مواقع التواصل الاجتماعي: دين العصر الجديد

مئات المنشورات والتعليقات اليوميّة التي تطالعها على مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، منذ بداية استيقاظك وحتّى موعد نومك على مدار أنشطتك اليومية المختلفة وبمختلف أطوارك المزاجية، ومشاعرك الغالبة على يومك.

تستيقظ في صباحك، لتبدأ يومك بالتحدّيق في شاشة هاتفك لتستوعب جيدًا ذلك المنشور الذي قام بمشاركته أحد الأصدقاء على فيسبوك عن تلك المصيبة الاقتصاديّة التي تسبب بها أحد السياسيين، أو حادث اصطدام شاحنة بسيارة عائلية للمرة الألف.

وفي منتصف الظهيرة لا تنسى أن تقوم بفتح منصة تويتر لتغرّد كالمعتاد عن قسوة مديرك في العمل وعن الرأسمالية المدمّرة لجوهر الإنسان لتحصل تغريدتك على عشرة آلاف إعجاب ممن يكرهون وظائفهم قبل أن يستمروا في عملهم المتراكم المُهلِك بنفس راضية كلّ الرضاء. ولا تنسى بالطبع قبل عودتك من العمل، أن تلتقط لنفسك صورةً ما من أجل تحديث حالة الانستقرام لإعطاء الإنطباع -هذه هي الحياة لكننا مستمرون وبإشراق- المحبَّب لمستخدمي انستقرام، ثم تعود مثقلًا من عملك أو يومك الدراسيّ بعد يومٍ طويلٍ شاق ومرهق وممل. خلايا عقلك احترقت بأكملها، ولا يوجد متسَّع لأيِّ اعتراض حياتي من جانبك قد يتضمَّن مجرّد البرهة الزمنية للدهشة أو الانفعال لأي شيء.. مستنفذ الوجدان، مبتور الفكر.. لتقرِّر أن تنهي يومك ببعضِ مقاطع اليوتيوب القصيرة، أو بنفس صور الميمز الفيسبوكية متكرِّرة الإطار الساخر للدعابة مع اختلاف المحتوى الرائج في كلّ مرة.

هكذا يمكننا أن نختزل ما نفقده من حياتنا في كلّ مرة نستخدم فيها مواقع التواصل الاجتماعي من إضاعة وقتل سريع للوقت، واغتراب في متاهة المحتوى، وكمّ المعلومات اللانهائية، وتصدير الضغوط النفسيّة والأخبار التي لا تهم للمرء، والتعرِّض للمضايقات والإهانات والابتزاز إلى الحد الذي قد يصل لأضرار حياتيّة للفرد، والانفصال عن الواقع في تدرُّج متزايدٍ في عصرنا ليحلّ الافتراضي محلّ الواقعيّ، وغيره من المخاطر التي قد نتعرض لها أثناء استخدامنا لمواقع التواصل، لكن ما نريد قوله هو أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد تقتصر على تلك الأضرار كأعراضٍ ثانوية ناجمة عن إدمانها، أو سوء استخدامها، بل أصبح بإمكاننا القول أنَّ مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت تمثِّل تهديدًا صريحًا وتامًا لوجودنا البشري ووعينا به.

العبد التقني : هوية الفرد الرقمي

في روايته (الساعة الخامسة والعشرون) يوضِّح لنا الكاتب (قسطنطين جيورجيو) كيف أنّ الثورة القادمة في حياة الإنسان ستكون هي ثورة العبد التقني، ثورة الآلات وما ستحمله من خطر استعبادها لنا، ليصبح جُلّ حياتنا ومعناها هو خدمة تلك الآلات من خلال المداومة على استخدامها، والاستغراق في تطويرها وتحديثها وإحاطتها لنا في جميع مناحي حياتنا اليومية لتصبح حياتنا منوّطة بها مقاسة بما حققناه للآلة وتطورها واستخدامنا لها.

