول إلى أقصى قدراته الشعرية وكتابة أفضل الأبيات، ونرى «حافظ إبراهيم» يقول:

يا غلامُ، المُدامَ والكاسَ، والطّا سَ، وهَيِّءْ لَنا مَكاناً كأَمْسِ
أطلِقْ الشمسَ من غَياهِبِ هذا الدَّ نِّ وامَلأ من ذلك النُّورِ كأسي
وأذنِ الصُّبْحَ أنْ يَلُوحَ لعَيْنِي من سَناها فذاكَ وَقتُ التَّحَسِّي
وادْعُ نَدمانَ خَلوتي وائتِناسي وتَعَجَّلْ واسْبِلْ سُتُورَ الدِّمَقْسِ
واسقِنا يا غُلامُ حتّى تَرانا لا نُطِيقُ الكَلامَ إلاّ بهَمْسِ
خَمرة ً قيلَ إنّهم عصَرُوها من خُدودِ المِلاحِ في يَومِ عُرسِ
مُذْ رآها فَتَى العَزِيزِ مَناماً وهو في السِّجْنِ بَيْنَ هَمٍّ ويَأْسِ
أعْقَبَتْهُ الخَلاصَ مِنْ بَعْدِ ضيقٍ وحَبَتْهُ السُّعودَ من بَعدِ نَحسِ

كولريدج

في البيتين الأخيرين من القصيدة نرى صورة دينية قوية؛ حيث يذكر «كولريدچ» أنه «تغذّى على المَنّ وشرب حليب الفردوس» والتي توضّح أن المنّ والحليب من صور المكافئات والتعظيم بشكلٍ ما، وتتوافق هذه الصورة مع الكتاب المقدس والقرآن الكريم، ولكن من المفارقات أنها لا تتوافق مع طبيعة شعراء الخمر العرب نظرًا لمعتقداتهم وسلوكياتهم في ذلك الوقت؛ فنرى الكثير من الصور المُقاربة في الكتاب المقدس مثل تلك في (سفر التثنية 26:9): «وَأَدْخَلنَا هَذَا المَكَانَ وَأَعْطَانَا هَذِهِ الأَرْضَ أَرْضاً تَفِيضُ لبَناً وَعَسَلاً»، وفي القرآن الكريم في (سورة محمد – الآية 15): «مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى»، ولكن نرى أشهر شعراء الخمر «أبو نواس» يقول «ولا تأخذ عن الأعراب لهوًا ولا عيشًا فيعشُهُمُ جديبُ، دع الألبان يشربها رجالٌ رقيقُ العيشِ عندهُمُ غريبُ، إِذا رابَ الحَليبُ فَبُل عَلَيهِ وَلا تُحرَج فَما في ذاكَ حوبُ، فأطيب منه صافيةٌ شمولٌ يطوفُ بكأسها ساقٍ أديبُ، أَقامَت حِقبَةً في قَعرِ دَنٍّ تَفورُ وَما يُحَسُّ لَها لَهيبُ».

يظهر جليًا في القصيدة رغبة «كولريدچ» في رسم صورة كاملة من وحي خياله، بالرغم من تكذيب الواقع لها وإصراره على استكمالها رغم مقاطعة الرجل الغامض من مدينة «بورلوك» له، فكأنه يُردد أبيات «أبي نواس» من قصيدة حديث الأماني:

غير أنّي قائلٌ ما أتاني من ظنوني مُكذِبٌ للعيانِ
آخذٌ نفسي بتأليف شيءٍ واحدٍ في اللّفظِ  شتّى المعاني
قائمٌ في الوهمِ حتى إذا ما رُمتُهُ رُمتُ مُعَمّى المكانِ
فكأنّي تابعُ حُسنَ شيءٍ مِن أمامي ليس بالمُستَبانِ.

المَراجِع:
1- موسوعة بريتانيكا، كولريدچ.
2- جاميسون، كاي ريدفيلد، لُمِس بالنار: مرض الهوس الاكتئابي والمزاج الفني، فري برس، 1994م.
3- صموئيل بيرتشيس، رحلات بيرتشيس، المجلد الرابع، مكتبة بوسطن العامة.
4- قبلاي خان، أو: رؤية في حلم – فُتات، قصيدة، كولريدچ، 1816م.
5- علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار الساقي، بيروت، 2001م.
6- ابن ثابت، حسان، الديوان، تحقيق: عبد أ مهنا، دار الكتب العلمية، بيروت، 1994م.
7- ابن شداد، عنترة، الديوان، تحقيق: حمدو طماس، دار المعرفة، بيروت، 2004م.
8- إبراهيم، حافظ، الديوان، تحقيق: أحمد أمين وآخرون، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1948م.
9- أبو نواس، الديوان، دار صادر، بيروت.
10- القرآن الكريم، سورة محمد.
11- الإنجيل، سفر التثنية.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد جمال شعبان

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

اترك تعليقا