لماذا نَمُوت؟

هناك عادة شعبيَّة مُنتشِرة بين نساء العَالَم، باختلاف العِرْق والثقافة والدِّين، هذه العادة هي تسمية المولود باسمٍ قبيح، عسى ألا يخطفهُ المَوْت وهو لا يزال صغيرًا.

أستطيع إثبات ذلك لك. سأطلُب منك مُرَاجعة أسماء عائلتك وعائلات من حولك، وستندهش بنفسك من تلك الألقاب والمُسميَّات الشَّاذة!

بالنسبة إلى مسار الأمور الطبيعي: فإن مشاهدة رجل تتقدَّم به السن، وتتداعى أعضاءه، وتتدهور وظائف جسده وعقله، ثُمَّ يمُوت، يبدو في مسارٍ مُنتظمٍ من البداية إلى النهاية، ومن الميلاد إلى الشَّيْخوخة. لكن بالنسبة إلى الأمُهَّات المسكينات اللاتي يُشاهِدْنَ حصاد حياة أطفالهن قبل أن يعيشوا، وبشكلٍ مُبَاغتٍ وفوضويٍّ، أمر مؤلم ويصيب عقل الإنسان بالصَّدْمة والارتباك، فعقل الإنسان –وذلك بشهادة علوم الأعصاب نفسها– لا يُجيد التعامل مع الفوضى، لذلك يضع التوقُّعات بشأن كيفية تفسير العَالَم وما هو نظامه؟ كيف يتقبَّله ويتحمَّله؟

وأمام المَوْت الذي لا دواء له، تحاول الأمُهَّات ابتكار دواء ولو بالخيال. فيتصورون المَوْت على شكل إنسانٍ يُمكن خداعه، والتنكُّر أمامه وراء اسم قبيح، فربما يكون الغرور البشريّ بتسمية أسماء جميلة هو السَّبَب. وبالتأكيد يوجد بشرٌ لا يزالون مقتنعين بهذا الدواء، ويطلقون على أطفالهم أسماء قبيحة، ولكن هذا الحل فاشل! فقد تُسمِّي الولد أبشع الأسماء ويمُوت في المهد، وقد تُسمِّيه أجمل الأسماء ويعيش حتى أرَاذِل العُمْر!

يُسمَّى هذا الحَلّ بالتَّفكير الخُرَافيّ. والتَّفكير الخُرَافيّ –ببساطةٍ – هو شعور الإنسان بالعَجْز وقلة الحيلة أمام العَالَم وحوادثه، فيحاول السَّيطرة عليه بتصوُّر العَالَم إنسان يمكن أن يستجيب إلى دعواته وأمنيَّاته ومخاوفه. أبسط مثال على ذلك، هو اعتقاد قبائل الفايكنغ البدائيَّة، أنها بالتَّهْليل والتَّطْبيل سوف تستعيد الشَّمس من الخسوف، بعدما كاد التِّنِّين (القمر) أن يبتلعها. فخسوف الشَّمس سيحدث مهما هلَّل الإنسان على أي حال، ولكن الإنسان يرغب فى داخله أن يُشْبع شُعوره بالسَّيطرة، ولو بالخيال.

إعلان

وأمام المَوْت يحاول الإنسان أن يعرف لماذا يَمُوت؟

في البداية، أحبُّ أن أوضِّح أن هذا المقال مبني أولاً: على إدراكنا البديهيّ بأننا لسنا خالدين، ولو كان أي إنسانٍ يُشكِّك في واقعيَّة المُوْت، لن يضطر أصلًا إلى التَّفكير في المسألة. وهناك بعض البشر -من الحالات المَرَضيَّة-  يُشكِّكون في واقعيَّة المُوْت نفسه، ولكن هذه مسألة أخرى.

ثانيًا: وعلى إدراكنا البديهيّ أنه لا يوجد علاج دوائيّ ابتكره البشر في الوقت الحالي كي يُعيد البشر أحياء جسديًّا وعقليًّا بالصورة التي كانوا عليها، وإلا نحن لسنا في حاجةٍ إلى الكلام عن المَوْت، إلا لو تكلَّمنا عنه كما نتكلَّم عن الكوليرا ودواء الكوليرا الذي اخترعناه وانتهت المسألة، وهكذا يصبح المَوْت جزءًا من التاريخ، وليس جزءًا من واقعنا الحي.