إعلان

“إنني أرى أولئك العبيد التقنيين يحومون حولي مستعدين لخدمتي ومساعدتي، فيشعلون لفافتي ويحدثونني عمّا يقع في العالم وينيرون سبيلي في الظلام، إن حياتي رهينة وجودهم لأنّهم يشاركونني في الحياة أكثر من أي كائن حي.. فالرجل العصري يعرف أنّه هو وزملاؤه من بني الإنسان ليسوا أكثر من عناصر يمكن استبدالها….. وهذا التحوّل البطيء سيقلب الكائن الحي وسيجعله متخلّيًا عن أحاسيسه وعلاقاته الاجتماعية ويجعلها محصورةً في حدود ضيقة واضحة آلية تمامًا.”

وهذا هو ما فعلته مواقع التواصل بنا، لقد أصبح تَمثُّلنا الوجودي مرتبط بها، وولادتنا الحقيقية تحدث عند إنشائنا حسابات خاصة  بنا عليها فحياتنا تلك التي نعيشها هي الوهم والحقيقة هي الفضاء السيبراني. يقول كل من مارك دوغان وكريستوف لابي في كتاب ” الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية الرقمية ” :- ” لا يتعلق الأمر بتمثيل مزيف للواقع بل هو الإيهام الدائم بأن الواقعي ليس هو الواقعي.”

فقد تدمَّرت القيمة الفردية للإنسان عندما تحوّل إلى مجرّد “مُستخدم” بالنسبة لمواقع التواصل، وقد أظهرت لنا المواقع وفرتنا البشرية وبالتالي انعدام قيمتنا الفردية فنحن مجرّد أرقام بالنسبة لبعضنا البعض.. مجرّد إحصائيات في تعاملاتنا الرقميّة نحصد أرقامًا ونفقد أرقامًا، أصبحنا أوعية تمرر آراء وتستهلك آراء بحيث لا تهم الأفكار ولكن ما يهم هو عرض هذه الأفكار لبعضنا البعض وتداولها الرقميّ مع تحديثها بصورة مستمرة في كل يوم في الاتصال الدائم بالشبكة المعلوماتية المتاحة على تلك المواقع وأن نكون جزءًا منها باستمرار. “إنها مفارقةٌ غريبةٌ ..فلم تقد هذه الثورة بإنجازاتها الكثيرة كما كان مؤملًا إلى تجدد الإنسانية وتطورها بل أعلنت ميلاد فرد فائق hyper individual .. “مزيد” بالافتراضي وبالبدائل الاصطناعية ولكنّه مُفرغ من الداخل..لقد اختفى الحلم والمتخيّل والفعل الاستعاري عنده لتحلّ محلّه الرغبة والاتصال الدائم” . “الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية الرقمية”  

وفي خضم الملايين من المنشورات، والنصائح الإلكترونية، والأفكار الإرشادية، تضيع حياتنا في قراءتها وتداولها دون أن نجربها حقًا، لم تعد هناك قيمة ما للفكرة أو القول في ذاته بل إن الهدف من كلّ ذلك هو أن تستمِّر تلك المنصّات في العمل، وفي عرض المحتوى، وفي الإبقاء على الأفراد مستلبين لصالحها.

إنَّ مواقع التواصل الاجتماعي يوم أن جعلت الجميع يتحدَّث ويتحدَّث دون أن يستمع أحد حقًا؛ هو اليوم الذي أصبح فيه الإنسان آلة تخدم آلة، فقد أصبحنا مجرّد حزمة معلوماتية أو مصفوفة بيانات تترجم باستمرار لحدث في كون بديل.

كيف تتغذى علينا مواقع التواصل الاجتماعي ؟

إنَّ خطر إدمان مواقع التواصل هو كونها تعتمد على الإنسان ومنتوجه الفكري في صنع مادته المخدّرة، إذًا فهو مخدّر لا ينضب ولا يفنى، وإدمان الإنسان لها هو عملية تعذيبية أبدية.

وهي تفعل ذلك ببراءة تامة مدّعية أنّها تعمل على خدمة الإنسان وتلبية حاجاته وتوفير المعلومات له، لكنّها تعلم جيدًا أنّ الإنسان كائنٌ مستهلكٌ بامتياز كما يقول اريك فورم في كتابه الإنسان المُستلب : “بدون شك فإنّ الإنسان المعاصر هو في غالب الأحيان خامل في أوقات فراغه، إنه مستهلك أبدي: إنه يتناول مشروبات، أكل ..سجائر..مقروءات..زيارات..كتب ..أفلام..كل شيء يُستهلك،ويُبلع، والعالم حقل كبير لشهواته.. إن الإنسان قد أصبح رضيعًا ينتظر على الدوام، ويخيب ظنه على الدوام”.

ومع علمنا بذلك فهي تغوينا وتسحرنا بشبكة هائلة من المعلومات والأخبار والأفكار والأشخاص والأحوال الإنسانية كما يقول فرانسيس بووث في كتابه مصيدة التشتت “الإنترنت يستحوذ على انتباهنا ليشتته فقط” من بين مفارقات الإنترنت الكبيرة وهم التصفح السريع..حيث إننا ننتقل بسرعة من موقع لآخر بدون أن نتصفح أي موقع .. لا نكلّف أنفسنا عناء القراءةِ بل نُلقي نظراتٍ سريعة ودون أي صبر .. لا نتصفح إن لم نرَ ما نريده فيه..ونتخطّى ما نتصفحه بسرعة كلّما استرعى انتباهنا رابط موقع مثير ..هناك شبكة كاملة تغوينا بالانتقال ..من رابط إلى رابط ثانٍ وثالث ..الأمر الذي يجعلنا نشعر بوجود وفرة من المعرفة ونحب نحن هذه الطريقة كثيرًا ..وجود كم كبير من المعلومات يمكننا الوصول إليه بأطراف أصابعنا..ولكن مع نهاية يوم آخر يكون قد تمّ استنفاد طاقتنا بالكامل”.

و يرى كلاي شيركي أستاذ علم الشبكات بجامعة نيويورك: “أن الانترنت صاحبته زيادة غير مسبوقة في القدرة التعبيرية لم يعرفها تاريخ الجنس البشري ..وأن ذلك أمر سلبي لأنّ التعامل مع طوفان من المعلومات أصعب وأكثر خطورة من التعامل مع ندرة المعلومات ..والندرة تحافظ على القيمة بينما الوفرة الزائدة تجعل ما كان قيمًا في السابق غير قيم”. ولذلك يقول سعد البازعي في كتابه قلق المعرفة ” يُوصف عصرنا بأنه عصر المعلومات ولكنه قلّما يُوصف بأنه عصر المعرفة”

صناعة المحتوى وكتابة الخبر :

ولاعتماد مواقع التواصل علينا كمصدر أساسي ودائم للمعلومات أصبح الجميع يُولّون اهتمامًا خاصًا بكيفية صناعة الخبر وإنشاء المحتوى لجذب أكبر عدد ممكن من الأشخاص والمتابعين، فالصحافة الرقمية تصارع الآن أكثر من تلك الأيام التي ازدهرت فيها الصحافة الورقية وذلك في سبيل أن تحفظ وجودها كما كانت، خاصة في وسط عصرنا الحديث حيث سهولة صناعة الخبر وكتابة المحتوى وسرد القصة واستقطاب الجماهير من قبل بعضهم البعض.

يقول أليس أنتوم في كتابه الصحافة الرقمية : “أصبح الصحفي متخمًا بالمعلومات عن كل شيء وفي كل حين ..فالصحفي المُبحر بين أمواج المعلومات بات ينتقي ويتقاسم الخبر والإشاعة الحقيقي منها والمُختلق ..الأساسي منها والثانوي..بحسب احتياجات الحضور.. و يتراجع الآن الاعتماد على الوسائط التقليدية ” المنتجون والموزعون” لصالح الاعتماد المباشر على الوسيط : يتحول المواطن العادي إلى صحفي بمجرّد أن يجد نفسه في قلب حدث ما، . فإبمكانه تغطيته بواسطة هاتفه المحمول ، وأصبح الفنان بدوره قادرًا على استمالة آلاف المبحرين في الإنترنت ، وهكذا ستظهر مرحلة جديدة نكون فيها نحن أنفسنا وسائط ، فنحن لا نمتلك المعلومة فحسب بل نحن بالإضافة إلى ذلك من ينقلها وينشرها بطريقة فعالة وسريعة غير مكلفة “

وتكتب إلزا غودار في كتابها أنا أوسيلفي إذن أنا موجود “يوجد الإنسان المرتبط دائما من خلال محموله وحاسوبه بمجموع الشاشات في قلب شبكة تؤثر امتداداتها في كلّ ما يصدر عنه في حياته اليومية.. ليتأكد لنا استلاب الإنسان تجاه هذا الموضوع..فمن حقّنا الاعتقاد أننا دخلنا الآن مع الحاسوب الواسع الانتشار في لحظة ثالثة – بعد لحظة السينما ولحظة التلفزيون –  إنها المباشرية والتفاعلية والاستعداد للقيام بكل شيء عبر النقر : الاشتغال واللعب في الشاشة والتواصل عبر الشاشة وتقصي الأخبار عبرها أيضا .. إن ذاك الإنسان العرضي المتصل باستمرار موجود بفضل الشاشات”

و إذا نظرنا لكيفية صناعة المحتوى الرائج ” التريند ” على مواقع التواصل الاجتماعي، فسنجد أنَّه دائمًا ما توجد وتيرة أو نسق واحد تسير عليه الأمور، فالبداية دائمًا تكون من صفحات الصحافة الرقمية بخبرٍ من الواقع المعيشي تنشره على إحدى صفحاتها ذات الجماهيرية الكبيرة عددًا. ثم تشرع صفحات ” الساركازم ” وغيرها من صفحات صناعة المحتوى في استخدام إطاراتها الساخرة الجاهزة المستمدًة من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية ومن مواقف ساخرة سابقة يتم تزويدها بالجديد باستمرار للتعليق على ذلك الخبر سواء بالسخرية أو النقد أو التأييد ليصل الأمر في النهاية إلى المستخدم الفردي سواء كان أحد الفاعلين المشهورين على مواقع التواصل أو مستخدم اعتيادي نمطي .

إذا ما بين الصحافة الرقمية، وما بين صناع المحتوى، وما بين روّاد المنصات تُتبادل الأدوار في عشوائية لصناعة الحدث. و بدلًا من أن يقتصر الأمر على التسلسل السابق، فيمكن أن تُفتَتح القصة بحدث أو منشور عشوائي من مستخدمٍ فردي لتجذب انتباه صناع المحتوى والصحافة الرقمية والعكس صحيح، وهكذا دواليك في عمليات تبادلية بين عناصر المثلث الثلاثة.

إذًا في ظل هوس الصحافة الرقمية في اجتذاب أكبر عدد جماهيري لمنصاتها، وحرص صناع المحتوى على توطيد صناعتهم، وتكالب المستخدم الفردي على الاستهلاك المتتالي الأبدي ،أين يكمن الخلاص والفكاك من حلقة التعذيب الدائرية تلك؟.

إنَّ المنشورات الساخرة، والأفكار، و” المُيّمز” والفيديوهات والمحتوى الرقمي، لم يعد يقتصر  خطر كل هذه الأشياء على كونها تمثّٓل جرعة زائدة ضارة من “الدوبامين” مثلها مثل المواد المخدّرة أو  المواد الإباحية، وإنَّما أصبح خطرها يتجسَّد في كونها محتوى أبدي متجدًِد لا ينضب يمكن استهلاكه على مدار اليوم بأكمله طيلة الحياة.

وعندما يلقي عليك زميلك نكتة ما أو قصة، أو عندما تقرأ رواية، أو تشاهد فيلما فأنتَ هنا محكومٌ بوقتٍ محدَّدٍ ومقدار معين من المتعة يمكنك أن تستشعر لذّته بالفعل وتشعر في محدوديته بالأبدية، أما أبدية المنشورات فهي أبدية غير واعية، هي كالموت فليس المهم ما تستهلكه في تلك اللحظة بل ما سوف تستهلكه في اللحظة بعدها. وفي استمرارية الاستهلاك وجلب مزيد من متعةٍ لا يكفيك الوقت لتستشعرها حقًا فلقد “تغيّر كلّ شيء في حياة إنسان القرن الواحد والعشرين .. لم يعد الناس يعيشون ضمن هذه الثورة باعتبارهم. كينونة مستقلّة تتغذى من القيم وتنتشي بكل مظاهر العزة والكرامة والاستقلالية في القرار والعواطف .. إننا نحيا الزمن باعتباره لحظة أبدية أو ما يطلق عليه ” الحضوريّة ” وهي صفة جديدة لزمن تخلّى فيه الإنسان عن المستقبل والماضي بكل الحنين والأمل فيهما ..لكي ينغمس في حاضر لا أفق له سوى نفسه” .. الإنسان العاري : الدكتاتورية الخفية الرقمية

أرض الأحلام والفرص المجانية

لماذا يطمئن الإنسان إلى فكرة إمكانية تواصله مع هذا الكم اللانهائي من البشر؟ لماذا هو دائم الاستعداد لأن يرى أفكارًا وصورًا ولحظات عائلية وأوقات سعادة وشقاء لعدد كبير من الناس لا يعرفهم، ولا تربطه بهم أي علاقة واقعية ممكنة؟ ولماذا يطمئن دائما لفكرة أن يعرض هو لحظات حياته وتفاصيل يومه لأشخاص لم يرَهم على أرض الواقع لمرة في حياته؟

ولماذا قد يشعر بالغضب من آراء ذاك، أو أن يحتدم في نقاش ويتذمَّر، ويبدي كرهه ورفضه وعدم موافقته لذاك، أو يضيع ساعةً واحدة من يومه ليبدي بعض الإعجابات حينًا، وبعض السخط أحيانًا لهؤلاء وهؤلاء من الروّاد؟

ما الدافع وما القيمة الفعلية التي تدفع الإنسان لأن يضيع معظم حياته لاعتناق أفكار أو تداول أفكار أو مهاجمة أفكار على مواقع التواصل الاجتماعي – الأمر الذي يشبه مجرد التفكير داخل العقل – دون أن يمارس إرادته الفاعلة في الحياة الواقعية، ودون أن يحتفظ بأفكاره لنفسه ولصالح خدمة فلسفته الحياتية؟

إنَّه الهوس بالفرص الحياتية التي يمكن أن تتيحها لنا مواقع التواصل كما تخبرنا سوزان غرينفيلد في كتابها تغيّر العقل: كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا:

“فالحياة عبر الإنترنت تتيح بسهولة وسائل غير مسبوقة لنيل مكانة متميزة ولأول مرة لا تقاس هذه المكانة بناء على الممتلكات أو المواهب أو الوظيفة .. فلم تعد المكانة تقاس بقدرات المرء وإنجازاته بل بمدى جاذبيته وعدد من يمكنه اجتذابهم من متابعين وأصدقاء .. أضف إلى ذلك الفرصة غير المسبوقة لإخفاء الذات الحقيقية .. وكذلك زيادة احتمالات حرمان المرء من أن يشعر بالراحة في علاقات شخصية جادة فقد أصبح الحلّ البديل هو اللّوذ إلى عالم الشاشة الآمن سعيًا وراء الاستحسان .. من دون فعل شيء يذكر لاستحقاقه ..بل من دون الوجود بالطريقة نفسها التي يوجد بها الناس في العالم الحقيقي.. أما الحاجة الإنسانية الثانية فتتمثل في أن يكون المرء مقبولًا باعتباره فردًا في القبيلة ؛ أن يكون جزءًا صغيرًا ضمن هوية جماعية أكبر”.

وهكذا يقول لنا أحمد حسن مشرف في كتابه وهم الإنجاز أنَّ “قراءة كتاب متوسط الحجم قد يستغرق العديد من الأيام ؛ وكتابة رواية أو العمل على خطة مشروع أو رسم لوحة ما ؛ قد تستغرق عدة أشهر حتى تخرج إلى الجمهور وبعدها ربما وأقول ربما سيأتينا بعض الإطراء مع إحساس بإنجاز عمل حقيقي..والذي لا يكفي كوجبة مرضية لنا في كثير من الحالات دون وجود الإطراءات المستمرة كمقبّلات لها..أما نشر صورة أو صورتين “سيلفي” أو صورة بصحبة كتاب أو أخرى بوضعية – صورني وأنا غير منتبه- على قنوات التواصل سرعان ما تأتي بالمردود الإيجابي ومديح الآخرين وتفاعلهم ..ففي نفس الشهر الذي يحتاج منّا العمل على مشروع مهم ونحن غير ظاهرين للعلن ..يمكننا إرسال ثلاثين صورة بشكل يومي لنحصل من خلالها على مردودات نفسية رائعة من قبل الآخرين..وهنا تتطور حالة الإدمان على هذه الأحاسيس”

ليطرح لنا في الأخير تساؤله :- “هل يمكن للإنسان العادي تحمّل هذا الوقت المُستنزف في العمل الحقيقي – غير مضمون النتائج – مقابل وجود مصدر للحصول على إشباعات نفسية صغيرة ومتواصلة من خلال قنوات التواصل الاجتماعي أو خلال إخبار الآخرين بأي أمر غير مهم؟”

الطاغية الأعظم

لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرّد أداة تقنية  تعبث بعقولنا وتسبب لنا الأزمات الحياتية وحسب، بل نصّبت نفسها معبودًا نهائيًا ومطلقًا على أهل الأرض جميعهم، فأصبحت ديانتها هي الأكثر اعتناقا بين كل البشر باختلاف معتقداتهم، وتفوَّقت على كلّ الرؤى الأورويلية – للأخ الأكبر- والهكسلية – للعالم الجديد – في حيازة أرواح البشر كلهم واستعبادهم جميعًا بتسليمٍ تام وبلا مقدرة – أو رغبة- على التمرّد أو الفكاك من أسرها، فجميع مآل الإنسان وأفكاره ومنجزاته وحيواته المختلفة أصبحت تصبّ في بوتقة واحدة تحت حكم مواقع التواصل.

 

هل يمكنك أن تذكر لي من فضلك أي فكرة أو خصيصة استطاعت أن تحفظ وجودها من النسخ على مواقع التواصل؟ فكل شيء يحدث في حياتنا يتم تداوله بواسطتها، إنه لمن المثير للسخرية أنه حتى في كفاحنا ورفضنا وسخطنا على مواقع التواصل الاجتماعي يتم كل ذلك من خلال تلك المواقع “لم ينتبه المثقفون الذي كانوا يناضلون ضد إيديولوجيات واضحة المعالم ..إلى ما كان يُخبئ لهم هم المدعون إلى لعب دور الحارس لأنهم كانوا منغمسين في هذه الثورة التكنولوجية أكثر ممّا كانوا منبهرين بها” . الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية الرقمية

فنقاشات الإنسان وأفكاره وإيمانه ودينه ورفاهيته ومنجزاته العصرية وحياته وبيئته، كلّها أشياء محفوظة في سجل وقلب مواقع التواصل ولا هدف لها سوى إنعاش ذلك القلب باستمرار. لقد أصبح الواقع الافتراضي هو الكون.. هو الحياة.. هو المشهد الكبير والصورة الكلية الجامعة لكلّ الأشياء والمشاهد. وقد أصبحت حياتنا وواقعنا هو الشيء الافتراضي الذي يتوجَّب عليه أن يخدم تلك المواقع ويغذيها باستمرار.

فهل إلى خروج من سبيل؟

لا حلّ لذلك الورم الخبيث المستشري بيننا سوى باستئصاله تمامًا، ولا نجاة لنا سوى بانتحار جماعيّ لحياتنا الافتراضية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فيما تبقى من حياتنا، ولكن لاستحالة ذلك الحلّ لخبث الورم وتأصُّله في حياتنا وفي جميع مجالاتها كما تقول ماري آيكن في كتابها: التأثير السيبراني : كيف يغير الإنترنت سلوك البشر :-

“لن يختفي الإنترنت من حياتنا .. إننا ننتقل إلى مرحلة ليس لنا فيها أي اختيار سوى استعمال الإنترنت ..ولذلك يمكن أن يكون التحدي الذي يواجهنا تحديًّا يتعلّق بالتطور ..بدلًا من الكلام عن الإدمان يمكننا مناقشة التكيّف …إذا كانت التكنولوجيا من الأشياء التي نحتاج إليها وهي جوهريّة وضروريّة لبقائنا وديمومة تطورنا عندئذٍ فنحن نحتاج لأن نتعلم كيف نتعايش معها وفقا لمعاييرنا الخاصة”

لذلك كل ما يمكن أن أقدِّمه لك هو بعض النصائح الراديكالية في كيفيّة استعمال مواقع التواصل لتقلل بقدر استطاعتك من أضرارها:

1- لا تعطِ لتلك المواقع وقتا أكبر على حساب عملك أو موهبتك أو هدوئك النفسي.. إن الوقت الذي تقضيه لا تفعل به شيئًا لهوَ أفضل من تصفّح مواقع التواصل لساعة أو اثنين .. سيندم كلّ من حدّق في شاشة هاتفه بدلًا من أن يحدّق في سقف غرفته لبعض من الوقت.

2- لستَ في حاجة إلى أن تناقش أحدًا على مواقع التواصل أو تجادله أو تضيّع دقائق من عمرك لإقناعه بما تعتنق .. أفكارك هي ملكيّة فرديّة خاصة ولا وسيلة لنصرتها سوى بالحرص على أن تعمل بها في حياتك وتكون ضمن مبادئك.. بل احرصْ على أن تجادل بأفكارك من يعيشون في بيئتك وحولك سواء كانوا من أسرتك أو أصدقائك في العمل أو غيرهم ممن يتصلون بحياتك مباشرة.

3- أنت لا تعرف كل هؤلاء البشر لتكنّ لهم الكراهيّة أو تتجاوز في حقهم أو تثق بهم ثقة مطلقة.. إنهم أناس مثل هؤلاء الّذين تراهم في الشوارع والطرقات .. لا يمكن أن تتعامل مع هذا الكم كلّه من البشر ولا يمكن أن تتظاهر بأنهم أصدقاء محبّون سيتقبلون ما تقوله لهم عوضًا عن أنك لستَ في حاجة إلى أن تقول لهم شيئًا من الأصل.

4- إن مشاهدة فيلم ساحر أو قراءة رواية ممتعة أو جلسة عائلية دافئة أعظم شعورًا من مئات الطرائف الساخرة والنوادر التي يمكن أن تحظى بها دومًا على تلك المواقع بلا انقطاع.

5 – إذا كنت تستعمل حسابك لأغراض تجارية حاول أن تجد من يدير لك الصفحة لتتفرغ لعملك الحقيقي .. أمّا إذا كنت تديره لأغراض ترفيهية فصدّقني أنت لستَ في حاجة إلى حساب من الأصل.

6 – استخدم تطبيق ” الواتس آب ” أو غيره من تطبيقات التواصل النصية للتواصل مع أحبائك وأصدقائك بصورة صحية.

خاتمة

في رواية آلة الزمن لكاتب الخيال العلمي هربرت جورج ويلز يسافر بطل الرواية إلى حقبة زمنية تتدمر فيها الحضارة بعد أن بلغت شدة تقدّمها وازدهارها لنرى انقسام البشر فيها لطائفتين..طائفة منهما ينعدم فيها الصراع لتقتصر حياتها على الرفاهية البسيطة والتلذذ والاستمتاع بصورة بدائية فقط لا غير.

في زمن كهذا وفي حياة شبيهة بذلك تريدنا مواقع التواصل أن تكون حياتنا الواقعية منعدمة خالية من العمل والبناء والصراع والفعالية، مجرّد أجساد متكالبة على استهلاك الصور والفيديوهات الساخرة يوميًا، خاملين ضعفاء لا نمتلك في حياتنا شيئًا لنفعله ولا ضرورة لقولٍ أو فعلٍ حقيقي، فحياتنا عبارة عن أطلال وظلال وهمية، ولا حقيقة فيها سوى استمرار وجودنا البشري باستمرارية وجود مواقع التواصل الاجتماعي.

المصادر:

  • “الإنسان العاري: الدكتاتورية الخفية الرقمية” . مارك دوغان و كريستوف لابي
  • الإنسان المستلب وآفاق تحرره . إريك فروم
  • التأثير السيبراني ماري آيكن
  • التشتت:كيف تركز في فوضى العالم الرقمي . فرانسيس بووث
  • الصحافة الرقمية . أليس أنتوم
  • أنا أوسيلفي إذن أنا موجود.إلزا غودار
  • تغير العقل:كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا.سوزان غرينفيلد
  • الساعة الخامسة والعشرون.قسطنطين جيورجيو
  • قلق المعرفة :إشكالات فكرية وثقافية.سعد البازعي
  • وهم الإنجاز.أحمد حسن مشرف

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أدهم حمدي

تدقيق لغوي: علا ايوب

اترك تعليقا