رِوَايَة صَانِع المَلائِكَة: المَسِيح المُتمرِّد ورُؤْيَة جديدة للإلَه

والآن لم يعد هناك أي شيءٍ أو أي إنسانٍ قادر على أن يقف في طريقك.

لطالما كان الإنسان كائنًا ضعيفًا وهَشًا، على الرغم مما هو فيه من السُّلطة الأرضيَّة والاستبداد الفِكْريّ والعِناد التنافُسيّ الذي جعله أرقى كائنًا في مملكة الحيوان بأسرها، فكلما زاد استعلاؤه في الأرض واستكانت غرائزه وأمانيه إلى الشّبَع والرضا والثِّقَة في عصرها ظنًا منها أن عصرها هو التجلية المطلقة للسيطرة والاستحواذ على مقاليد المكان والزمان،أخذته لطمة الشَّرّ والجهل والضَّعْف والدمار والموت وغضب الرَّبّ وفوضى الطبيعة، فذكَّرته بمدى هوانه وتخاذله وكبريائه المبني على الوَهْم لا الحقيقة، علَّه يفهم أن الحقيقة الوحيدة في حياته تلك هى صراعه الأبدي مع الحياة، وأنه إنما خُلِقَ “ليفعل”؛ خُلِقَ لأداء المُهمَّات وليستمر في الحركة وليس ليجلس على كرسيٍّ عاجيٍّ متعجبًا من الحياة أو ساخطًا عليها.

و”فيكتور هوب” بطل رِوَايَة صَانِع المَلائِكَة، يُعيد تجسيد النظريَّة الأخلاقيَّة للدِّين وصراعه مع العِلْم بل وصراع الدِّين مع الدِّين نفسه؛ كيف أن كل مفاهيمه كلها تُستَمَد من الإنسان نفسه، وبالتالي إذا كنا قد خُلِقنا ليتم تعريف المفهوم الدِّينيّ بواسطتنا وليدركه الإنسان مع الرَّبّ، فبالتالي فإن الله قد منحنا سُلْطة مُشابهة له، وبالتالي فنحن قد خَلَقْنا الرَّبّ –بمفهومه الفِكْريّ والشُعوريّ والإدراكي– كما خلقنا الرَّبّ بالمفهوم الوجوديّ الإنشائيّ، وهو ما يتضِّح من خلال الحوار الآتي بين دكتور “ريكس” و “هوب”:

ريكس: ولكن هل تؤمن بالرَّبّ؟                             

هوب: باعتباره خَالِقًا كل شيءٍ حي..أجل..أؤمن به.           

ريكس: ومن خَلَق الرَّبّ إذن؟                            

إعلان

هوب: الإنسان.                                              

نظرة كُليَّة للأحداث

يعود دكتور فيكتور هوب إلى مسقط رأسه “قرية فولفهايم” فجأة مع أطفاله التوءم الثلاثة المصابين بتشوُّهٍ خِلْقِيٍّ، مُثيرًا بتلك العودة عاصفة من الأسئلة بين أهل القرية حول سبب تلك العودة، وذلك الظهور المفاجئ، وأطفاله الثلاثة المثيرين للريبة الممزوجة بالخوف جراء هيئتهم وسلوكهم، وحرص دكتور هوب على عزلهم عن الجميع، ليصبحوا بذلك حديث المدينة كلها.

لتتفرَّع الرواية في منتصفها بعد ذلك إلى مسارين. أحدهما يحكي لنا تاريخ حياة دكتور”هوب” الذي وُلِدَ مُصابًا بتشوُّهٍ خِلْقِيٍّ مُمثَّلًا في شق في شفته أثَّر على شكله الجماليّ وقدرته على النُّطْق السليم، الأمر الذي دفع والديه ليتخلوا عنه من خلال القسيس –كايزرجربر– الذي أقنعهما بأن ابنهما يسكنه الشيطان، ليودعاه بعد ذلك في ديرٍ للراهبات يقمن برعاية أصحاب الإعاقة والتأخُّر العقليّ، لنتتبَّع بعد ذلك حياته في الدير وإصابته بمتلازمة أسبرجر، الأمر الذي زاد من ترسيخ فِكْرة بلادته العقليَّة عند الجميع إلا الراهبة “مارثا” التي أخذت تكتشف قدرات فيكتور وتساعده حتى أخرجه والده دكتور “كارل هوب” مدفوعًا بشعوره بالذنب ليودعه في مدرسةٍ داخليَّةٍ بعد ذلك ليتعلَّم وتظهر قدراته العقليَّة التي أهلته ليصبح طبيبًا في عِلْم الأجنَّة.