قال الفيلسوف نيتشه: “حين يُصيبنا شَرّ ما فإنه يمكننا القضاء عليه إما بإزالة أسبابه، أو بتغير الانطباع الذي يتركهُ في إحْسَاسنا”، وبما أننا لا نستطيع عِلاج المَوْت، فاسمحوا لي أن أحوِّل السؤال من “لماذا نَمُوت؟” إلى “كيف نعيش مع حتمية المَوْت ونضع له معنى؟”

وفي هذه النقطة اختلفت الآراء والفَلْسَفات والأدْيَان. وعلى الرَّغْم من أن الإنسان البدائيّ أُتيحت له الفرصة لرؤية أُناس يموتون أضعاف فرصة الإنسان المتحضِّر، إلا أنه شَكَّك في حتميته أصلًا، أو أنه رده إلى أسبابٍ طبيعية، فالمَوْت -بالنسبة إليه- كان نتيجة عدوان أو قوَّة شريرة . وهذا الإنْكَار النَّفسيّ مفهوم بالطبع فى سياق بيئته العدوانية التي كان يريد البقاء فيها. وحسب رأي جاك شورون، فإن الإنسان لم يعِ حتمية موته إلا بالتزامن مع إحساسه بالفرديَّة، فعندما تجاوز فكْرَة البعث وسط عشيرته وإعادة الإحياء في قبيلته، بدأ يشعر بموته على المستوى الشَّخصيّ.

كما أن إدراك الإنسان البدائيّ للمَوْت الشَّخصيّ بدأ بالتزامن مع تصوُّر الزمن يسير في خطٍ مستقيم، وأنه لا يمكن العودة إلى الوراء، بدلًا من التصوُّر الدائريّ للزمن. 

وحسب رأي فرويد ، الإنسان لم يعِ حتمية مَوْته بقتل أعدائه بالحَرْب وهو يرمق الجُثَث المُتنَاثرة من حوله، بل عندما مات قبله أحِبَّاءه الذين يعدّهم جزءًا لا يتجزَّأ منه، وبدأ يسأل نفسه: أيمكن هذا أن يحدث لي أنا؟

وهذا السؤال تحديدًا وَرَدَ في ملحمة جلجامش عندما مات صديقه الوفي أنكيدو ( أي نومٍ هذا الذي غلبك وتمكَّن منك؟ لقد طواك ظلام الليل فلم تعد تسمعني، أإذا مت أفلا يكون مصيري مثل مصير أنكيدو؟ لقد تملَّك الحُزْن والاسر روحي، وها أنا ذا هائم في القفار والبراري خائفًا من المَوُت)(5)

والهندوسية، على سبيل المثال، في مواجهة حتميَّة المُوْت شكَّكت في واقعية العَالَم نفسه. فهي ترى أن العَالَم وَهْمًا، وأن وراء العَالَم حقيقة ثابتة لا تتغيَّر، وبما أن المَوْت وَهُمٌ، فإن العاَلَم يخبِّئ وراءه الخلود. تُشبه هذه النظرة إنسان مُصَاب باضطراب ما بعد الصَّدْمَة.

ففي تجنُّب الإنسان الألم من الصَّدْمَة، يُشكِّك في واقعية حدوثها، ويعتبرها لم تحدث كي يُوَاصِل حياته متجنِّبًا مراحل تقبُّل الصَّدْمَة، حتى أنه من الممكن الاستمرار مدى الحياة على هذا النحو. نفس الشيء حَدَثَ في اليونان، فالفيلسوف الكبير سقراط -متأثِّرًا بالفيثاغوريَّة- كان حائرًا بين كَوْن المَوْت نومًا بلا أحلام، أم تحرُّر الروح من الجسد؟

أما أفلاطون، وهو متأثِّر بالعقائد المِصْريَّة القديمة، شَكَّك في الحواس التي تُدرِك الواقع، وأن ما نراهُ في الخارج عبارة عن نموذجٍ للمثال الحقيقيّ، والمثال الحقيقيّ الخالد موجود وراء العَالَم. أما الرواقيون فقد تقبَّلوا واقعية المَوْت، وعزُّوا أنفسم من الحُزْن باعتبار مَوْت الإنسان يجعله ينضم إلى الكُلي، إلى العَالَم، فهو يستمد خلوده من خلود العَالَم بأسره بانضمام كل جزءٍ من جسده في المسيرة الكونيَّة.

وأبيقور الذي كان محاربًا كبيرًا للخُرَافات، وقد أُشيع أن أُمّه كانت تعمل مُشَعوِذة شعَبيَّة وتُشْفي الناس بها، اعتبر خوف الإنسان من المَوْت ناتج عن قلة الفهم والغباء، وقال: “عندما يكون المَوْت موجودًا لن أكون، وعندما أكون لا يكون له وجود”.

أبيقور كان يرى أن ليس هناك تجربة تُسمَّى تجربة المَوْت تخاف منها مثلما تخاف من تجربة حرق يديك بالنار.

فحواسك وعقلك وكيانك كله الذي تعرفه عن نفسك فى حضور المَوْت لن يكون موجودًا كما لو كنت حيًّا. وطالما أنت على قيد الحياة فلا يوجد مَوْت كي تُجرِّبه وتلمسه، فما الدَّاعي للخَوْف؟

ومع الردود المنطقيَّة على المَوْت، ظل القلق من المَوْت موجودًا.

الأديان الإبراهيميَّة: الإسلام، والمسيحيَّة، واليهوديَّة. ترى أن المَوْت حَدَثٌ واقعيٌّ بالفعل، ولكنه ليس نهاية الحياة.

بعد المَوْت توجد ممالك مُحصَّنة من المَوْت والألم، ومُمْتلئة بالنِّعَم والخلود، ولكن تذكرة الدخول إليها ليست مجانًا.

 فمن بين أربعة آلاف دِين ومِلَّة ونِحْلة موجودة على كوكب الأرض، عليك أن تُدْرِك الدِّين الصحيح، وتُمَارِس الطقوس الصحيحة، كي تدخل هذه المملكة، أو تتعذَّب في الجحيم خالدًا، فحتى الجحيم فيه خلود، ولأنه لا توجد تجارب على هذا العالم الما ورائي تُثبت وجوده، فإن عليك الإيمان به، ومن هنا ابْتُكِرَت مسألة الإيمان.  

الفَلْسَفة الوجوديَّة على سبيل المثال، ترى الإنسان صغيرًا جدًا في هذا الكَوْن الشَّاسِع، وأنه مُعرَّضٌ في أقل حادث عرضي، أو حتى هجوم من بكتريا صغيرة، أو حشرجة سُعَال أن يقضي نحبه. فهي ترى الموت حادثًا عبثيًّا، وأن قوى الطبيعيَّة من حول الإنسان –مهما كان هو قويًّا– تُنهي حياته في لمح البصر، وكأنه لم يكن. فبطل ألبير كامو في رواية “الغريب” يستقبل مَوْت أمهُ ببرودٍ، ويبدو غريبًا عن العالم ونفسه التي ارتكبت جريمة يبدو أمامها لا مُبَاليًا، لا مُبَاليًا حتى بالحُكْم الذي سيصدر على حياتهُ، لأن كل الأشياء تتساوى.

وعزاء الإنسان أمام عبثيَّة وجوده -في رأي الوجوديَّة- الذي يُشبه رفع صخرة كبيرة جدًا من سَفْح جبل كي تتدحرج من الناحية الأخرى، هي أن عظمته تَكْمُن في تحمُّل هذه العبثيَّة، وأنه ينال حُرِّيَّته عن طريق وعيه بعبثيَّة الكَوْن.

تعتقد البوذية أن سبب مُعَاناة الإنسان هي الجهل؛ الجهل يجعلك تُقسِّم الحياة إلى نصفين: نصف يُعجبك، ونصف لا يعجبك. فالنصف الذي يعجبك هو أنك تريد من الحياة الشباب والصحة والجمال والثروة والسعادة لأطول مدة ممكنه، ولا ترغب في الموت ولا المُعَاناة ولا المرض ولا الشيخوخة.

البوذيَّة تقول إن الجهل يجعل الإنسان لا يقبل الحياة كما هي، ويتعلَّق بجزءٍ ويترك الآخر، ويتجاهله ويكرهه وينبذهُ، فلا يوجد إنسان يُفكِّر في الخلود إلا وهو متأكِّد أن هناك موتًا، ولا إنسان يريد إطالة السعادة والعمر والصحة إلا وهو متأكِّد من واقعية المرض والشيخوخة والتعاسة والمعاناة.

ترى البوذيَّة الداء في رغبة الإنسان التي تجعلهُ يتعلَّق بجزءٍ ويُنْكِر جزءًا من الحياة، فلا أحد يموت دون أن يُوَلد أصلًا، فإذا أردت القضاء على الموت، اِقْضِ على الحياة معها.

وتُعَالِج البوذيَّة الرغبة والتعلَّق اللذان يُعتَبَران هما المرض وليس المَوْت، فتعالجهما بالصفاء الذهني والتدريب النَّفسيّ على قبول الواقع كما هو دون أن تُثار عواطفه، جاهلة بحقيقة الحياة.

هذه أبرز وجهات النَّظر التي تتعامل مع حتميَّة وجود المَوْت، لأننا عاجزون في الوقت الحالي عن اختراع دواءٍ شافٍ له.

هناك أيضًا حالات مَرَضِيَّة تُعَاني قلقًا من المَوْت أكبر من قلق الإنسان العادي، أو حالات تتجه إلى الانتحار، أو تصل إلى حَدّ الوسواس القهريّ، ولكن هذه يتعامل معها الطب النَّفسيّ والعلاج باعتبارها خارجة عن المُعدَّل الطبيعيّ. قد تحصل الأجيال القادمة على الدواء، ولكن هل يحق لها احتقارنا والسُّخريَّة من الأجيال التي واجهت هذه المُعْضِلَة؟

——————————————

المصادر :

1- نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته، ص 73

2- جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، ص 20

3- المصدر نفسه، ص 21

4 - فرويد، الحب والحرب والحضارة والموت، ص 40

5- جاك شورون، الموت في الفكر الغربى، ص 25

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا