لُغْزُ مَنَارَة جزرِ فلانان

اختفى ثلاثة حرّاس في ديسمبر عام 1900 من مكان عملهم -مجموعة من الجزر المَعزولة في شمال المحيط الأطلسي- دون أي أثر. هل كان اختفاؤهم نتيجة لحادث غريب أم أن السبب شيء أكثر شرًا؟ انضم إلينا أثناء سردنا للُغز منارة جزر فلانان الذي لم يُحَلَّ بعد.

ركب مُشرِف مجلس إدارة المنارات الشمالي «روبرت ميورهِد» زورقه من المرفأ الشرقي لجزيرة «آيلين مور» بعد أن ودَّع زملائه في مساء يوم السابع من ديسمبر عام 1900، ثُم توجَّه إلى سفينة بخارية مُثبَّتة في عرض البحر، والتي ستُعيده بدورها إلى البرّ الرئيسي. وبينما يشق طريقه في المياه المُتقلِّبة، نظر إلى «دونالد مكآرثر» و«توماس مارشال» و«چيمس دوكات» على الجزيرة الصغيرة المنعزلة وقد حملوا على عاتقهم مَهمّة تشغيل المنارة وحمايتها، وأثناء تلويحهم له من المرفأ، لم يخطر بباله أنه سيكون آخر شخص يراهم مرةً أخرى، لأنه عندما وصلت سفينة الإغاثة بعد 19 يومًا، لم يكن لهم أي أثر.

تقع جُزُر «فَلانان»، البالغ عددها 7، على بُعد حوالي 20 ميلًا غرب جُزُر «هِبرديس» بـ«اسكتلندا»، وتُعد جزيرة «آيلين مور» هي أكبرهم. استوحت الجُزُر، التي لطالما كانت غير مأهولة بالسكان، اسمها من الكاهن الأيرلندي الذي عاش في القرن السابع القديس «فَلانان». وكان سُكّان المناطق المجاورة يؤمنون بالكثير من الخُرافات التي تتعلق بهذه المجموعة الكئيبة المهجورة من الصخور الصخرية. وقد غرقت هناك العديد من قوارب الصيد والسفن التجارية على مرّ السنين، وعلى الرغم من أن أهل «هِبرديس» عادةً ما كانوا يذهبون بخِرافهم هناك للرعي حيث العُشب الخِصب، كانوا يعتقدون أنه من سوء الطالع أن تقضي ليلةً هناك.

قرر مجلس المنارات الشمالي، في تسعينيات القرن الـ19، بناء منارة على جزيرة «آيلين مور»؛ الأمر الذي استغرق أربع سنوات، وكثيرًا ما أعاقت عواصف المحيط الأطلسي الهوجاء أعمال البناء مما جعل من الصعب للغاية توصيل الإمدادات إلى هناك. ومع ذلك، فقد اكتملت المنارة وبدأ تشغيلها في السابع من ديسمبر عام 1899. لكن للأسف، لم يكن هناك لاسلكي، والطريقة الوحيدة للاتصال بالبر الرئيسي هي استخدام إشارات «سيمافور»، والتي يمكن لأهل «هِبرديس» رؤيتها بوضوح في يوم مُشرِق. وكان يتولى مَهمّة تشغيل المنارة في ذاك الوقت ثلاثة رجال في وقت واحد.

يبدأ اللُغز في ليلة الخامس عشر من ديسمبر عام 1900، عندما دوت السفينة البخارية الأمريكية «إس إس آرتشر» بالقُرب من «آيلين مور» في طريقها من ولاية «فيلادلفيا» إلى مرفأ «ليث» بمدينة «إدنبره»، حيث لاحظ قبطان السفينة أن المنارة مُظلِمة على غير العادة، وسُرعان ما أبلغ عن الأمر عندما رست السفينة في مدينة «أُوبان» بعد بضع ساعات. وعلى الرغم من أن المنارة المُظلِمة كانت سببًا للقلق، إلا أنه لم يكن يُمكن اتخاذ أي إجراء فوري بسبب الطقس القاسي؛ فكان من المُقَرر أن تُبحر سفينة الإغاثة «هيسبرس» في العشرين من ديسمبر. ومع ذلك، وبسبب الظروف غير المواتية، لم تشرع السفينة في الواقع إلا فجر عيد القدّيس «ستيفان» المُوافِق 26 ديسمبر حاملةً إمدادات طازجة والحارس «چوزيف مور». وعندما اقتربوا من المرفأ الشرقي، أطلق «چيم هارڨي» -قبطان سفينة «هيسبرس»- البوق ثلاث مرات، وتبعه بشعلة استغاثة، لكن لم يكن هناك أي استجابة.

إعلان

كان جليًا منذ اللحظة التي وصلوا فيها أن شيئًا مُريبًا قد حدث؛ فلم يكن هناك ترحيب من الثلاثة رجال الذين اعتادوا الوقوف خارجًا لاستقبال الزوار، ولم تكن صناديق المؤن الفارغة موضوعة عند المرفأ كي تُستبدَل بأخرى، ولم يكن العلم يرفرف على السارية.

رست سفينة «هيسبرس» في صمت، واتّجه «چوزيف مور» صوب الجزيرة بمفرده. وعندما وصل إلى المرفأ الشرقي، صعد مباشرةً إلى المنارة وهو ينادي على الثلاثة حرّاس، لكنه لم يتلقَّ أي ردّ. وأثناء تجوله، وجد باب المهجع والبوابّة الرئيسية مُغلَقين، وداخل المنارة نفسها لم يكن هناك شيء خارج عن المألوف؛ فالمصابيح قد نظّفها أحدهم مُؤخرًا وأعاد ملئها، والأسرّة غير مُرتَّبة كما لو أن الحرّاس قد استيقظوا لتوّهم، والأواني مغسولة وموضوعة في مكانها.

وجد «چوزيف» بعد المعاينة الأوّلية كرسيًا مَقلوبًا في المطبخ، ثم لاحظ أن جميع الساعات كانت مُتوقِّفة، مما زاد من مخاوفه. لكنه عاد مباشرةً إلى السفينة «هيسبرس» وأبلغ القبطان بملاحظاته، ثم توجّه إلى المنارة مجددًا مع عدد من الرجال على أمل إجراء بحث على نطاق أوسع؛ فوجد المرفأ الشرقي سليمًا على عكس نظيره الغربي الذي كان في حالة يُرثى لها جرّاء العواصف الشديدة التي تعرّض لها، كما وجد العمال صندوقًا مُحطَّمًا على ارتفاع 110 قدم فوق مستوى سطح البحر متناثرةً محتوياته، بالإضافة إلى القُضبان الحديدية المثَنيّة، وخط السكّة الحديدية على طول الطريق المُنتَزع من مكانه الخرسانيّ، والصخرة التي نُقِلت إلى ذاك المكان وهي تزن أكثر من طن، والعُشب المُقتلَع على مسافة عشر أمتار من حافة الجرف على ارتفاع أكثر من مائتي قدم فوق مستوى سطح البحر.

وكشفت التحقيقات أن الحراس واظبوا على التسجيل في دفتر الحضور والانصراف حتى الساعة التاسعة من صباح يوم الخامس عشر من ديسمبر، كما أوضحت ملاحظاتهم أن الضرر حدث قبل اختفائهم.

من الأدلة المثيرة للانتباه أن الرجال وجدوا مِعطَفًا واحد فقط من أصل ثلاثة واقية من المطر، مما يشير إلى أحد الاحتمالين: وهو أن أحد الرجال قد غامر بالخروج دون ارتداء ملابسه الواقية خاصةً خلال فصل الشتاء القاسي في شمال الأطلسي أو أنه كان ميتًا عندما خرج من المنارة…

بقي «چوزيف مور» وثلاثة متطوعين آخرين على الجزيرة بهدف تشغيل المنارة وإعادتها إلى حالتها السابقة، بينما عادت السفينة «هيسبرس» إلى محطة «بريسكليت» البرّية، وأرسل القبطان «هارڨي» برقيةً إلى مجلس إدارة المنارات الشمال وذكر فيها التالي:

«لقد وقع حادث مُروِّع في جُزُر (فَلانان)؛ فقد اختفى الرجال الثلاثة المُوكَّلون بتشغيل المنارة وحمايتها… كما لاحظنا أن الساعات كانت مُتوقِّفة، وتشير الأدلة أن الحادث قد مضى عليه ما لا يقل عن أسبوع… يا لهم من مساكين! لا بُد أن الرياح قد عصفت بهم من فوق الجَرف أو غرقوا أثناء محاولتهم جلب رافعةً أو شيئًا من هذا القبيل.»

جسَّد لُغز جُزُر «فَلانان» مصدرَ وحيٍ للعديد من الأعمال الإبداعية على مرّ السنين؛ فهناك قصص وقصائد وأغاني وحتى مسرحية غنائية مستوحاة كلها من هذا الحادث المُفجِع. ومع ذلك، قد تكون معرفة حقيقة ما حدث أمر غير وارد.

أُدخِلت العديد من التعديلات على القصة الأصلية لزيادة التشويق ومحاولة إضفاء رعب زائد للأحداث؛ فعلى سبيل المثال، قيل إن «چوزيف مور» قد وجد نصف وجبة مأكولة عند دخوله إلى المنارة، وهي إحدى التفاصيل الشائعة في كثير من قصص الاختفاء، لكن في هذه الحالة، الأمر ببساطة غير صحيح. من الأشياء التي تُضاف لقائمة الأحداث المُختلَقة أيضًا، وكثيرًا ما يُشار إليها، هي التفاصيل الوارد ذكرها في دفتر الملاحظات بشأن سلامة الحرّاس العقلية؛ فالشيء الوحيد الذي وجدوه في ذاك الدفتر هو توثيق للتلفيات التي لحقت بالمرفأ الغربي بسبب العواصف، لكن لم يرد ذكر أي شيء بخصوص بكاء «دوكات» أو كون «مارشال» سريع الغضب. لقد أضافت مجلة أمريكية تتخصص في القصص الخيالية تلك التفاصيل في محاولةٍ منها لإثارة النزعة الفضولية عند القارئ. ومع ذلك، لم يُعثر على أي جثث ولم يُكشَف النقاب عن أي أدلة أخرى. لذلك، لا يمكننا سوى التكهّن بما حدث على جُزُر «فَلانان» في تلك الأيام العاصفة.

تقترح إحدى الروايات، التي اقتُبست في عمل سينمائي، أنه بعد انجلاء عاصفة وجد الثلاثة رجال قاربًا وصندوقًا خشبيًا ورجلًا مُلقى على الشاطئ؛ فنزل «دوكات» لتفقّده، لكن بدا عليه أنه قد فارق الحياة. وأثناء رفعهم الصندوق، يستعيد الرجل وعيه ويهاجم الحارس الذي لا يجد أمامه سوى أن يضربه بحجر على رأسه في محاولةٍ للدفاع عن نفسه؛ الأمر الذي ينتهي بقتل «دوكات» للرجل الغريب. ثم يفتح الحرّاس الصندوق ليجدوا بداخله عددًا من سبائك الذهب؛ فيقترح «مكآرثر» أن يتخلصوا من الجثة ويعودوا بالذهب إلى اليابسة ويتصرفوا على سجيتهم لمدة سنة قبل تقسيم الذهب فيما بينهم، لكن سُرعان ما يصل قارب آخر عليه اثنان يدَّعيان أنهما رفيقا المُتوفَّى… يسود التوترُ الأجواءَ حيث يزعم الحرّاس أنهم قد أبلغوا عن الحادث وجاء قارب بالفعل وأخذ الجثة والصندوق، لكن لا تنطلي الحيلة على الرجلين ويدور شجار بين الطرفين ينتهي بمقتل الرجلين – أحدهما على يد «دوكات» الذي يلحظ أن شخصًا ما كان يراقبهم؛ فيخرج «مارشال» مُسرعًا وراء ذاك الشخص ويقتله في عتمة الليل ليكتشف بعدها أنه مجرد صبيّ صغير. ومع تصاعد الارتياب وعدم الثقة وتأنيب الضمير، يتوصّل «مارشال» في قرارة عقله إلى أن «دوكات» هو السبب وراء كل ذلك الشقاء وزهق الأرواح؛ فيخدع «مكآرثر» ويحبسه بإحدى الغرف ليستفرد بـ«دوكات» ويقتله، ثم يتخلص من الجثث في عرض البحر، لكن مشاعر الحزن والذنب تتملّكه؛ فيترجّى «مكآرثر» أن يُغرقه لأنه لن يستطيع العيش وعلى كاهله دم كل هؤلاء الأبرياء.. الطلب الذي يذعن له في نهاية المطاف، ثم يرحل «مكآرثر» وفي يديه سبائك الذهب وفي رقبته الكثير من الدماء التي سُفِكت من أجل جشع الرجال وفي عقله ما يكفي من الكوابيس ليخاصم النوم عينيه ما بقي على قيد الحياة.

غالبًا ما يكون أبسط تفسير هو أقربهم إلى الصواب، وعليه فقد توصّل مجلس إدارة المنارات الشمالي في تحقيقاته إلى أن الثلاثة رجال قد باغتتهم موجة هائلة وجرفتهم بعيدًا. فرُبما ذهب «مارشال» و«دوكات» لإنقاذ بعض المعدات الموجودة بالمرفأ الغربي من العاصفة في حين ظلّ «مكآرثر» داخل المنارة كما تنص التعليمات، حيث كان من المحظور ترك المنارة دون رقابة في أي وقت. ومن موقعه داخل المنارة، كان بمقدور «مكآرثر» رؤية الموجة الهائلة وهي تقترب من الجزيرة؛ الأمر الذي جعله يهرع إلى زميليه على أمل تحذيرهما، لكنه وصل إليهم بعد فوات الأوان لتجرفه هو أيضًا الموجة التالية.

لكن هذا السيناريو لا يفسّر لم كان باب المهجع والبوابّة الرئيسية مُغلَقين؟ وكيف لثلاثة رجال من ذوي الخبرة، الذين قضوا ساعات لا تُحصى مُحاطين بالبحار القاسية، أن تُباغتهم إحدى الموجات؟ وإذا كان ذلك هو الحال بالفعل، فلماذا لم تطفُ أي من الجثث على السطح كما يحدث عادةً؟

وفي الختام، نترككم مع كلمات مُشرِف مجلس إدارة المنارات الشمالي «روبرت ميورهِد»، التي ذكرها في التقرير الرسمي بتاريخ الثامن من يناير عام 1901 بشأن الحرّاس:

«لقد زرتهم في السابع من ديسمبر وكثيرًا ما أتذكّر ببالغ الحزن والأسى أنني كنت آخر من يصافحهم ويراهم على قيد الحياة.»

نرشح لك: مغامرات بينوكيو.. كيف تكون إنسانًا؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أحمد جمال

تدقيق لغوي: ندى حمدي

اترك تعليقا