أما المسار الثاني: فيحكي حياة دكتور هوب كطبيبٍ عبقريٍّ استطاع بتفرُّده بعد عِدَّة تجارب أن يُجري استنساخًا للثدييات، لنكتشف أن أطفاله الثلاثة ليسوا سوى نُسخًا مستنسخة عنه.

مسيح العصر الحداثيّ ينهض من المسيح المُضْطَهَد ويَثُور عليه

تتخذ رِوَايَة صَانِع المَلائِكَة من باراديم “الرَّبّ والمسيح” أرضيَّة لها، لتبرز صراع الخير والشَّرّ وضبابيَّة القِيَم التي يلتصق بها الناس بشدة دون أن يتساءلوا عن كُنْهها أو منطقها الفِكْريّ أو حتى شاعريتها.

لذلك فالرواية عندما تصنع لنا النماذج فإنها تُقدِّم لنا دكتور فيكتور هوب ذلك الطبيب المُصَاب بمتلازمة أسبرجر الذي هجره أبواه منذ صغره كمسيحٍ مُضْطَهَدٍ من الجميع، بدءًا من أُمّه، مرورًا بالقسيس والراهبات الذي يُمثِّلون الإنسان الذي نبذ المسيح، وصولً إلى والده الذي كان يُمثِّل في ذهنه “الرَّبّ”، فوالده قد تخلَّى عنه كما تخلَّى “الرَّبّ” عن “المسيح”، لذلك فإن طيلة الرواية يُركِّز هوب ذهنه على ضَعْف المسيح والكلمات التي كان يسمعها وتدل على معاناته وعلى ترك الرَّبّ له –الرَّبّ الحقيقي والرَّبّ الذي هو أبيه– كما حدث عندما خرج في إحدى رحلات المدرسة الداخليَّة التي التحق بها ليُشاهِد تمثال المسيح مصلوبًا فيقف أمامه ويجثو مُخَاطِبًا الرَّبّ– وكأنه يُخَاطِب أبيه– لماذا هجرتني؟!

وانطلاقًا من تلك المُعَاناة يبدأ فيكتور هوب صراعه الخاص مع ما يسميه “شَرّ الرَّبّ”، ومن هنا يولد المسيح الجديد وهو ليس كالمسيح المصلوب الذي يواجه الذين أنكروه وأنكروا الدِّين ورفضوا رسالته، ولكنه مسيح حداثيّ يواجه أُنَاسًا يعرفون الرَّبّ ويعرفون المسيح، لكنهم يعرفونه بصورةٍ خاطئة، وشَرّ الرَّبّ يتجسَّد في هؤلاء: أُمّه وأبيه والقَسَاوِسَة والرَّاهِبَات، ولكنهم ليسوا أشرارًا بالمعنى الإنْكَاريّ أو التجاهُليّ للإلَه كأعداء مسيح نيكوس كازانتزاكيس في “المسيح يُصْلَب من جديد”، ولكنهم أشرار بالمعنى التخاذُليّ والاستسلاميّ للإلَه، ظنًا منهم أنها مشيئته وإرادته كما يتجلَّى في أقوالهم: “هل عليّ أن أخضع لمشيئة الرَّبّ أيها الأب؟” .. “للرَّبّ ما أعطى وللرَّبّ ما أخذ”.

 وهو ما يرفضه هوب عندما يقول لتلك المرأة من قريته التي أراد أن يُعوِّضها عن ابنها الذي مات بإجراء تجربة استنساخ أخرى قائلًا: “فكري سيدة ويبر، ليس عليكي أن تخضعي لمشيئة الرَّبّ”.

من ذلك الأساس ينطلق دكتور فيكتور هوب مُدَافعًا عن منطقه خالقًا معنى المسيح الحقيقي، المسيح الرَّبّ وليس المسيح المهزوم. إن انتصاره على شَرّ الرَّبّ هو انتصار للرَّبّ؛ للجانب الخيّر منه، لذلك فهو يأخذ العِلْم كسيفٍ قاطعٍ لكل الشُّرُور التي صنعها الإلَه في العَالَم. إنه يرفض العَجْز والضَّعْف والاستسلام لقدريَّة الحياة ومعانيها، فها هو يتسلَّح بالعِلْم في مواجهة شَرّ الرَّبّ عندما يرغب في أن يصنع حيوات -طالما الرَّبّ يأخذها- ويبدأ في تجارب الاستنساخ. وها هو يقتبس عن المسيح المُضْطَهَد مع ما يتلاءم مع الحداثيّ عندما يأخذ بقول: “تهب الحياة تمامًا مثل الرَّبّ”، وعندما يتمعَّن في فِكْرة “الرَّبّ يعطي والرَّبّ يأخذ، ولكن ليس دومًا، فأحيانًا ما يتوجَّب علينا ذلك بأنفسنا”، وبذلك فهو يقوم بعملية إحلال وتجديد، إنه ينسلخ من قلب اضْطِهَاد المسيح ليعُلن مواجهته للحياة وليس استسلامه لها، وهو يرسي بذلك الدِّين الصحيح والإيمان الصحيح والمسيح الصحيح، فعندما يُنْتِج الرَّبّ الشَّرّ والقَدَر فإنه لا يريد من الإنسان أن يقبله –كما يفعل الناس وكأنهم امتداد لذلك الشَّرّ- بل أن يقاومه لتستمر “إرادة الفعل”؛ المقاومة هى الخير والعبادة وليس الاستسلام كما يظن الجميع.

“بلاغة الكلام تؤثِّر في فيكتور، فيبدو أنه يعطي للكلمات تقدير أكبر من المعلومات؛ عدم اهتمام فيكتور بالأبحاث العلميَّة لأنها عبارة عن بياناتٍ ليست بليغة، ففيها تكمُن الأهمية للمضمون وليس لجمالياَّت اللُّغَة”.

لذلك فصراع دكتور هوب ليس هو ذلك الصراع الأيقوني “العِلْم ضِدّ الدِّين”، ولكنه صراع “الدِّين كمقاومة –وهو الخير– ضِدّ الدِّين كاستسلام– وهو الشَّرّ-“. فهو لا يهتم بالعِلْم نفسه ولا يهتم بمساره التواتُري ولا تقنياته ولا أكاديميته الجامدة. لقد عمل وحيدًا دائمًا ولم يبالِ بشهرته أو بما تقوله عنه الصُّحُف والجامعات، ولم يهتم بالحصول على الفُرَص العلميَّة التي تتيح له مجدًا علميًّا، ولم يعمل حتى بصورةٍ تنظيميَّة تحتكم لقواعد البحث العِلميّ ونظامه، فهو لا يُطبِّق نُظُم البحث العِلميّ في تجاربه وهو يحصي ملاحظاته بصورةٍ عشوائيةٍ في كل مكان من غرفته وعلى أي شيءٍ يجده أمامه، وهو لا يبالي بفصله من الجامعة أو برضا العلماء وتصديقهم واحترامهم له من عدمه. ذلك العالِم العبقريّ الفوضويّ غير مأخوذٍ بالعِلْم كمعنى أو كمنهجٍ تنظيميٍّ، وإنما يتعامل معه بشاعريَّة مطلقة، وهو لا يرى سوى صورته الجماليَّة في مواجهة شَرّ الرَّبّ ومحاولة أن يكون امتدادًا للرَّبّ ذاته.

النَّظْرَة الفَلْسَفيَّة للرَّبّ وشَرّه

وكلما فهم، كلما أدرك أن صورة الرَّبّ التي يرسمها معظم الرُّهْبَان تتماشى دائمًا مع ما كتب عنه الكِتَاب المُقدَّس، ولم تكن تلك الصورة في ذهنه، وبعبارةٍ ملطَّفة للغاية، تحمل أي جانبٍ إيجابيٍّ.

إن شَرّ الرَّبّ لن يصبح شَرًّا إذا ما قاومه الإنسان، إذا ما رفض فوضى الطبيعة وسُلْطتها، إذا ما رفض الخضوع والامتثال لضعفه، إذا ما تخلَّى عن اقتناعه بأن الرَّبّ يريده عاجزًا ضعيفًا مُنتظِرًا الخلاص، إذا ما رفض دِين القَسَاوِسَة بغلظته وتمسكه بالجهل، إذا ما رفض الموت عن طريق التمسُّك بالحياة كما فعل هوب في تجارب الاستنساخ، فالرَّبّ يريده عَالِمًا مُسيطِرًا مُقاوِمًا للحياة والطبيعة وما فيهما من شَرٍّ صنعه الرَّبّ –والذي ينتفي كونه شَرًّا إذا ما قاومه الإنسان لا استسلم له، وهو بمقاومته لدِين الضَّعْف والخضوع لشَرّ الرَّبّ ينصر الرَّبّ ويمتثل لأوامره بل ويصير امتدادًا حقيقيًّا للرَّبّ على الأرض مُحقِّقًا بذلك ما أراده الرَّبّ من الإنسان من خلافة الأرض كما يقول سبحانه –عز وجل – “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ” سورة البقرة .آية 30  

 وعندما يقول هوب: “سيحاول الشَّرّ دومًا أن يُبدِّد الخير مرَّة تلو أخرى”، فهو يخوض حَرْبًا ضِدّ عدو مزدوج أو متراكب، يُحارِب شَرّ ديِن العامة والرُّهْبَان الانهزاميّ الذين يُمثِّلون شَرًّا من الرَّبّ من أجل أن يتحرَّر بعد ذلك ليُعلن حَرْبه ضِدّ شَرّ الرَّبّ –من الطبيعة والأقدار والأفعال- أي أنه سيصير مؤمنًا حقًا عندما يُحارِب شَرّ هؤلاء، فيستطيع بعدها أن يدعوهم ليحاربوا شَرّ الرَّبّ فيصبحوا بذلك أخيارًا لا أشرارًا .

“فهو الآن مؤمن بأمرٍ وحيدٍ: الرَّبّ فَعَلَ أشياءً سيئة وشريرة، ولم يفعل يسوع سوى الخير”.

  “وهكذا تيقَّن أن فعل الخير لا يقود صاحبه إلا إلى العقاب”.

“لطالما كان يفترض أن فعل الخير كفاية، وأن كل ما عليه هو تجنُّب الشَّرّ، فالشَّرّ في النهاية محاولة لتحطيم من يفعل الخير”.

“بوسعك أن تفعل كل ما تقدر عليه من خيرٍ، ولكنك في النهاية سيتوجَّب عليك أن تتحمَّل عواقب ما اقترفته من شَرٍّ”.

إن هذا التسلسل يكشف لنا البرهان التنويريّ الذي هبط على فيكتور، هو الذي نقله من مرتبة المسيح المهزوم المصلوب إلى المسيح المُتمرِّد، فاكتفائه بالخير –المشاهدة– فقط يجعله من أشرار البشر مثل القَسَاوِسَة ومن يرفضهم من الضُّعَفَاء .. أنه إذا ما رفض المقاومة فإنه يرفض الحياة ويستسلم أمام شَرّ الرَّبّ، وبالتالي يرفض الرَّبّ، بل إن قول أبيه –الرَّبّ في نظره– له:                                                                 

بوسعك أن تفعل كل ما تقدر عليه من خيرٍ، ولكنك في النهاية سيتوجَّب عليك أن تتحمَّل عواقب ما اقترفته من شَرٍّ”.

دعوة صريحة من الرَّبّ –المُتجسِّد في أبيه– لأن يقاوم ليس فقط شَرّ الرَّبّ وإنما شَرّ “فيكتور هوب” ذاته، حتى لا يصير هو بدوره ربًّا يرتكب الشُّرور ولا يُقاوِم أخطاءه ولا يُصحِّح صراعه مع الطبيعة والحياة، فيصير مُدَانًا من نفسه كما أدان العامة من الناس.

 

النهاية: تراجيديا الصَّلْب تتحوَّل إلى معركة تحرِّير

أطفال هوب يشيخون ويموتون وهم في سِنّ السادسة. لقد فشلت تجربته وها هو يخسر معركته مع الرَّبّ بسبب أخطاء تقنية أثناء تجربته الأولى في الاستنساخ. في البداية لم يكن يرتبط هوب مع أولاده بأي رابطةٍ عاطفيَّةٍ أبويَّةٍ، لقد كان جافًا معهم طوال الوقت ليس فقط بسبب متلازمة أسبرجر ولكن حتى لا يشعر بالذنب تجاههم خصوصًا وهو يراهم ينهارون كذلك فيصير بذلك مثل أبيه –الرَّبّ الشِّرير– الذي تخلَّى عن أبنائه، ولكن تلك المرَّة لأنه لم يستطع إنقاذهم، خصوصًا وأنهم ينادونه بـ “الأب”، وليس “بابا”، أي أنه في نظرهم  الرَّبّ بالفعل. إنها لُعْبَة الثُّعْبَان يلتهم ذيله نفسها –لا تنسى أن أطفال هوب مستنسخون عنه، أي أنهم يرون أباهم كما كان يرى هوب أباه، لكن هوب يدرك أن موت أطفاله هو لُعْبَة من ألعاب الرَّبّ الشِّريرة ليهزمه وليجعله يشعر بالذنب وأنه كأبيه –كالرَّبّ- “فالرَّبّ لن يتركه يتوصَّل إلى رمز الحياة دون مقاومة”.

وهوب لا يريد أن يصبح ربًا شريرًا ولا أن يصنع شَرًّا ويراه ويستسلم، بل يريد أن يصير المسيح المُتمرِّد، لذلك فإن هوب عندما يقبل أولاده فهذا ليس إلا ليحاول إنقاذهم أو أنه سيعيد تجربته متفاديًا أخطاءه تلك المرَّة. وهوب سواء بإنقاذهم أو استنساخ غيرهم إنما يحاول التخلُّص من الجزء الشرير منه –الرَّبّ– بمحاولة إعادة صنعته بكفاءةٍ –المقاومة– ليصير بذلك المسيح المُتمرِّد.

يموت أطفال هوب، لكنه يعاود التجربة مرَّة أخرى مع  إحدى نساء قريته -استمرار فعل المُقاوَمة- وبمجرَّد إنهائه لتجربته يبدأ في صناعة لوحته الملحمية لصلب مسيحه الخاص الذي صنعه، لكنه في تلك المرَّة يقتبس شاعريَّة المسيح المُضْطَهَد في موته، فعندما جرحته المرأة -التي أجرى عليها التجربة الأولى وحملت بأطفاله الثلاثة-  بعد شجارٍ معها بسبب تدهور حال أطفالها، فإنه يقتبس عن المسيح قائلًا: “فينظرون إلى الذين طعنوه”، وهو يفُكِّر:

“لم يكن يصدِّق أنه أُصيب بمثل هذا الجرح، لقد حرَّك فيه شيئًا، لكن حدث هذا بعد أن تغلَّب على الشَّرّ”.

وهو يقول لدكتور “ريكس” الذي جاء مُحاوِلًا إنقاذه من على حافة جنونه العِلميّ: “لسوف تخونني.. أنت من ستخونني”. معتبرًا إياه يهوذا الخاص به، إلا أن الفارق الوحيد بين نهايته وبين نهايته المسيح الحقيقي، هى أنه هو من سيَصلِب نفسه (سينتحر). سيتطلَّب ذلك بالطبع أن يثْقُب أطرافه قبلها حتى يستطيع صلب نفسه، لكنه وهو على وشك عرض المسيح الحقيقي للقرية كلها، ليس بوسعه أن يُفكِّر في ألمٍ أو أي شيءٍ من هذا القبيل، كل ما كان بوسعه التَّفْكِير فيه هو:

كان قد فَكَّر في خُطَّته تفكيرًا طويلًا وشاقًا. مسألة تضحيته بنفسه صارت بديهيَّة، وكذلك مسألة موته على الصليب، فلا بُدّ للشَرّ أن ينهزم، إلا أنه من اللازم التخلُّص أولًا من ضرر ذلك الشَّرّ، لا بُدّ من تطهير جميع الخطايا، لهذا فَكَّر في الانتحار، وفي نفس الوقت أن تكون نهاية حياته تلك هي الخلاص، لأجل البشريَّة، ولسوف ينهض من بين الموتى بعدها، يُبْعَث من جديدٍ، سوف يعمل على ذلك.

تدقيق لغوي: أمل فاخر

نرشح لك: قراءة في رواية أخف من الهواء لفريديريكو جانمير

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: أدهم حمدي

تدقيق لغوي: أمل فاخر

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا